كم هي طيبة وكريمة تلك السيدة؛ مدام سيمون؛ العجوز الشقراء؛ صاحبة البيت التي اكترى منها شقتها السفلية بالبدرون. منذ أن حل بفرنسا كطالب علم، وهي تعتني به كما لو كان أحد أبنائها.
لا تشبه مدام سيمون في شيء، نساء بلدته المكتئبات المتجهمات على الدوام، وجهها مشرق دائم الابتسامة والتفاؤل، فيما نساء جلدته عابسات متكلسة وجوههن. تساءل لحظتها عن السر الكامن من وراء تلك المفارقة، قبل أن تقفز إلى ذاكرته؛ اللازمة التي ظلت والدته تهمهم بها غاضبة، عقب كل مشاداة مع والده: " لا يمكن للرجل أن يشعر باكتمال رجولته، إلا حينما ينكد على زوجته ". علق على الأمر حينها قائلا: " يا لفراستك أيتها الوالدة... فقد اختزلت سيكولوجية الرجل العروبي شديدة التعقيد في جملة واحدة".
لمدام سيمون حاسة سادسة رهيبة، فهو حينما يفلس؛ تعلم هي بذلك قبل أن يعلم هو. لولا زياراتها المسائية الداعمة وما تحمله من مفاجآت، لما كان له أن يضمن بقاءه من دون أن يتحول إلى متسول. أجمل منظر في الكون يعلق بذاكرته؛ هو لمدام سيمون وهي واقفة على باب شقته، وابتسامة عذبة تعلو محياها، تحمل بين يديها صينيتها المزركشة المتخمة بالأطباق الشهية، ويتقدمها كلبها مارلي؛ ذاك السمين الغبي الكسول. كما وأن أروع سمفونية سمعها في حياته البئيسة، كانت لوقع خطواتها على الدرج المؤدي للبدرون، وهي تقترب رويدا رويدا من باب شقته، وهو الوقع الذي كان له مفعول السحر في الرفع من منسوب سعادته بقدر ما كان يقترب منه، وهو في حالة قصوى من التخشع والتضرع والدعاء، على أن تختتم تلك السمفونية الرائعة، بسماع طرق ناعم على باب شقته.
لم يسبق له أن عرف المعنى الحقيقي للسعادة ومختلف مراتبها، إلا حينما استقر به الحال ببدرون مدام سيمون، حتى أنه كتب يوما في مذكراته: " أسمى درجات السعادة هي سعادة الفيلسوف، لكن أن تكون جائعا كذئب، ومفلسا كمقامر سيء الحظ، وتسمع طرقات مدام سيمون الناعمة على باب شقتك، فلعمري تلك أسمى درجات السعادة ".
منذ أن أقام بشقة مدام سيمون، تمكنت منه مشاعر لم تكن من طبيعته المتسامحة، وأصبحت تراوده أفكار حمقاء وغريبة، وتنتابه أمنيات سخيفة ومجنونة، تزداد حدتها كلما قضى الليل وأسنانه تصطك من شدة برودة البدرون، من دون أن تكون له الشجاعة الكافية على تشغيل السخان النهم حد الجشع. ويرتفع منسوبها كلما أحس بالجوع الشديد، من دون أن تطرب أذناه بسماع سمفونية البدرون؛ فقد أضحى ـ ويا للغرابة ـ يغار غيرة عمياء شديدة من مارلي كلب مدام سيمون، حتى أنه أصبح يمقته مقتا شديدا، ويبغضه حد الكراهية؛ فكيف لكائن طفيلي كذاك، أن يحيى تلك الحياة الرغدة المترفة، من دون أن يقوم بأي مهمة غير النوم والتثاؤب؟ من أين له أن يأكل حتى الشبع ومتى شاء، من دون أن تطأ يوما أقدامه السوبر ماركت؟ أنَى له أن ينعم بالدفئ من دون أن يفكر في تكاليف السخان الفاحشة؟ من أين له كل ذلك الحظ في أن يقيم في الطابق العلوي، بينما هو قابع بالأسفل تنهشه رطوبة البدرون؟ كم تمنى في قرارة نفسه، أن يكون كلبا له حظ مارلي.
وكما سيدته؛ فقد كان لمارلي حاسته السادسة الرهيبة كذلك، وقد أخبره حدسه بما كان يكن له من مشاعر، فأصبح منذ تلك الفترة، يبادله الكره بالكره، والضغينة بالضغينة؛ فما أن كان يلاقيه حتى يكشر عن أنيابه مزمجرا. لولا حماية مدام سيمون، لما تمكن يوما من بلوغ شقته.
كان ممددا على سريره مسترخيا، وقد بلغ أسمى درجات السعادة وفق التصنيف الذي أحدثه منذ أن حل بالبدرون. كان في حالة قصوى من النشوة والانشراح، بعد أن أجهز على كل محتويات صينية مدام سيمون المزركشة، ولم يبق شاهدا على غزوته تلك، سوى عظام دجاجة متناثرة. قفزت حينها إلى ذهنه بعض مضامين درس ديني حضره يومها بمسجد المدينة. أخرجته نبرة الإمام العدائية، وهو يزمجر غاضبا في وجه المتحلقين حوله، من حالة الاسترخاء التي كان عليها. اشتغلت على الفور آلة المنطق التي بذماغه، وركبت العديد من الأسئلة: كيف كان للإمام أن يفتي بما أفتى به وهو يدعو ـ مكفهر الوجه عابس القسمات ـ إلى مقاطعة النصارى الضالين وعدم الاختلاط بهم؟ من أين له أن يتقمص دورالإله وهو يوزع صكوك الضلالة ذات اليمين وذات الشمال؟ كيف كان له أن يصنف مدام سيمون ضمن الفئة الضالة وصحيفتها تتعبئ يوميا بحسنات لا حصر لها مع كل صينية تحط بالبدرون؟ وكيف للنصارى أن يحملوا في قلوبهم الضغينة للمسلمين ومدام سيمون تحمل له كل يوم صينية مزركشة متخمة بالأطباق الشهية؟
ليلتها؛ خاصم النوم جفونه، ظل يتقلب على فراشه وكأنه نائم على موقد. فكر للحظة في الاستجابة لتعاليم الإمام المحرض و مقاطعة مدام سيمون، قفزت إلى ذهنه على الفور، العديد من السيناريوهات المفزعة :
ـ من دون حماية مدام سيمون، لاستغل ذلك اللئيم مارلي الفرصة ونكل به، بل ومنعه من بلوغ شقته بالبدرون؛
ـ لو أصرت مدام سيمون فقط على استخلاص الوجيبة الكرائية كاملة، لما كان له من خيار إلا العودة من حيث أتى؛
ـ لو حظرت عنه مدام سيمون صينيتها المزركشة، لتحول على الفور إلى متسول؛
ـ من دون تقمص مدام سيمون لدور والدته البيولوجية، والدفئ الذي تضفيه على حياته البئيسة، لأصبح الوقع النفسي للغربة مدمرا.
تخيل نفسه عائدا إلى دواره يحمل خيبته بين ضلوعه، ونظرات أهل قبيلته المنكسرة تحاصره في كل مكان. لم يكن مشروعه في أن يصبح مهندسا، مشروعا شخصيا يخصه دونهم؛ بل مشروع قبيلة بأكملها، حتى أنهم لقبوه بالمهندس، بمجرد أن علموا بورود اسمه ضمن لائحة الناجحين في مباراة ولوج كلية الهندسة، وقبل حتى أن تطأها قدماه. وكانوا جميعهم لا يفوتون فرصة، من دون أن يتباهوا به في مواجهة القبائل المجاورة.
ظل يتقلب على فراشه وكأنه نائم على موقد، يفكر في شفرة تساعده على حل تلك المعادلة شديدة التعقيد، فأن يطبق تعليمات الإمام بالحرف؛ لم يكن يعني شيئا آخر غير العودة خائبا من حيث أتى. كان على يقين تام؛ أنه ومن دون دعم مدام سيمون المادي كما النفسي، لن يكون بمقدوره مواصلة المشوار. كلما رست عيناه جهة الصينية المزركشة، ومخلفات غزوته الأخيرة، كلما تأكد له أن في الأمر سوء فهم كبير.
فجأة؛ أوحى له شيطانه بفكرة جهنمية؛ هرع إلى حاسوبه، ورقن اسم الإمام، وكما المارد خادم المصباح استجاب له على الفور؛ بأن بسط أمام عينيه سيلا من المفاجئات، أدخلته في حالة من الذهول والصدمة. صاغت على الفور آلة المنطق التي بذماغه أولى الأسئلة: كيف يمكن لإنسان يرفل في نعيم ما كان يستفيد منه الإمام من مزايا أن يكون فظا، عابسا ومحرضا؟ اكتشف وقتها كم هو قنوع وزاهد، ووحدها صينية مدام سيمون المزركشة، كانت كافية بأن ترتقي به إلى أسمى مراتب السعادة.
جاهر له المارد؛ أن علاقة تعاقدية تربط البلدية بالإمام المحرض بصفته مؤطرا دينيا، وأنه كان تبعا لذلك يستفيد من مزايا عديدة؛ فقد وُضع رهن إشارته سكن مجاني لم يكن يشبه في شيء سكنه بالبدرون، بل سكنا مستقلا، فسيحا، وبأرقى حي بالمدينة. كما كانت تُؤدى عنه فواتير الماء والكهرباء والأنترنيت، بل ـ ويا لحظه السعيد ـ حتى فاتورة التدفئة. إضافة إلى كل ما سبق؛ كان الإمام الغاضب يستفيد من تعويضات سمينة وكثيرة وبالعملة الصعبة. راوده حينها إحساس بغيرة عمياء شديدة، هو نفس الإحساس الذي يراوده كلما وقع نظره على مارلي كلب مدام سيمون.
انقشعت تدريجيا مخلفات الصدمة التي شلت تفكيره لبرهة، استرجع بعضا من قدراته على السؤال، واشتغلت مجددا آلة المنطق التي بذماغه، وركبت دفعة جديدة من الأسئلة الحارقة: كيف يمكن للإمام أن يكون مؤمنا وهو يحب لنفسه ما لا يحبه لأخيه المسلم؟ ألا يرفل في نعيم امتيازات النصارى الضالين في الوقت الذي حرَم فيه على المسلمين حتى الاختلاط بهم؟ ألا ينطبق عليه ـ والحالة هاته ـ قول جدته وهي تصف الجاحدين من أمثاله " يكلون الغلة ويسبون الملة" ؟ كيف كان له إذن أن يحثه على مقاطعة مدام سيمون وعدم الاختلاط بها؟ ألم تكن تلك دعوة صريحة لمقايضة الحب بالكراهية، والعطاء بالجحود، والرقة بالغلظة؟ ألن يكون سلوك كذاك عنوانا لأسمى درجات الخسة و الدناءة والحقارة؟
لو كان الإمام يقصد بخطابه ذاك كلاب النصارى، لما اختلف معه بالمطلق، فمارلي؛ ذاك الانتهازي الشوفيني الحقود، يحمل له بين ضلوعه غلا وضغينة، حتى أنه لا يفوت فرصة اللقاء به، من دون أن يعبر له عن كراهيته الشديدة. أما وهو يعني بدعوته تلك مدام سيمون، فقد كان من المؤكد جدا أن في الأمر سوء فهم كبير.
ظل يتقلب على فراشه وكأنه نائم على موقد، يفكر في شفرة تمكنه من حل تلك المعادلة شديدة التعقيد. فأن يطبق تعاليم الإمام المحرض بالحرف؛ لم يكن يعني شيئا آخر غير العودة خائبا من حيث اتى.
فجأة؛ وكمن صعق بمس كهربائي، نط من فراشه مندفعا وكأنما السرير رمى به، هرع مسرعا إلى حيث هاتفه الذكي، ورقن على عجل رسالة إلكترونية، ضمنها تفاصيل النازلة التي قلبت كيانه، وهو يحدث نفسه متحمسا:
" يا لغبائي...كيف لم أفكر فيه من قبل؟...هو ولا أحدا غيره...لن يحل هذه المعادلة العصية إلا فقيه الدوار سي عبد السلام، فهو المؤهل للخوض في هكذا أمور، أليس عالم دين خريج جامعة القرويين؟ ".
في انتظار رد الفقيه سي عبد السلام على النازلة، ظل يومها هائما على وجهه لا يلوي على شيء، تتقاذفه الأفكار بين الأزقة والشوارع، حتى أنه سيفوت لأول مرة حصصه الدراسية. لم تحد نبرة الإمام العدائية عن أذنيه وهو يفتي بما أفتى به. كان وقع تلك الفتوى أقسى ما يكون على نفسيته المرهفة؛ فقد أدرك أتم ما يكون الإدراك، أنها لم تكن تعني شيئا آخر غير عقاب سادي لمعدته المدللة، وأنه تبعا لذلك لن يكون بمقدوره يوما بلوغ أسمى مراتب السعادة.
أخبرته إشارة من هاتفه بورود رسالة خطية قصيرة، فتحها بلهفة من ينتظر فرجا من السماء، فحط جواب الفقيه سي عبد السلام على النازلة، والذي لم يزد شيئا عن الآية الكريمة :
" يأ ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير"
انفرجت على الفور أساريره، وانقشعت الغمة التي كادت أن تخنقه. وكمن حقن بالمنشطات، انبعثت في جسمه طاقة هائلة، وتسللت إلى نفسه مشاعر الغبطة والفرح والانشراح، حتى أنه ولأول مرة في حياته، سيبلغ أعلى درجات السعادة من دون أن يكون مصدرها صينية مدام سيمون المزركشة.
هرول مسرعا إلى حيث مسكنه. وهو في الطريق؛ عرج جهة محل لبيع الورود، اختار باقة ورد جميلة تليق بمدام سيمون. ثم توجه إلى السوبر ماركت، واقتنى لمارلي علبة لحم من الصنف الذي يحبه.
ما أن لاح له مارلي من بعيد، حتى أبطأ الخطو، وبدأ في الاستعداد للمواجهة المرتقبة. لكن مارلي وهو في الطريق إلى ملاقاته، سيبعث بالعديد من الإشارات الودية؛ لم يزمجر في وجهه كما العادة، ولم يكشر عن أنيابه، بل استقبله تلك المرة مبتهجا، وظل يحوم و ينط من حوله متزلفا، مؤرجحا بذيله في كل الاتجاهات.
خاطبه مذهولا وهو منهمك في دعك عنقه: " كم هي رهيبة حاستك السادسة يا مارلي !!!"
رمقته مدام سيمون من على شرفة نافدتها، فهرعت هي الأخرى لاستقباله بابتسامتها الودية العذبة الملتصقة بمحياها على الدوام. مكنها من باقة الورد، تلقفتها بحب وامتنان، وضمتها وإياه إلى صدرها. تسللت حينها إلى أنفه، رائحة زكية لم تكن غريبة عنه؛ فقد كانت نفس رائحة والدته وهي تعانقه.