اسمه أمين ، في مرحلة المراهقة من دورة حياته . جسمه نحيل كدودة القز ، وجهه رفيع دقيق اسمر كقرن الخروب ، يبرز من رأسه انف طويل حاد مدبب كالمنقار ، ساقاه رفيعان ضعيفان كعصوان من الخيزران ، حملاه إلى بوابة حديقة الحيوان الواقعة في طرف المدينة .. الدخول بتذكرة غالية الثمن ، ليس بمقدور الفقراء تحمل عبئها ، وهو في غاية الفقر أو هو الفقر ذاته .. جمهرة خفيفة على البوابة لناس ملابسها نظيفة و مرتبة بدقة كأنها ذاهبة إلى حفل موسيقي ساهر، انتقوها لتليق بمناسبة الدخول إلى حديقة مليئة بالحيوانات الضارية والأليفة و الطيور .. على البوابة يقف حارس جسمه ضخم مثل البقرة الهولندية ، عضلاته مفتولة بدقة كأنه فتلها ونسقها عضلة عضلة .. داخل و خارج الحديقة ينتشر رجال أمن لمنع الشغب و الحفاظ على حياة الزوار و الممتلكات .
حين وقعت من فم أحد الزوار قطعة حلوى تزحلق بها الحارس فوقع أرضا، استغل أمين الجلبة و تسلل من وسط الزوار ، لم يلحظه الحارس ورجال الأمن فانطلق داخل الحديقة مسرعا ككلب السلق ، لفت انتباهه القرد الذي ينعم بالموز الكثير داخل قفص حديدي كبير، يرمي الناس الموز إليه بفرح فيلتقطه بسرعة مسرورا ، و يقذفه بفمه الواسع كمن يحرز هدفا في لعبة كرة السلة.
أخذ أمين يحدق بالقرد ويحسده على هذا النعيم ، وهو متشوق لأكل الموز الذي لا يستطيع شراءه حتى بالأحلام ، تمنى أن ترمي الناس له بالموز ، أو أن يصبح مكان القرد في القفص .
اقترب أمين من القفص بمزيد من الخطوات الحافية ، حدق في القفص و نَّفذ ما جال بخاطره طوال الوقت ، أو ربما نَّّفذ هدفه من القدوم إلى حديقة الحيوان الكبيرة الواسعة .. تسلق بجسمه الصغير قفص القرد .. أخذ القرد ينظر إليه مستغربا و فرحا في الوقت نفسه ، أومأ للقرد بحركة من يده جعلته يقترب قليلا .. بسرعة مباغتة نتش قرن الموز من يد القرد و قفز للخلف قفزة كبيرة أوقعته أرضا ، و بسرعة مذهلة قشر الموزة و ازدردها قبل افتضاح أمره من قبل الحراس و رجال الأمن ، زعق القرد غاضبا .. غرق الزوار بالضحك .
لمحه الحارس و اقبل عليه مسرعا وأمسك به من تلابيبه ، ثم أخذه وسلمه للشرطة .. باشر ضابط الشرطة التوبيخ و التحقيق مع أمين .
الضابط : إذن أنت سارق يا وقح ؟
أمين : أنا لم اسرق من الزوار خشية الحرام و العقاب ، إنما سرقت الموزة من يد القرد .
الضابط : الله يخرب بيتك ، كلها سرقة يا حرامي .
أمين : لا بيت لديَّ كي تدعو لي بخرابه ، و أنا لست حراميا .
الضابط : وصلت بك دناءة النفس أن تسرق موزة من قرد ؟
أمين : هفت نفسي على الموز يا سيدي ، و أنا لم آكله منذ زمن طويل .. اقسم لك أنني لم اخطف الموزة إلا بعد تأكدي أن القرد قد أكل الكثير منه حتى خفت أن يصاب بالتخمة .
شعر الضابط بأعماق نفسه أن القضية محيرة و عويصة ، فهو متعود أن يحقق مع حرامي يسرق من إنسان ، و لا يعرف الوضع القانوني لقضية مثل هذه ، أول مرة في حياته يمر عليه قضية من هذا النوع ، و صار يشك إن كان أمين سارقا أم لا ، من وجهة النظر القانونية ، في الوقت نفسه يحس بأن خللا ما قد حدث .. مما دفعه إلى تحويل القضية لزميله الأكثر منه خبرة و دراية .
فات أمين إلى غرفة ضابط آخر اسمه حازم ، ما أن وقف أمام الضابط حتى صرخ به بصوت قوي مرعب : قف معتدلا و أغلق أزرار قميصك . فرد عليه أمين قائلا : قميصي تقطعت أزراره منذ شهر يا سيدي .. شفط الضابط شفطة عميقة من غليون بيده اليسرى .. ثم تابع الكلام .
اسمك و سنك : اسمي أمين ، أربعة عشر عاما .
الضابط : أين تسكن ؟
أمين : أحيانا في الشارع و أحيانا في المقبرة .
الضابط : لمّ سرقت موزة من القرد ؟
أمين : هذه ليست سرقة يا سيدي .
الضابط : ماذا هي إذن ؟
أمين : لا اعلم يا سيدي ، و لكن القرد أكل الكثير من الموز .. احسبه تبرع لي بها .
الضابط : و ما شأنك أنت إن كان القرد قد أكل كثيرا أم قليلا ؟
أمين : نفسي أتذوقه و لا استطيع شراءه .
الضابط : أنت خربت السياحة في البلد .. و قدمتنا بشكل قبيح أمام الأجانب ؟
أمين : أنا هنا لأن البلد من الأصل خربانة ، الجوع أكثر قبحا من السرقة يا سيدي .
الضابط : أنت تضرب الاقتصاد الوطني ؟
أمين : الفقر يضرب شعبا بأكمله . ثم أردف : أنا في حيرة يا سيدي ، إن سرقت من احد الأغنياء لا يعجبكم ، و إن خطفت طعامي من الحيوانات لا يروق لكم أيضا .. كيف أعيش في هذه الدنيا .
قال الضابط موبخا : أنت دخلت حديقة الحيوان دون تذكرة ؟ هذه جنحة تعاقب عليها.
قال أمين : الزائرون يدخلون الحديقة للاستمتاع بمشاهدة الحيوانات ، أما أنا فأستمتع بما يتبقى وراءها من طعام .. أنا لا استمتع بمشاهدة الحيوانات ، بل إني سئمت رؤيتها .
في هذه الأثناء دخل الفراش يحمل فنجان القهوة للضابط .. ما أن رأى أمين حتى عرفه وصاح قائلا للضابط : هذا الفتى صاحب أسبقيات يا سيدي ، قبل عدة شهور امسكوا به و هو يسرق اللحم من قفص الأسد . غرق الضابط في ضحكات رنانة كالصهيل حتى كاد أن يختنق بها ، اخذ يكح ثم حدق بأمين بنظرات حائرة متعجبة و أردف قائلا : كيف سرقت اللحم من قفص الأسد ؟
فقال أمين بارتباك : أخشى أن تعاقبني عليها بشدة يا سيدي ، فبدل القضية أصير بقضيتين .
فقال الضابط وهو يبتسم : لا تخف ، إن أعجبتني طريقتك فسوف أعتقك .. شعر أمين بدفقة أمان تلوح من وجه الضابط ، أحس بفطرته عجز الضابط عن الإمساك به مجرما أو مخطئا .. الضابط مزاجه رائق جدا بسبب الحشيش الذي حشا به غليونه .
فقال أمين : أقف كالتمثال قرب قفص الأسد ، انتظره حتى يشبع و يملأ بطنه باللحم ، بعد ذلك أتسلق القفص و اقفز إلى الداخل ، ثم آخذ بلملمة ما تبقى وراءه من فتافيت لحم طازج .. و لمّا اخرج اشويها على الحطب قرب المقبرة .
الضابط : ألا تخشى أن يفترسك ألأسد يا أحمق ؟
أمين : لا يا سيدي . فهو شبعان ، بل كان ينظر إلىَّ بإشفاق و رحمة .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.