قبل سنة الباكالوريا التحقتْ بصفّنا تلميذة جديدة ، غريبة الأطوار و مختلفة عن رفيقاتنا في الصفّ ، لقد كان مظهرها غريبا جدا ، فقد قصّت شعرها مثل الأولاد و دهنته بكريمة لمّاعة رافعة إياه إلى فوق بشكل مميّز ، أما لباسها فلم نرَ له مثيلا في السابق ، فقد كانت تلبس حذاء رياضيّا أسود وجوارب بيضاء على تنّورة تصل حتى ركبتيها ، غير أن ما يميّز وجهها الحنطي الجميل هو الفلج في سنَّيْها الأماميّتَيْن ، و ما جعلها تهيمن بروحها على الصفّ بكامله هو ابتسامتها التي لا تفارقها أبدا ، ابتسامة راضية تسحر جميع الأولاد و تشعل غيرة كل البنات ، إلى درجة تخال فيها أن تلك الابتسامة هي مزروعة على محياها بشكل أبدي ، ولذلك أطلق عليها رفاقي في الصف اسم sourire) ) باللغة الفرنسية و تعني ( ابتسامة ) ، كانت هي لا ترى في ذلك حرجًا بل تزداد ابتسامتها أريجا وبهاء يوما بعد يوم وسط غيرة زميلاتنا التي تحوّلت إلى حنق دفين ..
كانت رياح خريف ذلك العام قد عصفت بالجميع فالكل صار يسعى للتقرب منها وكانت هي في كل مرة تجلس بجانب أحد رفاقي من الأولاد و لا تجلس أبدا بجانب أيّ من التلميذات ، بل إنها حتى في حصة الرياضة حين يقسمنا الكابتن إلى فريقين كانت تريد دائما أن تلعب معنا نحن الأولاد حتى لو كان الموسم كرة قدم !
مع برد شتاء ذلك العام لم يتغيّر من شكلها إلا معطفها الرمادي القصير و لون جواربها الداكنة و قبّعة حمراء غامقة تغطي بها شعرها كاملا ، و تحت صوت المطر الذي يهطل في الخارج أشاعت أفكارها الغريبة الدفء في صفنا المملّ بنفس الوجوه المحنّطة منذ سنتيْن ، تلك المواقف التي كان يعجب بها مدرّس مادة التربية الإسلامية إذ لا تتوانى أن تصدح بها وسط غيظ زميلاتنا فهي ترى أن المرأة التونسية قد حازت على حقوق و حرية فاقت توقعاتها وهذا أدّى إلى مشاكل كثيرة يعاني منها المجتمع التونسي في عصرنا الحاضر بل إنها تواصل بلا هوادة فتصبّ جام غضبها على دعاة تحرير المرأة و خاصة الطاهر الحداد في تونس ونوال السعداوي في مصر ، وهي ترى أن أيّ فتاة لابدّ أن تعرف أوّلاً كيف تديرُ بيتًا و عائلة فتُتْقن الطبخ والغسيل والتنظيف ،بعد ذلك ستنجح في إدارة حياتها و إدارة حتى دولة بكاملها ..!! لكنّ ذلك الإعجاب يتحوّل إلى استهجان حين تفتح أستاذة اللغة الفرنسية النقاش في حصتها إذ في كثير من الأحيان تلومها مستغربة شكلها المتحرّر وأفكارها المتخلفة ..!
لقد ذُهلنا جميعًا من شخصيتها القوية و ثقافتها العالية ، أما أنا فحين جلستْ إلى جانبي أول مرة بعد حصة رياضة قالت لي :
-اسمع ...سأناديك :gaucher) كوشي ) يعني الأعسر و شرعتْ تؤكد لي أن الذين يستعملون اليد اليسرى - مثلنا نحن الاثنين- لديهم تكوين سيكولوجي مميز و مختلف و قد أُفردت لذلك دراسات معمّقة في كثير من الدول الغربية ..
و تزداد ابتسامتها اتساعا بأن تقول لي إنها جناح أيسر أكثر مهارة مني في كرة اليد وسترى بعينك في أول مباراة ...انتظرْ وسترى ...!
مع حلول الربيع توطدت علاقات " ابتسامة ( sourire ) " مع الكثيرين من خارج صفنا بل أصبحت نجمة المعهد بكامله إذ حتى المدرسين أصبحوا ينادونها " ابتسامة ( sourire ) " مما أثار غيرة الأولاد و البنات ، ففي كلّ أرجاء المعهد الثانوي أينعتْ ابتسامة راضية و أزهرت روح محبّة للحياة..!!
مع اقتراب امتحانات نهاية السنة و قد أطلّ الصيف بحرّه العنيد و ذات يوم في حصة التربية الإسلامية ، طلب منا المدرّس في نهاية درس برّ الوالدين أن نكتب فقرة بعنوان " رسالة إلى أمي "، كانت تجلس يومها إلى جانبي ، لم تكتب " ابتسامة ( sourire ) " كلمة واحدة على دفترها ، ثم قبل نهاية الوقت شرعت تكتب بعض الجمل المتناثرة ، و نظرا لإعجاب المدرّس بها طلب منها أن تكون هي أوّل من يقرأ ما كتب ، لكنها أجابته متردّدة بصوت مرتجف :
- سيدي أنا كتبت رسالة إلى أبي !
استغرب الأستاذ ما سمع فقال لها مندهشًا :
- ألا تعلمين يا ابنتي قيمة الأم في الإسلام ؟! ...ولكن أخبريني لماذا لم تكتبي لأمك ولو كلمة ؟؟
ساد الصمت ، وطال حتى أطبق على نفوسنا ...ساد الصمت ... نكست هي رأسها و غامت ابتسامتها في الخواء في حين ظلّ المدرّس يخنقها بنظراتها المستغربة ، تطلّع الكلّ إليها و لكنها ظلّت صامتة ، جامدة ثم دفنتْ وجهها في كفيْها ..... أخذ جسمُها يرتجف ...يهتزّ شيئا فشيئا.....ثمّ ينتفض ، وفي لحظة خاطفة ركضتْ إلى الباب بخطوات متعثّرة وهي تكتم نحيبها .
انطفأت " ابتسامة ( sourire ) " أسبوعا كاملا ، أظلم صفّنا وتحوّل إلى أرض قفْر لا نبات فيها ، في تلك الأيام نهشنا الجفاف والقحط وعمّ الحزن الأولاد والبنات و لكنها عادت مع بداية الأسبوع ، أتت و أجرت امتحاناتها....بوجه حنطي باهت ونظرات شاحبة و ابتسامة غير راضية ...
آخر يوم جلست إلى جانبي و بعد الانتهاء من الامتحان طلبت مني أن أرافقها إلى الخارج ، و عند الساحة الخارجية حيث يتجمّع الطلاب والحافلات طلبت مني أن ننتظر والدها الذي سيأتي ليقلّها إلى البيت ، قالت لي و هي تتحاشى النظر إليّ :
- " كوشي" يا خويا ....بلِّغْ سلامي للجميع ...لقد كنتم بمثابة إخوة لي ..و قدِّمْ لهم اعتذاري ... ما لم أقدرْ أن أقوله أمام الجميع هو أنني لا أستطيع أن أكتب رسالة لأمي ..أتعرف لماذا ؟؟ أتعرف لماذا ؟ لأن آخر مرة رأيتها فيها كانت منذ عشر سنوات .....و كان ذلك في المحكمة و إلى جانبها رجل غريب كان يمسكها في محاولة لتهدئتها ....في حين كانت هي في حالة هيجان تسبّ أبي بشتّى الكلمات البذيئة ...لم تسأل عنّي يومًا و لو على الهاتف ...قل لي لو كتبت لها ماذا سأقول ؟؟!! ...أنا لن أدخل الجامعة و سأنتقل السنة القادمة إلى المعهد الأعلى للمعلّمات ...أبي ضحّى بحياته من أجلي ، الآن وقد تقاعد و كبر في السنّ جاء دوري كي أهَبَ حياتي من أجله ...
بعد دقائق توقّفتْ سيّارة قديمة سوداء اللون ،تهلّل وجهها البريء لمرآها ، فمدّت يدها إليّ مصافحة وقالت :
- gaucher) كوشي ) لا تنس ...بلِّغْ تحياتي للجميع ......!!!
ركبتْ السيارة ، أنزلتْ الشباك ..نظرت إليّ بعينين عميقتين ثم نثرتْ ابتسامتها الرائعة ...
حيّتْني مودّعةً بإشارة من يدها !! ومضت ذكرى تائهة في عالم قذرْ !!!
كانت آخرة مرّة أرى فيها ابتسامة " راضية الحاج علي " .
خيرالدين بن الطاهر جمعة _تونس 6 -4-2023