بيت صغير ضيق في مخيم جائع يسكنه خمسة أنفس .. أربعة منها آدمية وحمار . أب و زوجته و ابنه وابنته ، الأب يعمل عربجي .. حين تراه لا يمكن أن يخطر ببالك أبدا انه قدم من مكان آخر غير القبر أو من وسط كومة قمامة ، جسمه في غاية النحافة آيل للاندثار مغطى بجلد داكن خشن سوّده زمن اللجوء في مخيمات قطاع غزة وصدّعه .. عيناه غائرتان في رأسه كثقبين في كوخ سربله الدهر بالشحار.. شعره طويل كث متسخ بالغبار و السخام منكوش مثل القطن المنفوش غير مصفف ، رأسه كبيرة تنوء بحمله رقبة رفيعة مستديرة كالمسمار عروقها بارزة على الدوام و كأنها خيوط متقطعة في ثوب بال رث .. ظهره تقوس مثل مدخل قلعة قديمة حفظها الزمن من عبث الأيام و ويلاتها .. تلوح من وجهه نظرة مظلوم بائس في وجه دنيا غادرة فقدت الصدق و الطمأنينة والعدالة .
يستيقظ مع تهاليل صباح كل يوم .. يلف الوجود صمت كئيب مبين أفصح من الكلام و أعلى من الصراخ و اصدق من الكتب .. يحدق في جنبات البيت المكون من فناء ضيق و غرفتين صغيرتين ومطبخ لا طعام فيه ، لها أسقف من الأسبست المليء بالثقوب كأنه يراه للمرة الأولى في حياته ، هو ضحية لخيانة امتدت خيوطها المنسوجة بإحكام منذ الماضي البعيد الذي قذفه عنوة إلى اللجوء في لحظة غدر و غفلة إلى الحاضر المكبل بحصار مجحف و أغلال محكمة التطويق لقلوب مطحونة و نفوس مكسورة .. يحدق في حماره الضعيف بإشفاق عليه من الحصار الطويل المفروض أمريكيا .. بدا لي كأنه يقول في نفسه : حماري كان سمينا جدا و قويا مثل الفيل ، ألآن أصبح ضعيفا نحيلا مثل القط ، لو أصيب حماري بسوء لا سمح الله سأموت من الجوع و بقية أسرتي ، حماري مصدر رزقي و به أعيش ، أنا لا أتقن أي عمل آخر سوى أن أكون عربجيا لهذا الحمار الغلبان المستكين الجائع ..
يدعو لحماره : ربنا احفظه من أي سوء ، ربنا أعطه الصحة و العافية كي ينفع نفسه وينفعني .. من الطبيعي الدعاء لحماره طالما أن البعض يدعوا لمسؤول فاشل مطهم بالقصور.. الدعاء لحمار ناجح مجتهد خير من الدعاء لمسؤول فاشل كسول مهزوم موبوء .. إن السفالة تتحول إلى شمائل لمجرد تغطيتها بالفضائل الكاذبة المنافقة بغرض منفعة أو لأن صاحبها جبان رعديد . ثم يتجة نحو الخزانة الخشبية العتيقة المخلوعة المتآكلة و قد نخرها السوس و يفتح ضلفتها الوسطى وقد فاحت منها رائحة الزمن المر.. يمد يده برفق نحو صندوق خشبي صغير له قفل يخبئ مفتاحه في عبه مثلما كان يفعل والده فبدا كمن يقلده ويقتفي أثره ، يفتح الصندوق على مهل و يحدق بأوراق ملكية الأرض في قريته التي هجّر منها سنة النكبة و التي ورثها عن جده ، أوراق مجلدة بنايلون مقوى بهدف حفظ الوثائق ، هو لا يعرف القراءة والكتابة و لكنه يعرف كيف يحافظ على حقه المسلوب و يستشعر الخطر و الغدر ويلتقطهما مثل هوائي التلفاز.. يجلس على كرسي بلاستيكي له ثلاثة أرجل ، الرابعة مكسورة فوضع بدلا عنها حجر كبير و ركزه بخشبة صغيرة كي لا يتململ .. وضع رأسه بين يديه و أطرق يفكر بهذه الأوراق كأنه يخشى عليها من الضياع و الهلاك ، أو هو يحسب أن بقية أسرته لا يقدرون أهميتها وقيمتها الراسخة في وجدانه وقلبه ، و قد يكون الميل الطبيعي لتمسك الإنسان بماضيه المحروق المدفون في زاوية ما من ذاكرة تنزف بالدم متشبثة بحطام قلبه .. كثيرا ما كان يحدثهم قائلا بخشوع مهموم : حافظوا على هذه الأوراق مثلما تحافظون على أرواحكم .. كان يكرر ذلك كل يوم حتى يرضي شعورا داخليا يقتحم رغباته و يسكن حناياه . بعد أن يصلي الفجر و يتناول إفطاره المتواضع يأخذ حماره برفق ليشده إلى عربته الخشبية بين عمودين متصلين بها كمدفعين ، أحيانا يساعده ابنه في هذه المهمة التي تكسر السكون المحيط بزقزقة حادة و خشخشة رتيبة و طقطقة وانية وقعقعة هادئة.. ينطلق بهدوء إلى ساحة المخيم بانتظار أي زبون لنقل أي شيء مقابل أي أجر يسير.. يحمل وينقل كل ما يخطر و ما لا يخطر في البال من رمل و أكياس طحين وأسمنت و حجارة و ثلاجات وغسالات خربانة أو صالحة و دبش ، و هو لا يرفض نقل أي شيء طالما انه يحصل على نقود من وراء ذلك العمل الشاق .. أحيانا يعجز الحمار الضعيف عن جر الحمولة كلها إذا كانت ثقيلة عليه و غلبت قوته الواهنة و إرادته الجائعة وجسمه النحيل.. مما يضطره إلى إنزال نصف الحمل و يذهب ثم يعود وينقل النصف الآخر المتبقي .. حصل مرة أن عجز الحمار عن نقل حمولة خفيفة و كبا ، بسبب طلعة وعرة بالطريق جعلت يديه الأماميتين تتعثران فجثا على الأرض و انبطح مثل الصريع في حرب خاسرة لقائد فاشل.. أضاع العربجي المسكين يومه وهو يحاول إنهاضه كي يعيده للعمل ثانية ، كان يقول متمنيا : ليته يقوم نصف قومة لأدفعه ليعتدل و ينتصب على رجليه الأربعة الرفيعة مثل أرجل الدجاجة ، لكن الحمار أبى وتنح بعناد و بقي جاثما في مكانه ولبط .. كأنه يقول : ارحموني يا ناس ، أخذت عيناه الكبيرتان تبثان نظرات مستعطفة يائسة جائعة مرهقة مستغيثة حالمة مؤمنة تعبة ذليلة متمردة مبتهلة زنديقة عربيدة مستكينة وديعة مقهورة ثائرة كأنه الحمار الوحيد في دنيا كاسرة باغية .
ذات يوم خرج العربجي إلى العمل صباحا كعادته كل يوم .. أصابته شظايا قذيفة إسرائيلية فقتلت الحمار و أصيب هو بإصابات بليغة نقل على إثرها إلى المشفى فاقدا وعيه وراح في غيبوبة عميقة ، بترت يده و شج فخذه و فشخ رأسه.. رقد على سرير مريح أفضل من سريره الذي في بيته ، لكنه لا يدري بذلك ولا يحس .. تتصل به أنابيب مطاطية رفيعة و أجهزة تنفس و أخرى الكترونية لمراقبة دقات القلب المنهك و جسمه المحطم من الدنيا و القذيفة.. بعد أيام عاد إلى صحوة خفيفة شبه واعية ، كأن الحياة تتسرب إليه قطرة وراء قطرة .. أخذ يحدق بزوجته من حوله و أبناءه ثم أوصاهم بالمحافظة على أوراق الطابو في الصندوق الخشبي و أعطاهم المفتاح بيده المرتجفة . بدا جليا توقعه موته بين لحظة وأخرى .. وصدقت نبوءته ومات في اليوم التالي .. هي فرصة له كي يستريح من وساخة زمن طويل حافل بالفقر و القهر والذل و العذاب و الخيانة والغدر .
اجتمع أفراد أسرته للتفكير في كيفية تدبير شؤونهم و حياتهم ، أصبحوا في بحر كبير تلاطمت أمواجه الهائجة بجنون وعربدة.. اقترح الأبن و هو في المرحلة الثانوية من التعليم أن يترك المدرسة ليعمل ويعيل الأسرة اعتقادا منه أن دوره قد جاء وحانت الفرصة كي يصبح رجلا مثل أي رجل خلقه الله على وجه البسيطة.. اقترحت أخته أن تترك هي المدرسة كي تعمل و تعيل الأسرة على الرغم أنها في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية ، اعتقادا منها أن مستقبل أخوها أهم من مستقبلها و هي التي سيكون مصيرها الزواج في يوم ما و ما هي إلا ضيفة في هذا البيت البائس الفقير .. الأم مسكينة ومريضة لا تستطيع العمل وقد هدها الزمن و دهكها حتى داس على ماضيها المغلف بذكريات امتزجت مع حاضر تالف .. عدا عن ذلك هي لا تتقن أي عمل كان .
ترك الابن المدرسة و خرج إلى العمل في المدينة .. كان يقف في الشارع الرئيسي يمسك خرقة مع أوراق جرائد قديمة يلملمها و جردل ماء ، يغسل زجاج السيارات مقابل ثمن بخس قليل لكنه استطاع بعمله وجهده أن يوفر الاحتياجات الماسة للأسرة و أبعد عنها ذل التسول و مخالب الجوع و أنياب الموت .. كان رشيقا وسريع الحركة يتنقل ويقفز بجسمه الصغير بين السيارات كما يتنقل القرد و يقفز بين أغصان الأشجار في غابة كثيفة ، كان ينط مثل الجندب و يقفز قفزا كالبرغوث على بوز السيارة كي تصل يده إلى الزجاج البعيد عن مداها.. بعد عدة شهور توسع في عمله و صار يبيع كروت الموبايل أثناء مسحه للسيارات .. يعرضها على السائق كأنه يرجوه أن يشتري منه .. ثم زاد في نشاطه و أخذ يتاجر في الأجهزة الكهربائية الخربانة ويستبدلها ببعضها .. مما جعله يوفر مبلغا زهيدا من المال يكفي لبدء مشروع صغير على الرغم من حداثة سنه و قلة خبرته في معترك الحياة .
نجحت أخته في الثانوية العامة بتفوق وحصلت على منحة للدراسة في كلية الهندسة .. أما هو فقد افتتح محلا صغيرا لصيانة الدراجات الهوائية .. زاد دخله الشهري بشكل ملحوظ و كاف للعيش بكرامة و أنفة و شموخ .. مما دفعه إلى العودة إلى مقاعد الدراسة في مدرسته التي كان قد تركها بعد وفاة والده ، أصبح يداوم صباحا في المدرسة و في المساء يقوم بتصليح الدراجات الهوائية في محله الذي افتتحه .. أنهي مرحلته الثانوية و تم قبوله بكلية التجارة .. أنهت أخته دراستها و تزوجت من طبيب متخصص في الأمراض النسائية .
مرت الأيام ثقيلة ومرهقة حتى تخرج هو من كلية التجارة .. حصل على منحة لإكمال دراسة الماجستير .. كان يدرس و يعمل بغسل الأطباق في أحد المطاعم الكبيرة والشهيرة .. أخذ يرسل جزءا من الفلوس إلى أمه .. عاد إلى أرض الوطن و عمل محاضرا في إحدى الجامعات .. تقدم لخطبة فتاة تعمل محامية تعرف عليها بواسطة أخته المهندسة .. بعد شهرين تزوجها .. في ليلة الدخلة أخرج أوراق ملكية الأرض التي ورثها عن والده وقال لعروسه بجدية وحزم : حافظي على هذه الأوراق مثلما تحافظين على روحك .. ترى هل سنحافظ على الذاكرة ؟
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.