. . مررت كعادتي من الشارع الكبير والرئيسي بالمدينة، مملوء كعادته بالمارة كل يسحب خطواته السريعة والبطيئة إلى حيث يرغب. فلا يوجد شارع آخر في أناقته سواه. مزين بالمصابيح والأشجار ويريح كل نفس حزينة ومهمومة. على جنبيه أحدثت بنايات عالية تليق بضخامته وأبهته. وعنه تفرعت أزقة وأحياء متعددة، صغيرة وفقيرة ومهمشة لا تراها العين إلا إذا كنت من المقيمين فيها. شارع يحمل تناقضا مروعا لكنه تحول الى واقع عادي يعيش بيننا. فصار يستهويني كثيرا ويجعلني أتيه بين ضجيجه، وأنسى متاعبي اليومية ودموعي الحارة. أحيانا أمشي بخطوات متثاقلة وأشعر بأن الشارع طويل أسكنه لوحدي. فقذفتني في يوم من الأيام التائهة، موجة حرارة غير عادية إلى ساحة غريبة عن نفسي، ليستريح جسدي على إحدى كراسيها الإسمنتية. وجدتها مكتظة بنساء يحملن آثار الوشم البعيد على أجسادهن. لم أكن أعلم بوجود هذا الكم الهائل من النساء. يأتين كل مساء، مع أطفالهن ويتركن أجسادهن تسترخي على أي شيء ويبقين حتى تودعهن الشمس بخجل ويشاهدن استيطان الليل لتلك البقاع الخاصة بهن. استحالت تلك البقعة الصغيرة إلى مجمع نسائي لا ترتاده سوى النساء المحملات والمثقلات بسلاسل المنع الطبيعية وغير الطبيعية. فخلقن مقهى بدون رخصة رسمية. أعجبني هذا التحدي اللاإرادي لكل امرأة الذي ينم عن ثورة نفسية وفكرية. أو هو نتيجة طبيعية لصمت دام زمنا طويلا. امتلأ المقهى النسائي عن آخره حتى اختلطت الأصوات ولست أدري كيف تنصت الواحدة الى الأخرى. صار لهذه المقهى مواعيد محددة، تفتح الأبواب بعد الظهر، عدد كبير منهن يلجن المكان أفواجا. نساء خارج الزمن، ملحفات بغطاء الجدات. حضورهن يكون متقطعا وعلى فترات، يتكلمن كثيرا. كلام صغير وكبير، محزن ومفرح. وعندما ينشر الليل عباءته السوداء ويعلن عن حضر تجول النساء، وكأن بالليل هو أيضا يحمل عصاه الغليظة على رؤوسهن. فيقمن صفوفا كل واحدة تتلمس طريقها بين دروب الليل. من ليست له دراية بهذا المقهى، يعتقد عندما يراهن، بأنها مظاهرة نسائية جريئة تطالب باسترجاع الحقوق المنتزعة.
اعتادت قدماي على المرور بجانب هذا المقهى. أحيانا يكون فضولا لا أفهم سببه ولا أستطيع تبريره. وهذا ما حصل لي في يوم، كنت سائرة بين صفوف النساء الجالسات فكانت المفاجأة عندما رمقت وجها أعرفه، جالسا بين الوجوه النسائية الأخرى. كأنه استنساخ متعمد من طرف الطبيعة والمجتمع. بدا لي حزينا وبئيسا ومنعزلا كأنه يحمل مآسي الدنيا كلها.
"إنها هي" قلت لنفسي. وجف قلبي، وما هي إلا لحظات حتى التحقت بها زميلة أخرى وأفسحت لها مكانا صغيرا بين الأجساد الأخرى.
"ان المقهى غريب في تركيبته. لماذا حضرت سعاد وفاطمة إلى هنا؟ " توقف دماغي عند نقطة الصفر أعدت النظر من جديد إليهما وقررت في النهاية الالتحاق بهما. سأجلس من جديد وسأحاول معرفة اللذة التي يشعرن بها جميعا رغم الحواجز الموجودة بينهن.
اقتربت منهما وفاجأتهما بسلامي المدفوع دفعا، وكانت الحيرة بادية على ملامحهما رغم الابتسامة الصغيرة المترددة. لم أكن أتصور أن كل الكراسي الإسمنتية محجوزة أو مملوءة. جلست بصعوبة وتركت الحرية لحواسي تتجول بين عالم الكلمات المختلفة والمتناثرة هنا وهناك. تحول المكان إلى محكمة على واقع الحال، من يوميات مملة وقاسية ومتعبة، ومن تحكم رجالي غير مقبول. هو لقاء بين النساء للبوح بأسرارهن الممنوعة من التداول وإرسالها في الفضاء الشاسع لكي ترتاح أجسادهن وتستعيد أرواحهن المتعة المفقودة. وأنا مأخوذة بشساعة المكان وقوة الحضور النسائي، فاجأتني زميلتي سعاد صاحبة الصوت المزعج قائلة: -لم أرك مند التحقت بعملك الجديد. ابتسمت وقلت: -إنها روتينية الحياة تأخذك حتى من نفسك. أنا هنا أمضي وقتي بين العمل والبيت والتجول أحيانا مثل اليوم.
خلال حديثي معها لاحظت أن شعرها الذي كان ينافس الليل في سواده ويسبح بكل حرية، قد غزاه الشيب تماما ونام تحت غطاء يئن من الشيخوخة وغزت ملامح وجهها انكسارات الزمن. فاستحالت لعجوز قبل الأوان. تابعت بقهقهتها المثيرة والمستفزة: - ياه، يا هند أنت كما عهدتك. ألم يغيرك الزواج.
تركت سؤالها يضيع بين الأصوات النسائية والتفت إلى زميلتي الأخرى "فاطمة" التي كانت تبدو تائهة عن حديثنا، وترمقني بين الفينة والأخرى كأنها تبحث عن شيء مفقود. امتلأت الساحة عن آخرها. كل امرأة تحمل أحقابا من اليأس والبؤس تحاول بطريقتها الخاصة أن تفرغها علها تجد مكانا آخر بين ضلوعها مازال قادرا على التحمل وتعيد ترميمه. ظلت فاطمة صامتة ومبهمة، تشاركنا ببعض الابتسامات وبعض الحركات الآلية برأسها. اصطحبتني سعاد صاحبة الصوت الجهوري من جديد إلى عالمها الصاخب والمليء بالحكايات العجائبية حتى نسيت في لحظة لماذا أنا هنا. كأنني ارتحت إلى روح المكان وتهت أنا بدوري وسط هده الأكوام البشرية الكبيرة والصغيرة. التفت إلى فاطمة الصامتة وقلت لها: - كيف حال طفلك.؟ أغمضت عينيها كأنها تبحث عمن يسعفها، وقالت بصوت غير مسموع: - إنه بخير. وسكتت من جديد. احترت في أمرها. كانت فاطمة عندما التحقت للعمل معي في نفس المؤسسة، فتاة جد طموحة ومتحررة، تتكلم كثيرا وتدلي برأيها بكل حرية. ماذا جرى لروحها حتى تنكسر هكذا وتحسب على باقي النساء المنكسرات والمثقلات بموانع الأهل والأولياء مند غابر الأزمان؟ أصبت بارتباك مفاجئ، قمت وسلمت على زميلتي. فقالت لي سعاد: - سنلتقي غدا هنا، إذا أردت الانضمام إلينا. ابتسمت وتركتهما. قمت وأنا أحاول أن أجد لي طريقا بين الأطفال المتناثرين وسط الساحة. حتى لعبهم تغزوه الفوارق الجنسية المكتسبة من أعرافنا المتوارثة عبر مئات السنين. ابتعدت عن المقهى وكلي رغبة في زيارته مرة ثانية، المقهى النسائي، عنوان كبير صار يعيش بداخلي. في ذلك اليوم، مضى الليل بهدوء ثقيل كعملاق كبير يمشي الهوينى، أرحت جسدي على سريري الذي يئن من كثرة تمددي عليه، ولم تنعم عيناي بالنوم إلا عند إشراقة أولى خيوط الفجر، محاولة الهرب من أسئلتي المتعبة. عند المساء، كنت على موعد مع المقهى النسائي، دون أن أفكر. جلست بين الجالسات أبحث عن سعاد وفاطمة، لم أجد سوى وجوها يائسة ترسل أصواتا غاضبة أو ضاحكة. باغتني صوت واهن من وراء ظهري يلقي التحية، كانت امرأة هزيلة الجسم، بعينيها ألم وصبر ورضى. بجانبها ولد وبنت، كانا ككل أطفال الدنيا يحملان طاقة خارقة للعب.
أحسست بأنها ترغب في الحديث معي. سرقتني الأصوات النسائية المتناثرة في الفضاء كأنها سجينة الحناجر منذ غابر الأزمان. عادت تكلمني بصوت خجول فقالت: يجب على الحضور باكرا لكي أجد مكانا فارغا.
قلت لها: معك حق. هل تأتين إلى هنا دائما؟ قالت بابتسامة مرتبكة: لا أجد أين أذهب حتى أرتاح من حيطان البيت. هنا أجد من يكلمني وأكلمه. هامت قليلا بنظراتها في الفضاء الواسع أمامها. حاولت اظهار استعدادي للكلام معها فقلت لها: - انتبهي لطفليك، فالشارع مليء بالسيارات. أسندت رأسها على كفها وأطلقت العنان لزفرات متتالية وقالت: - لقد أتعباني كثيرا. أحضر الى هنا لأرتاح من لغطهما المتواصل. ومن أبيهما أيضا. ازداد فضولي فسألتها: - كيف.؟ ربد وجهها قلقا وقوست حاجبيها ثم أعادت النظر إلى الفراغ. كانت لحظة صمت جعلتني أنصت لكل امرأة جالسة، هائمة. عادت تقول: - لقد تزوجت رغما عني وعشت نفس العذاب الذي ذقته في بيتنا. حاولت عدم الإنجاب حتى لا تتكرر مأساتي لكني لم أنجح. وصمتت من جديد.
"انتبه إلى أختك". صرخت بكل أصواتها الداخلية. التفتت إلي صانعة مسحة من الرضى وقالت: - سامحيني، لقد تكلمت كثيرا. ثم فاجأتني بسؤال: - هل أنت متزوجة؟ ابتسمت وقلت: - نعم. قالت ويدها لا تفارق خدها: -الرجال كلهم مثل بعض. لا يعاملونك معاملة طيبة. أجبتها كمن تدافع عن حصنها: - معك حق، ولكن ليس كل الرجال. ردت بثقة كبيرة: - كلهم يا أختي...عدلت من غطاء رأسها وذهبت مع ابنتها لتشرب. عادت الطفلة تسبق أمها الهالكة والابتسامة الحلوة تكسو كل وجهها الصغير. استغربت كيف تتحمل المرأة كل هذا الكم من المتاعب والويلات منذ أن تدرك ذاتها. همست لروحي "هل هذا قدر أم أن المجتمع قسم الأدوار إلى مالك ومملوك حتى استحال الوضع من الأشياء الطبيعية؟". نادت الأم على طفليها بعدما بدأ المقهى النسائي يخلو من زائراته، وقمنا نتبع الصفوف وكلام السيدة لم ينته. كانت أجسامنا تتمايل تحت ستار الليل الدامس وتضيئها مصابيح الشارع الطويل. التفتت إلي وقالت بحزن دفين: - يوم تزوجت يا صاحبتي يوم دفنت. إنني أصارع من أجل طفلي حتى لا تضيع حياتهما.
ودعتني معتذرة عن إزعاجي، دخلت زقاق ضيق به أبواب كثيرة، ابتلعتها ممراته المظلمة وغابت عن ناظري نسيت حتى أن أسألها عن اسمها. أكملت طريقي لوحدي أحمل ثقل الأسئلة وصعوبة الإجابة.
أصابتني لعنة المقهى النسائي، صرت أمر بجانبه كل يوم فتحدوني الرغبة في الجلوس. أجلس وأهيم مع جمال المقهى النسائي واختلاف نسائه رغم قساوته. أفرح أحيانا لكون النساء استطعن بشكل لا إرادي أن يحدثن لهن مكانا خاصا رغم كثرة الموانع والممنوعات المفتعلة، وأحزن أحيانا أخرى على هذا الواقع الذي يفرض على المرأة نظاما عبوديا فقط لكونها امرأة. كنت أتهيأ للذهاب إذ بخيال يحجب عني المرور. كانت "سعاد" ذات الصوت المزعج والهامة الطويلة، سلمت علي بابتسامتها الساكنة وقالت: -هل صرت أنت أيضا زبونة لهذا المكان أو المقهى النسائي كما تسمينه؟ ضحكت بصدق وقلت لها: - فيه راحة غريبة كنت أجهلها.
تكلمنا كثيرا والتحقت بنا "فاطمة"، كانت كعادتها صامتة وحزينة. نظرت إلي وقالت: -هل تعلمين يا هند ماذا حل بي وبسعاد؟ خيم سكون رهيب زاد من دقات قلبي، تابعت: - لقد طلقت سعاد بطفلتين وأنا بطفل.
انفطر لساني عن الكلام واحترت ماذا أقول. أنقذتني ضحكات "سعاد" المجلجلة وقالت: -لا تستغربي يا عزيزتي، الرجال صنف ذئاب، في الأول يكون حملا وديعا وفيما بعد يتحول إلى مصاص دماء.
فاطمة لم تتكلم، ملامحها يائسة، عيناها ذابلتان كأنهما من الأزمنة الغابرة، جسدها هزيل واهن كعجوز أنهت لقاءها مع الزمن. تغيرت سحنتها كثيرا. لم أدرك في السابق هذا التحول الجدري والعميق. أشفقت عليها كثيرا كدت أحضنها وأقول لها بأن تبكي حتى تبرأ من ذاك الداء الخبيث. ففي البكاء دواء للنفس العليلة. لم تحرك شفتيها قالت الخبر المفزع وعادت إلى عالمها. كسرت "سعاد" ذلك السكون المشحون وقالت: -الرجل يا أختي هند، يبحث عن المرأة الموظفة الصامتة، التي لا تفكر ولا تسأل. كنت سأقول لها بأنهم ليسوا كلهم مثل بعض. تابعت بحدة: -الرجل الذي يسأل المرأة عن مالها منذ أول لقاء ماذا تسمين هذا؟ .حاولت أن أدافع عن أفكاري قلت لها: - مسألة عادية لأنك أنت أيضا تسألينه عن إمكانيته المادية. اقتربت مني أكثر وقالت: -المرأة تسأل لكي تشعر بالأمان أما الرجل فيبحث عن الاستغلال.
ظلت "فاطمة "بعيدة عن نقاشنا كأن مصيبة الطلاق قضت على كل ما هو جميل بروحها كما تفعل النار بالهشيم.''إن
حياة المرأة بملكها ولا تنتهي بالطلاق‘. قلتها بصمت وتركت سعاد وفاطمة تعيشان لحظات صمت أخرى. كل واحدة تضع يدها على خدها وتغلق عينيها وتفتحهما ببطء. تجرأت أكثر وقلت لهما: - لقد وقع الطلاق، فلا يجب أن ترتميان في أحضان التجاعيد والبؤس، فالحياة مستمرة. نطقت "فاطمة" بقوة وقالت: -لا حياة للمطلقة في مجتمعنا. نطقت وحكمت وأسدلت الستار.
وعادت تحتمي بصمتها الحاد. صارت الشمس في الأفق البعيد تودع المقهى النسائي، فقمنا صفوفا بوجوه مختلفة وأصوات مرتفعة هنا وهناك على أمل اللقاء القادم. ودعت زميلتي وارتميت بين أحضان الليل السجي، يتقاذفني شارع تلو الآخر ورأسي يتزاحم بالأفكار. استيقظت في الصباح الباكر وما زلت متأثرة بتلك الأمسية الممزوجة بشذا الأزهار ووخز الإبر. بعد مدة، خرجت أمشي دون هدف محدد، الشوارع مملوءة عن آخرها وجوه بلهاء صامتة تتحرك بشكل آلي في اتجاه واحد. مشيت حتى آلمتني قدماي وحاولت ألا أدخل المقهى النسائي لكيلا تقتلني مرة أخرى هموم النساء الصامتات. "كم هو ثقيل الزمن على المرأة، لا تستطيع أن ترفع رأسها بخفة كالرجل". باءت محاولتي بالفشل، ودخلت المقهى بخطى مترددة وخائفة، جلست في مكان بعيد عنهن. لكن كـأن لي موعد مع القدر، جاءت إحداهن بصوت يجلجل، تتحرك بصعوبة وتلهث عند كل خطوة، جلست بجانبي والأساور الذهبية تعلو وتنزل كلما حركت يديها. يتصبب العرق من جبينها كأنها جرت أميالا، سمعتها تقول "خديجة تعالي هنا، المكان فسيح. "أقبلت خديجة ضئيلة الحجم، منكسرة، تكاد الدمعة تفر من عينيها. جلست بجانب السيدة الضخمة كأنها تحتمي منها من غضب الطبيعة والمجتمع. ظل الصوت المجلجل يتكلم ويتكلم دون أن يكل واستمرت اليدان تتحركان في الفضاء بقوة وبسرعة كأنهما في مرافعة حاسمة. وما هي إلا لحظات حتى قالت لي السيدة الضخمة بدون مقدمات: -أيعقل هذا يا لالة؟ لم أتكلم لأنني لم أفهم. سمعت صوتا غضا يعلوه الهوان والتردد كأنه آت من جسد على مشارف الموت. أثار انتباهي تدخل السيدة الضخمة العنيف وقالت: -أنت مسؤولة عن كل ما حصل لك. . . لو كنت مكانك لدافعت عن حقي بكل قواي.
قالت السيدة التي تسمى خديجة: لقد كانوا متحدين وأنا وحدي وسطهم لا حول لي ولا قوة. وما هي إلا لحظات حتى فرت الدموع من عينيها تكمل باقي الحديث الحزين.
فركت السيدة الضخمة يديها بعنف وقالت بصوت مسموع: - ماذا ستفعلين الآن بعدما أخذوا منك كل شيء؟
أخذت السيدة خديجة منديلا ومسحت عينيها كأنها تبحث عن نبراس ينير لها طريقها قالت ونظراتها لا تفارق الأرض: - أعتمد على الله وعليك. لن يرد لي حق بناتي إلا أنت. التفتت إلى السيدة الضخمة وقالت لي دون أن تنتظر مني جوابا: - طردوها من بيتها هي وبناتها بعد وفاة زوجها.
سرقتني تجمعات نسائية أخرى ، نقاش حاد وصراخ بالأيدي كأنهن لم يتكلمن منذ زمان.