يظل السؤال النقدي المُلِح، الخاص بتراجع مكانة الشعر، مطروحا على الساحة الأدبية والثقافية، وقد يفسر ذلك، تساؤل المهتمين به، على غياب الوهج الشعري بألقه التعبيري الذي كان يشد القارئ العربي، عندما كانت القصيدة تروي ذائقته إمتاعا وتشحن نفسيته حماسا، وكانت منابر الشعر تملأ الميادين العربية.
أرجع بعض المتتبعين للشأن الثقافي سبب تراجع القصيدة عموما إلى التطورات التكنولوجية التي غزت الحياة الاجتماعية، بداية بظهور فن السينما إلى انتشار أجهزة التلفاز مرورا باكتشاف جهاز الحاسوب، ثم عالم الإنترنت. ويرى أن هذه الفنون «البصرية» تكون قد خطفت أنظار المتلقي العربي، وحولت ذوقه نحو البصريات الخاطفة، بدل السمعيات الرتيبة من أدب وشعر وغيرهما من الفنون التي تعود عليها المتلقي العربي، حتى النصف الثاني من القرن الماضي.
نؤكد بداية أن هذا الطرح ليس دقيقا، وأن التكنولوجيا الحديثة بمختلف وسائطها ما هي إلا أداة يمكن أن يُطوِّعها الإنسان حسب إرادته – لخدمة أي فن من الفنون، بما في ذلك فن الأدب، وسوف نعرض في حديثنا التالي للخدمة البصرية الجديدة التي قدمتها التكنولوجيا الرقمية لعالم الشعر بالذات.
تنبغي الإشارة إلى أن الحديث عن عالم الشعر في مواجهة التكنولوجيا الحديثة، قد يُحيلنا إلى أمرين أساسيين، الأول منهما هو معرفة كُنْه الشعر وطبيعة تركيبته كَبَوْح إنساني نفسي ووجداني. والثاني هو إمكانية التعرف على تشكيلة عناصر التكنولوجيا، ومدى تأثيرها على الحس الإنساني ومدركاته الجمالية المتفاعلة، وعند تَفهُّم تركيبة المصطلحين، ببعديهما الإنساني والعلمي، يمكن لنا أن نتصور النتيجة المتأتية من إسقاط التكنولوجيا على فن الشعر، والمحصلة الجمالية من ذلك.
لا شك أن التكنولوجيا أضافت خدمات جديدة للإنسانية، مما ضاعف في قدرات الإنسان على الإبداع الفني، خاصة بعد اكتشاف الفنون البصرية المختلفة، الأمر الذي أدى إلى اكتشاف صور وأشكال جديدة من الجمال، بل تكون قد أفرزت قيما جمالية كذلك. مع العلم بأن إسقاط هذه المفاهيم الجمالية الجديدة، وتأثيرها على الأدب والشعر بصفة خاصة، قد يؤدي بنا إلى تشعبات مختلفة، نظرا لتطور عوالم التكنولوجيا من جهة، ولثراء وتعدد مصطلحاتها الحديثة من جهة ثانية؛ التي أخذت منحى ما أصبح يسمى (التكنو- أدبي) وفي خضم ذلك يمكن أن نخرج بثلاثة مصطلحات تخص مجال دخول الشعر في العالم التكنولوجي الرقمي وهي:
01 ـ القصيدة التفاعلية. 02- القصيدة الرقمية. 03 – القصيدة الإلكترونية …
مع ملاحظة أن هناك فروقا دقيقة بين مدلول هذه المصطلحات؛ وإن كان المصطلحان الأخيران لا يختلفان كثيرا، فإن القصيدة التفاعلية قد تجاوزت الصفة الشخصية والتقليدية في تقديم النص إلى المتلقي، واعتمدت بشكل كلي على تفاعل المتلقي مع النص في استفادته المتاحة من التقنيات الحديثة؛ إذ أن هذا النوع من القصيد مرتبط بالوسائل الإلكترونية التي تُنَوِّع في أسلوب عرضها وطريقة تقديمها، تُمَيّزُها العناصر الصُّوَريَة والصَّوْتية التي تدخل في بنية النص الشعري، هذا النص الذي لا يُتابَع إلا من خلال شاشة العرض الإلكترونية.
نؤكد بأن مجال (التكنو- أدبي) قد عرفه الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، منذ أكثر من عقدين من الزمن، كما أن هناك جهودا – حتى إن كانت متأخرة تقوم بها بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة للالتحاق بالركب، ويمكن التمثيل للعالمين (العربي والغربي) بنموذجين يخص كل منهما بتجربة توظيف الشعر من بوابة الوسائط التكنولوجية الحديثة.1- «الفن هو تكنولوجيا الروح» هذه مقولة الشاعر الأمريكي روبرت كاندل، وهو أحد رواد القصيدة الرقمية، حيث أسس موقعا افتراضيا خاصا بذلك، عنوانه (دوائر الكلمة) ليِمهد الشاعر لمشروعه (القصيدة الرقمية)، الذي أطلقه منذ بداية التسعينات؛ بقوله: «كلنا يعرف أن الشعر والتكنولوجيا شيئان متوازنان لا يتقاطعان، إلا حين نتذكر أن الكتابة ليست سوى ضرب من التقنية أيضا». ويبشر كاندل بمرحلة متطورة من القصيدة الرقمية ويطلق عليها اسم «قصيدة الومضة»، وهي التي تعتمد على برنامج العروض التفاعلية، وتسعى لإيجاد بديل بصري للوزن والقافية، وهي التي تتداخل فيها الكلمة بالصورة والموسيقى لتشكل مجتمعة بديلا شعريا بصريا، يراهن فيه كاندل على الشيوع والانتشار وسرعة الوصول ويسر التناول.
02 ـ أشار بعض النقاد إلى خلو الأدب العربي من وجود القصيدة الرقمية التفاعلية، وتساءل الباحث سعيد يقطين؛ وهو أحد المتابعين لهذه العوالم: «متى تصبح برامجنا المتصلة بالتراث العربي ترابطية وإلكترونية بالمعنى الحقيقي للكلمة؟». في حين يرى بعضهم أن هناك محاولات في هذا الاتجاه، ومثلوا بالجهد الرائد للشاعر العراقي مشتاق عباس معن، صاحب المجموعة الشعرية «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»، التي أصدرها في قرص مدمج (C D). على أن الاطلاع على قصائده هذه مرتبط بالحاسوب والإنترنت، مع ضرورة التفاعل من طرف القراء حين الانتقال من نص إلى آخر، وقد وظف الشاعر في قصائده الصورة والصوت وبقية مميزات عالم الإنترنت.
يؤكد المنتصرون للرقمنة الشعرية، ردا على منتقديهم، بأن لا انتفاء للحالة العاطفية في القصيدة الإلكترونية، كما لا تؤثر التقنية سلبا على الحالة الحسية والعصبية للقصيدة، بل أن مؤثراتها الصوتية والبصرية تزيدها عمقا، مع عرض القارئ لخاصية التجربة التفاعلية دونما تدخل من طرف الشاعر.
هذه بعض الأمثلة لمحاولات إنقاذ القصيدة من تراجع مكانتها وغياب سطوتها؛ ذلك الذي نلمسه في تراجع المقروئية الأدبية عموما والشعرية على الخصوص، والأمثلة المُنقذة هنا هي مجهود تقني بحت جادت به التكنولوجيا الحديثة، أردنا أن نؤكد من خلاله على أن هذه التكنولوجيا لا يمكن أن تكون إلا عامل خدمة وتطور للقصيدة، وهي في كل الحالات لا يمكن أن تكون عاملا في تراجع مكانة الشعر، والدليل كذلك أن هناك فنونا أدبية أخرى، كالقصة والرواية، لازالت لها مكانتها، بل أصبحت كتابتها تستقبل هجرات بعض الشعراء. مما يدعونا، في الأخير، إلى ترجيح الرأي القائل بأن وراء أسباب تراجع الشعر العربي هو ما آلت إليه التركيبة الفنية للقصيدة في شكلها ومحتواها، وما جاءت به الحداثة، وما بعدها، من أخطاء أثرت سلبا على الجمالية الشعرية وألقها الفني، ليتراجع وهجها من أعين القراء، وتفقد بذلك مكانتها الأدبية والاجتماعية، ولم تعد كما كانت «ديوانا للعرب»، وما الْتِفاف المتلقين حول بقية الفنون الأخرى، والتعلق بالعوالم الافتراضية بالأساس، إلا تَحَوُّل إكراهي وعودة خائبة من ساحات الشعر، بعدما تَعرَّت القصيدة من جماليات صياغتها وسُلب منها حسن موسيقاها، ولما ركنها المحدثون إلى جانب فنون النثر…