في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018 جلس حشد من الطلاب والمهتمين بتقنيات التعليم الحديثة في إحدى قاعات جامعة إمبريال كوليدج لندن البريطانية يستمعون ويتحاورون مع نخبة من الاختصاصين في مؤتمر المرأة في التكنولوجيا، الذي أقيم بالجامعة. جلس على منصة المسرح ضيف من نيويورك وضيف آخر من لوس أنجلوس بجوار ضيفين آخرين من بريطانيا.
الضيفان الأميركيان لم يأتيا إلى لندن بل تم نقل صورة تجسيدية ثلاثية الأبعاد لكل منهما باستخدام تقنية الهولوغرام، وبفضل هذه التقنية ظهر الضيفان وكأنهما موجودان فعلياً على المسرح، ينظران إلى الجمهور ويتلقيان الأسئلة ويجيبان عليها، وصرح المسؤولون في الجامعة أن إمبريال كوليدج لندن هي الأولى عالمياً في استخدام الهولوغرام في المحاضرات.
وعقب ذلك، بدأ العديد من الجامعات العالمية تخطط لاستخدام هذه التقنية، بل بدأ بعضها باستخدامها فعلاً لتفوقها على تقنية مؤتمرات الفيديو، كونها توفر شعوراً أكبر بالحضور في المكان، وتتيح تقنية الهولوغرام ظهور أفضل العلماء والمحاضرين في العالم على مسارح وقاعات مدرسية تبعد آلاف الكيلومترات وتفاعلهم مع الجمهور دون حاجة للترحال.
وفي سبتمبر/أيلول 2020 أطلقت جامعة نوتنغهام أول وحدة تعليمية متكاملة للواقع الافتراضي والمحاكاة في المملكة المتحدة، حيث يتم تدريس طلاب الهندسة بالكامل عبر تقنية الواقع الافتراضي. يزور نحو 50 طالباً كل أسبوع جزيرة تعليمية افتراضية تسمى "نوتوبيا"، لحضور محاضرات وندوات للتعرف على استخدام الواقع الافتراضي في تصميم المنتجات والتكنولوجيا.
جاء هذا التحول في طريقة التدريس جزئياً بسبب انتشار كوفيد-19، ولكونه طريقة فعالة لتزويد الطلاب بتجربة تعليمية أكثر شمولاً. يسمح الواقع الافتراضي للطلاب بزيارة الأماكن ومشاهدة الظواهر الطبيعية المختلفة والتفاعل معها دون مغادرة الفصل الدراسي، وبإمكانه العمل أيضاً كمختبر علمي كامل.
التكنولوجيا في التعليم
استخدام التكنولوجيا في التعليم ليس بالأمر الجديد، ففي عشرينيات القرن الماضي لعب الراديو دوراً في التعليم، وفي الثلاثينيات بدأ استخدام جهاز الإسقاط العلوي (Overhead Projector) في بعض المدارس لعرض شرائح النصوص والصور.
وفي الخمسينيات دخلت سماعات الرأس وأجهزة التسجيل لمختبرات تعليم اللغات، وفي أوائل السبعينيات دخلت الحاسبات الكفية إلى الفصول الدراسية، مما سمح بإجراء حسابات رياضية سريعة.
وفي أواخر السبعينيات بدأ استخدام أشرطة الفيديو ينتشر في المدارس، وشهدت الثمانينيات انتشار الحواسيب في مختبرات المدارس ومكتباتها وإداراتها، ثم بدأت بالانتقال تدريجياً إلى الفصول الدراسية حتى أصبح الآن لكل طالب حاسوبه الخاص (مكتبي أو محمول أو لوحي) في كافة مدارس بعض البلدان المتقدمة مثل الدانمارك والسويد وفنلندا.
لوح الفصول الدراسية (السبورة)
حتى نهاية القرن الـ18، كان الطلاب في أوروبا وأميركا يستخدمون ألواحاً فردية ذات إطارات خشبية. وفي عام 1801، ظهر اللوح الأسود الكبير لأول مرة على يد جيمس بيلانز، المدير ومعلم الجغرافيا في المدرسة الثانوية القديمة في إدنبرة بإسكتلندا، ثم انتشر استخدامه تدريجياً في المدارس في معظم بلدان العالم.
استمر استخدام اللوح الأسود في الفصول الدراسية حتى ستينيات القرن الماضي حيث بدء استبداله باللوح الأخضر المقاوم للماء، كونه أكثر راحة للعين وأفضل لمسح الكتابة. وفي ثمانينيات القرن الماضي بدأ اللوح الأبيض يحل مكان اللوحين الأسود والأخضر في الفصول المدرسية تدريجياً، نظراً لاستبداله الطباشير بأقلام الحبر الجاف الذي لا يترك أي آثر للكتابة بعد مسحه.
وفي عام 1991 ظهر اللوح الأبيض التفاعلي، المتصل بالحاسوب والإنترنت والذي يتيح للمدرسين والطلاب التفاعل مع النصوص والرسوم المعروض عليه بأداة أو بالأصبع فقط، ولهذا انتشر استخدامه بسرعة في العديد من مدارس البلدان الغنية.
ومع بداية القرن الـ21 تزايد استخدام اللوح الأبيض التفاعلي متعدد اللمس في المدارس. كونه يسمح بلمس اللوح بالأصابع في عدة مناطق بآن واحد والتحكم بها (مثلاً يوجد لوح أبيض تفاعلي واحد لكل 22 طالباً في هولندا، وفق المسح الذي أجرته المفوضية الأوروبية عام 2018).
الواقع الممتد Extended reality (XR)
بدأت بعض المدارس حديثاً باستخدام الواقع الممتد (XR) الذي يضم الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) والواقع المختلط (MR)، ضمن مناهجها، لكن استخدام الواقع الافتراضي والمعزز بدأ قبل عدة سنوات.
تدعم هذه الأدوات الإبداعية المتطورة مستوى انغماس الطلاب في بيئات من المتعذر تكرارها في الفصل الدراسي، مما يسمح لهم بتجسيد مفاهيم واكتساب مهارات جديدة بطريقة ممتعة وجذابة.
ورغم أهمية استخدام هذه التقنيات الحديثة في التعليم، فإن أقل من 10% من المدارس الأميركية تستخدمها وفق المسح الذي أجرته مؤسسة "بروجكت تومورو" عام 2019، لكن انتشار وباء كوفيد-19 شجع على نمو استخدام هذه التقنيات في عملية التعلم، ومن المتوقع استمرار ذلك حتى بعد انحسار الوباء.
التعلم عن بعد والتعلم المخصص (customized)
بفضل التطور التقني، أصبح بالإمكان التسجيل في برنامج جامعي عن بعد، تحاضر فيه أفضل العقول والمختصين في العالم والحصول على الدرجات العلمية التي تلقى احتراماً وقبولاً واسعاً من رجال الأعمال.
يمكنك أن تجلس في غرفة تبعد آلاف الكيلومترات عن إحدى الجامعات المرموقة حيث توجد كاميرا فيديو في مقدمة الغرفة تستخدم للتعرف عليك من خلال تحليل وجهك، فتسجل حضورك بل وتتعرف على درجة انتباهك واستجابتك عبر تقنية تتبع حركة العين (Eye Tracking)، فربما تكون مريضاً وغير قادر على التركيز.
يتم إدخال كل هذه البيانات في ملف التعريف الخاص بك، ويتم إنشاء واجب منزلي مخصص لك، حيث يمكنك الاستعانة عبر الإنترنت بمرشد ملائم للموضوع الذي تعمل عليه.
ما وراء التقنية
لم يقتصر التطور على التقنيات بل شمل أسلوب التعليم جذرياً من خلال ترقية عملية التدريس (Teaching) إلى التعلم (learning)، والتعاون (cooperation) إلى التشارك (Collaboration)، والبحث (research) إلى الابتكار (innovation)، والخدمة (service) إلى الالتزام (engagement).
لعبت المفاهيم السابقة دوراً رئيسياً في ابتكار نظام تعليمي جديد أطلق عليه اسم التعلم القائم على الظواهر أو التعلم القائم على المشاريع (project-based learning)، وكانت فنلندا رائدة في تطبيق هذا النظام حيث بدأت بتجربته منذ الثمانينيات.
وفي عام 2016 ومع تغيير المناهج التعليمية في فنلندا أصبح مطلوباً تطبيقه في جميع المدارس الأساسية للطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و16 عاماً، إلى جانب النظام التقليدي القائم على تدريس المواد كالرياضيات والعلوم واللغة والتاريخ وغيرها.
في الطريقة الجديدة يتم تقسيم الصف إلى مجموعات حيث تتولى كل مجموعة البحث في ظاهرة مختلفة من خلال الإنترنت والاستبيانات والأدوات الإحصائية، وزيارة المراكز العلمية والمتاحف، وباستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية كالطابعات ثلاثية الأبعاد والواقع الافتراضي، ومن ثم تعرض كل مجموعة نتائج بحثها إلى الفصل الدراسي بأكمله حيث تجري مناقشتها معهم.
التعليم في البلدان العربية
لا تزال البلدان العربية متأخرة في جودة التعليم، إذ لا نجد أي جامعة عربية ضمن أفضل 100 جامعة في العالم في أي من التصنيفات العالمية الحديثة للجامعات. وتفتقر معظم البلدان العربية حتى المتقدمة نسبياً منها إلى المؤشرات الأساسية المرتبطة بالتعليم مثل عدد الطلاب لكل حاسوب، وعدد الطلاب لكل لوح أبيض تفاعلي، ونسبة المدارس التي تستخدم التقنيات الحديثة كالواقع الافتراضي أو الواقع المعزز أو الطابعات ثلاثية الأبعاد.
بل لا نجد تقارير مفصلة عن نتائج تطبيق التعليم عن بعد خلال جائحة كوفيد-19. وحتى في حالة توفر بعض المؤشرات والتقارير المرتبطة بالتعليم، نجد الوصول إليها شائكاً.
في الكلمة التقديمية لكتاب "حالة أطفال العالم" الذي أصدرته منظمة اليونيسيف عام 1999 كتب الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان "التعليم حق من حقوق الإنسان يتمتع بقدرة هائلة على التغيير. وعلى أركانه تقوم الحرية والديمقراطية والتنمية البشرية المستدامة".
هل نخشى التعليم المتقدم؟ وهل أصبح التعليم التقليدي السائد في معظم مدارس البلدان العربية "أحد العقبات الرئيسية أمام الذكاء وحرية التفكير" كما يقول برتراند راسل؟
هل يمكننا تغيير المعادلة؟ دونا شلالا وزيرة الصحة الأميركية سابقاً ورئيسة جامعة ميامي في فلوريدا حالياً تقول "لا جامعة دون حرية التعبير"، أما الشاعر الألماني فريدريك شيلر فيرى أن "الحرية لا يمكن أن تأتي إلا من خلال التعليم".