متعثراً في الإمساك بالهواء اللاهث من رئتيه ، ألقَى في وجهها بيمين الطلاق البائن ثم انهار فوق كرسيه المسند إلى الجدار.
مرتعش الأنامل يعاود محاولة زند عود ثقاب يعاند قلقه ، ما تبقى في العلبة الثانية هذا اليوم ، قد لا يكفيه لليلة ساخنة .
نفث عميقا وهو يسترق نظرة جانبية لانزوائها المفاجئ على غير عادتها حين يفرغ ما في جعبته من جام الغضب على احتقارها له ، تثور'' مليكة '' غاضبة من كل كلمة يتفوه بها مملوحة برائحة الخمر ، فلا تراه إلا مستكينا يستنجد بحشر جسده بين العيال ، أكثر من مرة ، وجد في الصباح علامات تَمَكُّنِها من مواقع شتى في جسده ، لا يسألها عن اليد التي عبثت لا يدري كيف بعنقه ، يلعن الشيطان ثم يلوم نفسه على ما كان فيه من حالة السكر .
يحمل حزنه الدفين ليلقي به في بحر التناسي ، حتى الرفاق الذين واسوه في البداية بعد فقدانه لعمله ، تفرقوا شيعا بين دروب همومهم الشخصية ، شعر بدفء غريب حين استمرت حياته في الشهرين الأولين ، عادية بل أحسن ، اتفقوا على تخصيص نصيب من رواتبهم لسد ثغرات الطرد التعسفي المشؤوم ، في انتظار صدور الحكم ، فابتهجت '' مليكة '' لتأمين مصروف حاجات البيت ، سمعتها تدعو لهم إكبارا لمواقفهم ، ثم سمعتها تدعو عليهم بالويل والثبور ، حين توقف عون المساندة .
أصر على البحث لها عن أعذار تبرر عدوانيتها ضده ، قبل أن يقرر عدم رؤية وجهها إلى يوم الدين ، لكن قدميه تقودانه خطأ إلى البيت كلما أغرق في الشرب ، من كان يتصور أن '' القاعسراسي '' بتاريخه النضالي في الحزب كما في النقابة ، يمكن أن يأتي عليه يوم يخلط فيه كحول الحريق بماء الصنبور .
ارتحل للسكن مع الوالدة في دارها الموروثة أبا عن جد ، تحتمل حماقته و تستر عورته إلى الغد ، يصبح عليها بتقبيل اليدين ثم يعدها مخلا كعادته بعدم العود ، سعت جاهدة للتوسط لدى زوجته ، حاولت إقناعها بتفهم الظروف التي يجتازها بعد محنة الوجود فجأة بالشارع ، لكنها ظلت تعود خائبة تجر حسرتها مرتين ، تدعو على نفسها لكونها سعت في زواجه منها وإنجاب خمسة أفواه مشرعة للريح .
- قد كان عليه مداهنة الوقت ، وليس تمثيل دور البطل النقابي : ألالاَّ يطلقني وخلاص .
كسا الدخان المنبعث من أنفه قبل فمه دائرة المصباح ، استحضر تعجبه باستمرار كيف يسارع الدخان إلى معانقة التهاب الضوء كما تنجذب إليه الفراشات وهي سائرة إلى حتفها .
عاد للنظر إلى وضعيتها مرتكنة زاوية شبه مظلمة ، أحس بنشوة الانتصار عليها لأول مرة ، تسمع بعض تنهيداتها ممزوجة بحشرجات متقطعة ، كاد يرِِقّ لحالها بعد سماع كلمة الطلاق ، لولا أن سقطت جملة واحدة ، كل صور المهانة التي تجرع علقمها بين يديها وهي تعيره بأسياده من الرجال الذين يقدرون الحياة الزوجية ، وصفهم لها بالكلاب فزادت شماتتها به تعلو صراخاتها نبرة هازئة .
قبل خروجه ذلك الصباح ، توعدها شرّا تلقاه بعودته ، سخرت منه ، غير أنها بقيت متوجسة بينها وبين نفسها مما يمكن أن يقدم عليه ، في البداية فكرت في اجترائه على الانتحار ، لكنها حين استذكرت وعيدها بالطلاق أكثر من مرة ، تسرب إليها تخوف حاد ، إلا إهانة الطلاق ، وتملكها بالفعل فزع شديد .
قبل اكتمال دورة المزلاج ، أسرعت إلى ركن تتخفى عن ناظريه ، دلف في اتجاه المرحاض المهترئ الباب ، رغم محاولة التستر بفتح صنبور الماء مرتطما بقاع السطل الحديدي ، تجد غرغرة في البطن طريقها مع الريح إلى أذن '' مليكة '' كفحيح الثعبان ، اتجه نحوها بكل ثبات تنزلق من فيه تلك الكلمة حادة كالسيف على عنق محكوم بالإعدام ، ثم انهار فوق الكرسي المسند إلى الجدار.