احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.
- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.
شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.
كانت تعبر زقاقا مظلما حين تعثرت بذيل فستانها الأبيض. أمسكت يد بمعصمها. يد باردة تتعرق، بينما حر الأنفاس يدنو من رقبتها. تسارعت دقات قلبها وهي تركض في غير اتجاه ثم تدلف إلى مقهى بوراس. تتعالى الزغاريد وإيقاع الدف. يد مخضبة بالحناء تلامس بطنها المنتفخ. مهلا، ليست حناء بل دما.. دم؟ انتفضت من نومها فارتخت يد باردة.
رحل!
على حجرها تهدهد الصبي لينام، وتبحث سبل التخلص من عمه الجلف. طلبها للزواج فرفضت. راودها فتمنعت، وصاحت منذرة بفضح سلالة ابن الحرام الذي يأكل لحم أخيه ميتا.
- الولية مجنونة!
وفي مقهى بوراس أسند ادعاءه بضائقة طوقت عنق والدها بحبال الديون. إنهم مجانين! غير أنها لم تكترث. في حضنها قرة عين سيكون عزاء الحاضر، وثمرة صبرها العلقمي. لن يكون لها شريك فيه. هو ظلها وسندها، وأمنية كل أرملة صغيرة في مهب الريح!
كبر قرة العين واشتد عوده. لا يثير وساوسها إلا حرصه على أن يجالس عمه في مقهى بوراس. في النهاية هو عمه، والظفر لا يطلع من اللحم. أقنعت نفسها بأن الزمن يسدد بصيرة الغافل، ولا يقطع حبل القرابة، ليجد المرء يوما من يهيل عليه التراب، ويغفر له زلاته. بيد أن الزمن كان له رأي آخر!
تمددت على الفراش بصعوبة، بينما أسرعت الجارة لوضع جبيرة على الكاحل ولفه برباط محكم. غشت عينيها سحابة من دمع خفيف لكنها تكابر.
الولد سر أبيه، وطيفه الحاضر كلما استبد بها القلق. نظراته، وشروده المستمر كأنه يلتمس في أحلام اليقظة بابا سحريا. جل تصرفاته تشي بأنه هو! حتى نشوة الكيف سرت إليه كاللعنة. جذبته يومها من ياقة قميصه، وألقت حقيبة الظهر قبل أن تركلها:
- إلى أية هاوية يجرك عمك الجلف هذه المرة؟
-الشمال.
- ولِم؟
- سأهاجر.
- إلى أين؟
- لا يهم، إذا أردت البقاء هنا مغروزة كالوتد فهذا شأنك!
يحلفون برأس وليهم المدفون أعلى التلة، أنهم لم يروا قط أشرس منها لما داهمت المقهى. جحظت أعينهم المحمرة، وطار من الأدمغة خدر الكيف وهم يتحاشون ضربة منجل أفلت منها بأعجوبة. ركضت خلفه فتعثرت بأذيال ثوبها. شدت على الكاحل بمنديل ثم واصلت مشيتها المكابرة.
لم يرها أحد بعد ذلك، لكنهم عاينوا زجاج قلب يتحطم!