مازال الليل لم يستر عورته بعد، بدأ دبيب الحياة يسري بعد ليلة طويلة من الشخير، الناس يهرولون في اتجاه "باب الرب" لاستقبال شاحنات "الهندية" القادمة من المناطق المجاورة للمدينة.
أجلس فوق كرسي خشبي صلب يكاد عظم عجيزتي أن يلامسه من فرط النحافة. يضع النادل أمامي إبريق الشاي والبيصارة ورغيف الشعير الخشن دون أن أتكلم معه. انهمكت في الأكل بنهم لعلي أتمكن من طرد دوران الرأس الذي ألم بي، وأن أنعم بهذا الهدوء الذي يستعمر المكان. إنني عشقت التلذذ بنسيم صباح هذا اليوم قبل أن أعود إلى غرفتي بالفندق لأخلد لنوم عميق ينسيني صخب موسيقى علب الليل وترهات الندامى أو لعلي أحتمي ببرودة غرفة الفندق الاصطناعية قبل أن يحرق لفح الهجير جمجمتي. أعرف بأن الناس يهربون من هذه المدينة في فصل الصيف، لكنني أحب قضاء نصف عطلتي بها خلسة وخوفا من زوجتي سليطة اللسان. أنام طيلة النهار وأستيقظ في الليل لأهيم بصفة عشوائية في دروب المدينة وحاناتها.
جلست أمامي تضع قبعتها المبرقشة ذات الأهذاب السوداء المنسدلة فوق وجهها الأبيض؛ عيناها منغرستان في صحن البيصارة بشدة، قطعت جزءا من الخبز وناولتها إياه لعلها تكون ساغبة؛ لكنها رفضت أن تشاركني الأكل. أكملت وجبة إفطاري بتلذذ حتى النهاية دون مبالاة. فجأة فاجأتني بسؤالها:
ـ أتعرف ما حاجة الإناث بالذكور؟
أجبتها وأنا أبتسم مستغربا:
ـ لكنك لا تزالين صغيرة..
ردت علي بإصرار وثقة كبيرة في النفس:
ـ هل يمكنك أن تتفضل بإجابتك دون مراوغة!
أجبتها بسرعة:
ـ لا..
قالت وهي تضرب بخفة على الطاولة رافعة شدقيها إلى الأعلى:
ـ ليكتشفن أنوثتهن من خلالهم أيها المغفل!
أردفت لها نقيض سؤالها بسرعة لأنها همت بالوقوف:
ـ وما حاجة النساء بالرجال؟
أجابتني على التو:
ـ حتى يتمكن من ممارسة سلطتهن المغتصبة عبر أجسادهن!
وضعت يدي فوق جبيني وقهقهت بصوت مرتفع وأنا مغمض العينين.. عندما أبصرت أمامي، رأيتها تتسلم النقود من زبون يجلس في الركن الآخر من المقهى، ناديتها لكن أحد المارة عاكسها لاقتناء إحدى القبعات فانصرفت إليه. انتقلت إلى مكان يوجد بين ثكنتين عسكريتين حيث يقطن هناك ثلة من الشباب المثقف الذي عرفني به الإدمان أو "البلية" كما يحلو للبعض أن يسميها؛ تعرف علي صاحبي من بعيد فقدم نحوي وناولني الكمية التي دأبت على اقتنائها بشكل سري جدا، قال لي بأن "الحنوشة" يراقبون المنطقة جيدا، لقد وصلتهم "التبركيكة" بدخول كمية مهمة ليلة البارحة؛ حاول أن تجعل زيارتك عادية إلى المكان حتى تنسل دون إثارة الشكوك حولك؛ وستصلك الكمية التي ترغب بها غدا أثناء تناولك للبيصارة بمقهى.. لكن، خذ لك هذا القدر لكي تهمد خلايا مخك!
أجبت مستغربا ونحن نسير سويا:
ـ كيف تعرف بأنني أجلس بـ..
ـ لا شك أنك تريدهم أن يمسكوا بك؟!
قال ذلك فتركني وانصرف. أردت أن ألتفت لأرى ما يدور حولي، لكنني خفت أن يكون كلامه صحيحا فأتمم ما تبقى من عطلتي السرية هذه في "البنيقة". ركنت إلى جانب جذع شجرة، اعتصرت ما تبقى في مثانتي من بول اضطرارا، أدخلت يدي إلى جيبي وأخرجت ما قدم لي إياه "البزناس"؛ وضعت الكمية بإحكام تحت أعضائي التناسلية، رميت "الموس" الذي كان بجيبي تحسبا لأي طارئ؛ استجمرت وأغلقت سلسلة سروالي وانصرفت دون التفات.
فتحت عيني أحملق في سقف الغرفة وأترقبها جيدا؛ أصبحت أحس بأن أحدا ما يراقب حركاتي وسكناتي؛ غيرت الفندق لكي أتخلص من عقدة المراقبة التي أصبحت تلازمني كما تلازم جل رفاقي.. سأندس في حي شعبي وأغير الأماكن التي كنت أرتادها باستمرار، سأغير كل شيء: الملابس، شكل الحلاقة، المقاهي..
قضيت ليلة البارحة في الفندق الجديد دون التفكير فيما سيحصل غدا.. كان مفعول "البنيقة" قويا حيث لم أدرك كيف نمت ولا كيف أدركني الصباح. دخلت الحمام فاغتسلت وحلقت لحيتي وأزلت شانبي الكث نهائيا، لبست لباسا لم أظهر به من قبل، سكبت شيئا من العطر على يدي اليسرى ثم حككتها مع اليمنى برفق ووضعت الإثنتين على وجهي، بعد ذلك أعدت نفس العملية لكن مررت بهما فوق صدري هذه المرة.. انتبهت إلى نفسي في المرآة، ابتسمت، بدا شيء من السواد يغطي أسفل أسناني. فتشت في مفكرة الهاتف عن رقم إحدى الفتيات التي صادفتها في ليلة من الليالي في إحدى العلب الليلية.. هبطت إلى المخدع الهاتفي، ركبت الرقم..
ـ آلو.. آلـ..
لم أتمم بعد النداء فإذا بي أحس ببرودة ما تندس في جيبي بخفة، تحسست ذلك فوجدت جزءا مهما من… تركت ما بيدي وخرجت بسرعة فإذا بي أراها تحمل قبعاتها وتتنقل كالفراشة بين زبون وآخر في المقهى..