اتخذت القاهرة شهرة عالمية منذ عصر الأيوبيين والمماليك، ذلك العصر الذي كان ذروة الاحتكاك مع العالم الغربي فيما عُرف بفترة الحروب الصليبية، والتي تتابعت من بلدان أوروبا الغربية للانتقام من العرب المسلمين، واستعادة بيت المقدس، والاستيطان المستمر بها، على الجانب الآخر، رأى المسلمون في الشام ومصر -على وجه الخصوص- هذا الخطر الصليبي تهديدا وجوديا، فصرفوا فيه جهدهم وأموالهم وطاقتهم العسكرية على مدار قرنين متتاليين.
غير أن العلاقات بين الجانبين لم تكن طوال الوقت حربا ضروسا، فقد كان التعرف على الآخر وثقافته وحياته اليومية أمرا مهما لا يقل أهمية عن ميدان القتال والحرب، ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي تتابع الرحّالة والمستشرقون الأوروبيون صوب العواصم العربية الكبرى وعلى رأسها القاهرة للوقوف على أخبارها ومستجداتها وأطوارها، فهل كان مجيء هذا الكم الكبير من الرحالة والجغرافيين الأوربيين بهدف الاستمتاع بسحر الشرق والوقوف على أطواره الثقافية والاجتماعية الغريبة؟ أم كان له أهداف جاسوسية للوقوف على مواطن الضعف واستكشافها؟ وما الجديد أو الطريف الذي كتبه هؤلاء الرحالة عن مجتمع القاهرة ومصر في ذلك العصر قبل بضعة قرون؟!
كان انتصار المماليك النهائي على الصليبيين وطردهم من آخر قواعدهم العسكرية الحصينة "عكّا" في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي (1291م) ضربة قوية للنفوذ والوجود الصليبي في البلدان العربية، وكان الغرب الأوروبي في تلك الأثناء ضعيفا على المستوى الاقتصادي والعسكري، منهكا في مشكلاته الداخلية التي كانت تتصاعد، ورأى أن فكرة إرسال حملات صليبية جديدة تعد ضربا من الجنون، وأن نتائجه السلبية ستكون كارثية على الوجود الصليبي في مقابل الوجود الإسلامي.
كيف نُسقط دولة المسلمين الأقوى؟!
في تلك الأثناء، قررت البابوية إرسال مبعوثيها إلى الشرق لدراسة الأوضاع العامة بصورة دقيقة على أرض الواقع والوصول إلى حلول يُمكن تنفيذها عمليا لإضعاف القوة الإسلامية مُمثّلة في دولة المماليك وعاصمتها القاهرة حينذاك، وبالفعل بدأت التقارير تُرسل إلى روما من هؤلاء المبعوثين وكانوا من القساوسة والرهبان، فقد أرسل الراهب "فيدنزيو" والذي عاش فترة طويلة في بيت المقدس، وشهد استرداد المسلمين لمدينة صفد في فلسطين على يد السلطان ركن الدين بيبرس البندقداري سنة 1266م، وحصاره لواحدة من أكبر قلاع الصليبية في المشرق مدينة "أنطاكية"، أرسل بعد ثلاثين عاما من التجوال والترحال والوقوف على أدق تفاصيل بلدان الشرق الأدنى في الشام ومصر وإيران وأرمينية أن تحويل تجارة الهند عن البحر الأحمر ومصر إلى إيران وأرمينية، ومنع تجارة العبيد من الوصول إلى مصر من البحر الأسود لإضعاف جيشهم، سيُحدث شرخا عميقا وإضعافا قويا لدولة المماليك وللقاهرة[1].
وتعزز هذا التقرير بآخر كتبه الرحالة الإيطالي مارينو سانودو الذي زار مصر في بداية القرن الرابع عشر الميلادي في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، والذي ركّز فيه على أنه يجب العمل أولا على إضعاف مصر وإفقارها اقتصاديا، وهذا ما يُمكن لبلدان الغرب الأوروبي أن تفعله دون خطر يتهددها، أو أي تكاليف باهظة سواء في الأموال أم الأرواح، فإذا مُنعت التجارة عن مصر لفترة طويلة فسوف يؤدي ذلك إلى دمارها اقتصاديا وإفلاس حكّامها.
ووضع سناودو خطة عمل حين اقترح أن تقوم مجموعة من الأساطيل الأوروبية بفرض الحصار على كلٍّ من دمياط ورشيد والإسكندرية، ومحاولة منع تجارة الرقيق من البحر الأسود إلى الأسواق المصرية، ورأى كذلك أنه من الممكن أن يستفيد أبناء الغرب الأوروبي من تحالفهم مع الحبشة المسيحية لغزو مصر من الجنوب، كما اقترح أيضا الاستغناء عن المنتجات المصرية وذلك بزراعتها أو بإيجاد بدائل لها في المناطق المسيحية في البحر المتوسط، مثل القطن الذي يمكن زراعته في قبرص ورودس وكريت وصقلية ومالطة، وتأتي المرحلة الثانية بعد ذلك وهي احتلال مصر عسكريا، وسيؤدي ذلك إلى الاستيلاء على الأراضي المقدسة (فلسطين وبيت المقدس) والإقامة فيها دون خشية أي تهديد من جانب مصر[2]!
ولهذا السبب، إضعاف مصر وإسقاطها اقتصاديا وعسكريا، كان توافد الرّحالة والجواسيس الذين جاءوا بزي التاجر وزي السائح وزي المثقف كثيفا في تلك الفترة، حيث دوّن معظم هؤلاء الرحالة الكثير من المعلومات المتعلقة بالمواني المصرية المهمة، وأسهل الطرق للوصول إليها، والتحصينات المختلفة بها، وعادات وتقاليد سكانها، وأعداد الجنود والتحصينات الحربية من قلاع وحصون وأسوار، ونُظم المماليك الحربية، وتكوين جيوشهم، وعوامل القلاقل الداخلية، وطرق المواصلات الداخلية، وكلها معلومات على جانب كبير من الأهمية للمشتغلين بالتاريخ الحربي.
بل إن المؤرخ "علي السيد علي" يخبرنا أن بعض هؤلاء الجواسيس استطاع التغلغل داخل الجيش المملوكي، مثل سيرجون مانديفيل الذي زار مصر سنة 1322م، وظل بها حتى سنة 1341م، ويذكر في مذكراته أنه عاش في قلعة القاهرة كواحد من جنود السلطان، بل إنه شارك في كثير من العمليات العسكرية التي شنها المماليك ضد البدو الخارجين على سلطة الدولة حينذاك، ووصلت الثقة فيها مبلغها حين عرض عليه السلطان الناصر محمد بن قلاوون أن يزوجه إحدى الأميرات شريطة أن يعتنق الإسلام، لكنه رفض الفكرة، ثم إنه غادر مصر بعد وفاة الناصر، في زمن ولاية ابنه الصغير كجك[3]، بعدما درس بدقة شديدة عوامل قوة دولة المماليك كافة عسكريا واستخباراتيا وثقافيا، وأدرك مدى ما بلغته مصر من قوة حينذاك.
أما عن الأسباب التي جعلت السلطات المملوكية تفتح المجال لهؤلاء الرحالة والأوروبيين للمجيء إلى القاهرة واستكشافها فيرجع إلى أن المماليك أصبح خوفهم متضائلا أمام القوى المسيحية الأوروبية، مما جعلهم يخفّفون من القيود التي فرضوها سابقا على هذه القوى، فكثر تتابع الرحالة الأوربيين من مختلف جنسياتهم الإيطالية والفرنسية والألمانية إلى القاهرة، وكانت شهادتهم عن أوضاع المدينة وأحوال ساكنيها وأهم ما تميّزت به القاهرة حينذاك على قدر كبير من الإمتاع والطرافة.
التجارة والرفاهية!
من هؤلاء الراهب يعقوب الفيروني الإيطالي الذي زار مصر في 30 سبتمبر/أيلول 1335م ولم يستطع أن يمكث فيها كثيرا، لكن أدهشته القاهرة التي اعتبرها مدينة "جبّارة"، يقول: "بعدما أمضيت ستة أيام في اجتياز الصحراء، وصلتُ في اليوم السابع إلى مدينة القاهرة الجبارة الواقعة على النيل، وهو نهر كبير ومدهش، والذي هو أحد أنهار الجنة الأربعة، وصلت إلى القاهرة، المدينة التي تحوي على الكثير من العجائب التي تستحق الذكر؛ لأنها زعيمة كل مصر وفلسطين والأرض المقدسة، وكل بلاد الآشور حتى أرمينية، حتى إن ملك أرمينية، وهو نصراني، يدفع للقاهرة في كل السنين جزية تبلغ مئتي ألف فلورين (عملة ذهبية)، ومئة ألف حذوة حديد لبيطرة الخيول. والسلطان مسكنُه فيها، والذي يقع في المدينة، وهو قصر رائع منيع، مع أسوار وأبراج، وعمارات ضخمة، وفي هذا القصر حرس عديد من مسلمين وأتراك وآخرين، ومن نصارى وكذلك العديد من الرقيق النصارى الوافدين من سائر أنحاء النصرانية، وهم يُقيمون في قصر السلطان الذي يوجد فيه الطعام والكساء، هم عُمّال يبنون له صروحه".
لاحظ الفيروني أن سكان القاهرة في عصرها الوسيط كانوا من الأغنياء المنعّمين في غالبهم؛ وذلك "بفضل تجارة الهند لأن السفن تجلب عن طريق البحر الأحمر التوابل بمقادير لا تُحصى، وحجارة كريمة، من مسافة تبلغ أربعة أيام عن القاهرة، وعندئذ تُنقل قوافل الجمال التي لا يحصيها العد هذه البضائع حتى بابليون والقاهرة، وكذلك حتى الإسكندرية، والتي هي بدورها مدينة هامة وكبيرة"[4].
وقد لاحظ الرحالة الفلورنسي ليوناردو فريسكو بالدي الذي زار مصر عام 1384م ذلك النشاط الاقتصادي الكبير، فعلى مقربة من قصر السلطان في القاهرة كان "ينتشر العديد من دكاكين باعة المجوهرات الذين يتصرفون بكميات من الحجارة الثمينة، والزمرد، والياقوت، والياقوت الأحمر، والفيروز، واللآلئ، وأنواع أخرى من الحجارة الكريمة من سائر الأصناف".
أما الذي أثار اندهاش الرحالة بالدي فهو أن نساء القاهرة قد شاركنَ بنصيب وافر وحرية كبيرة في عملية التجارة، ليس في القاهرة وحدها، فكُنَّ "يقصدْنَ الإسكندرية ورشيد ودمياط وسائر أنحاء مصر، تماما مثلما يفعل تاجر كبير، أما في المدينة فيمتطينَ رواحل بديعة قادرة على حمل حمولات خيول قوية، هذه الحيوانات معروضة للإيجار على الساحات العامة وعلى الطرق، وكل واحد مع سائقه"[5].
مدينة التسلية والمرح!
وبسبب هذه الحالة الاقتصادية المتقدمة، والأوضاع المعيشية المستقرة لسكان القاهرة، فقد لاحظ عدد من الرحالة الأوروبيين ولع القاهريين بوسائل التسلية المختلفة، فقد روى لنا الرحّالة فيلكس فابري الذي زار المدينة سنة 1483م أن منزل كبير التراجمة كان يحتوي على مجموعة من الطيور والحيوانات النادرة، سواء الأليفة أم المتوحشة، مثل: النعام والببغاوات والأسود والدببة، كل هذا في فناء المنزل، كما شاهد بعض المصريين يقومون في منزله ببعض الألعاب المسلية والحيل مُستخدمين الدببة والزراف والأسود في أداء ألعابهم، وهو ما يُشبه إلى حد كبير ألعاب السيرك في عصرنا الحديث.
ويتواتر ذكر الرحالة الأجانب للحيوانات الغريبة التي رأوها في القاهرة والتي لم يروها أبدا في أوروبا الغربية، مثل الزراف والفيلة والثيران الهندية، ويبدو أنه كانت تُخصص كثير من الأماكن في المدينة كي تُوضع فيها هذه الحيوانات، بما يُشبه حدائق الحيوان في وقتنا الحالي، أو في بعض الدور التابعة لبعض الأمراء للقيام برعايتها وخدمتها، فضلا عن تدريبها على القيام ببعض الألعاب المسلية، وكثيرا ما كان الناس يتجهون لزيارة تلك الأماكن للفرحة والتسلية وقضاء بعض الأوقات المُمتعة، كذلك يبدو أن السلطات المملوكية قد حرصت على السماح لكل الرحالة الأجانب بزيارة تلك الأماكن.
فالرحّالة بيرو طافور يذكر أنه عقب زيارته للأهرامات ذهب إلى مشاهدة "المكان الذي يحتفظون فيه بالفيلة فرأينا منها سبعة.. ويظهر أن هذه الحيوانات ذكية جدا، فهي مُدرّبة على القيام بالحيل والألعاب، وتعمّد في بعض الأحيان إلى ملء خراطيمها بالماء وترش به أي شيء أرادت... وإذا كان الجوّ حارا أخذها القوم عند انبلاج الفجر ودفعوها إلى النهر لتبترد وإلا عجزت عن كبح جماح نفسها، وجلدها سميك جدا، وإذا جُرحت وضعوها حيث يشرقُ القمر عليها فتبرأ في اليوم التالي، ويحمل سائقوها شوكة حديدية مثبتة إلى مدراة يضربونها بها خلف أذنها، ويوجّهونها أنى أرادوا.."[6].
أما الرحالة البندقي الإيطالي سيمون سيغولي الذي زار القاهرة في القرن الرابع عشر الميلادي، فقد رأى فرحة المسلمين الغامرة بعيد الفطر ووسائل تسليتهم في أيامه، التي كانت تمتد إلى ثمانية أيام كما يقول، وعندما يرون الهلال الجديد "يحتفلون بعيد كبير جدا، ويجتمعون في أكبر ساحة في المدينة، وعندها يأخذ بعضهم بقرع الطبول، والنقر على الدفوف، وآخرون يُنشدون أيضا، ويرقصون ويأكلون ويلعبون بالصنج، في حين يرفع البعض أوزانا ضخمة بقوة أذرعهم، وتستمر هذه الأفراح مدة ثمانية أيام، وتمتد شطرا كبيرا من الليل"[7].
بيوت وأسواق ومواكب
لاحظَ الرحّالة الأوروبيون جمال منازل القاهرة وضخامتها وعلوها في عصرها الوسيط، فيروي لنا الرحّالة جوتشي سنة 1384م أثناء حديثه عن سوق القصبة أو شارع المعز لدين الله الفاطمي بقوله: "ويحيط بهذا السوق كثير من المنازل الجميلة، وهي ضخمة وعالية، وكلها عامرة بالسكان". أما الرحّالة الفرنسي أوجير الذي زار القاهرة سنة 1395م فهو يقول إنها شدت انتباهه هو ومن معه من الفرنسيين لكبر حجمها، وشُرفاتها الواسعة. ويؤكد الرحالة الفرنسي الآخر "فان دي جوز" أن أغلب منازل القاهرة كان لها أسقف منبسطة، ولها شبابيك كثيرة عليها المشربيات التي ينفذُ منها النسيمُ العليل، وبما أن درجة الحرارة مرتفعة في البلاد، فإن داخل هذه المنازل كان يُرش بالماء ثلاث مرات يوميا[8].
ولعل تصوير الرحالة عبد اللطيف البغدادي الذي زار مصر والقاهرة في فاتحة القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري لمنازل القاهرة آنذاك يكون أكثر وضوحا وجلاء من تصوير الرحالة الأجانب، فهو يقول إن "غالب سكناهم في الأعالي، ويجعلون منافذ منازلهم تلقاء الشمال والرياح الطيبة، وقلّما تجد منزلا إلا وفيه باذاهنج (مناور علوية)، وهي كبار، واسطة للريح، عليها تُسلّط ويُحكمونها غاية الإحكام، حتى إنه يُغرم على الواحد منها مئة دينار إلى خمسمئة.. وأبنيتهم شاهقة، ويبنون بالحجر النحت والطوب الأحمر وهو الآجر، وشكل طوبهم على نصف طوب العراق. ويُحكمون قنوات المراحيض، حتى إنه تخربُ الدار والقناة قائمة"[9]، ويشيد الرحالة البغدادي بالمهندسين المصريين آنذاك، وبإحكامهم بناء المنازل بهذه الصورة الجميلة والقوية في الوقت ذاته.
على أن اتساع القاهرة حينذاك كان مما أدهش هؤلاء الرحالة، فعلى سبيل المثال يذكر الرحالة الألماني فيلكسن فابري الذي زارها سنة 1483م أن القاهرة كانت تُساوي مساحة مدينة باريس سبع مرات، أو مساحة مدينة أولم الألمانية أربعا وثمانين مرة. كذلك قال عنها الرحالة الفرنسي فان دي جوز إنها بلا شك أكبر مدينة عرفها في العالم آنذاك، وقد بلغت من كبر حجمها واتساعها حدًّا بحيث لا يستطيع المرء أن يقوم بجولة في أنحائها في أقل من اثنتي عشرة ساعة راكبا، كما أنها طويلة أكثر مما تكون عريضة. وظلت القاهرة تتمدد جنوبا وشمالا باستمرار، خصوصا مع ظهور أراضٍ جديدة خلفها النيل من جراء فيضاناته أو ما سُمي بـ "طرح البحر" في مناطق غرب القاهرة في منطقة الإسعاف وما حولها حتى بولاق.
انتشرت في القاهرة حينذاك أنواع الأسواق كافة وأغربها، كانت الحركة لا تتوقف في القاهرة، والناس يزدادون كثرة، وشوارعها الضيقة لا تكاد تستطيع المشي فيها راكبا على دابة أو ماشيا، واعتاد أغلب القاهريين أن يحصلوا على طعامهم من طباخي الأسواق الذين كانوا يطبخون أشهى الأطعمة وألذها، حتى إن قليلا من السكان كانوا يطبخون في منازلهم، فيروي الرحالة طافور يقول: "إنه كان لكل حاجة تُجّارها في الشوارع يسألون عما إذا كان ثمة من يحتاج إليهم، حتى إن الطباخين ليعدون جيئة وذهابا حاملين المواقد والنيران وأطباق المحشي المعدة للبيع، على حين ترى سواهم حاملين صحاف الفاكهة"[10].
وفي ذلك العصر وُجد نوعان من المطابخ؛ المطابخ التي كان الطباخون يُعدّون فيها الأطعمة التي يبيعونها لحسابهم، وحوانيت الشرائحيين أو الشرائحية التي كان الناس يُرسلون إليها ما يريدون طهيه من لحوم وخضراوات وغيرها، ويقوم الشرائحية بطهيها بعد خلطها بالتوابل وغيرها، ثم يُرسلونها مع صبيانهم إلى المنازل في قدور مغطّاة مقابل أجر معين يأخذونه من زبائنهم، هذا إلى جانب وجود كثير من الباعة الذين كانوا يفترشون الأرض في الشوارع والأسواق وبجوار الجوامع، وأمامهم شتى صنوف الطعام التي يبيعونها للناس. أما الخبز فكان منه ما يُباع جاهزا في الأسواق، ومنه ما يُعجن في البيوت ثم يُرسل إلى الأفران، كما كان بعض الناس يخبزون في الفرن نظير أجرة شهرية، في حين أن بعضهم كان يدفع نظير المرة الواحدة[11].
اشتهرت القاهرة بمواكبها الصاخبة، على رأسها مواكب انتصار السلاطين الأيوبيين والمماليك، مثل انتصار السلطان الأشرف برسباي على ملك قبرص وضم الجزيرة لسلطة مصر، فاهتزت القاهرة لموكب النصر، ومشاهدة الملك القبرصي جانوس الأسير. كما اشتهرت المدينة بموكب الرؤية الذي كان يتألف من القضاة والفقهاء للخروج والتثبت من هلال شهر رمضان، وكان هذا الموكب يُحاط بعدد كبير من القناديل المستديرة والمشاعل والشموع، وتُضاء أيضا أمام الحوانيت الثريات والشموع والمباخر التي تنتشر منها رائحة زكية[12].
أما موكب "المحمل" فكان من أحب المشاهد السنوية لجماهير القاهرة، وكانت قافلة عظيمة ترتج لها مصر والقاهرة، على رأسها جمل به هودج مزين يحمل الكسوة السنوية للكعبة المشرفة، ويصحبه في داخل القاهرة القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب، وكبار الفقهاء ورجال الدولة، ويخرجون من قلعة الجبل فوق المقطم، وعلى رأسهم الأمير المملوكي "أمير الحاج" الذي كان يُعين مع فرقة عسكرية كبيرة لمصاحبة المحمل، وحفظ الأمن في الطرق وفي مكة المشرفة، ومعهم أيضا السقاؤون على جمالهم، يطوف كل هؤلاء القاهرة والفسطاط، والمنشدون أمامهم يلهجون بأعذب الأغاني والأناشيد الدينية، فترتج لذلك القاهرة.
يروي المؤرخ الفرنسي جاستون فيت أن مواكب تشهير المجرمين حظيت بعناية واهتمام أهل القاهرة، فكان الناس يتجمعون في الطرقات والشوارع، والنساء من المشربيات، يُشاهدون موكب مرور هؤلاء المجرمين الخطيرين، تصاحبهم أصوات الاستهجان والاستنكار عند مرورهم، وأحيانا كان المجرمون يُجلدون علنا، ويُوضعون على حمار ويُطاف به عاري الرأس والجسد في شوارع المدينة[13].
أهل القاهرة
ظلت عادة المصريين على هذه الشاكلة حتى فاتحة العصر الحديث في القرن التاسع عشر، فالرحالة الفرنسي مونكوني الذي زار مصر في القرن السابع عشر الميلادي وصف أهل القاهرة بأن لهم عادات جميلة، وأنهم متسامحون، وتمنى أن تكون هذه العادات بين المسيحيين، "فهم بلا ضغينة، ليس لديهم رغبة في الانتقام، وتنتهي خلافاتهم بانتهاء اليوم، يحرصون على تنفيذ العدالة والقضاء ولا يجبرون المسيحي أن يكون تُركيا"، أي مسلما[14].
أما غير المسلمين من سكان القاهرة فقد عاشوا في أمان وسلام طوال تلك القرون، غير أن ملابسهم كانت مختلفة، فقد حرصت السلطات على أن يتميزوا بلبس الزنار وشده في الوسط، وفي عصر العثمانيين في مصر كانوا يلبسون ملابس من اللون الأزرق للنصارى، واليهود ملابس من اللون الأصفر، وعمل الأقباط في الوظائف المالية والإدارية، أما اليهود فحرصوا على العمل في الجمارك، مثل جمرك بولاق، وعلل الرحالة الفرنسي تيفيه سبب ذلك إلى رغبتهم في "الحصول على مكاسب تجارية وحرية أكثر في الحركة"، ولاحظ انتشارهم في كثير من المدن المصرية وليس في القاهرة فقط، ولهم منازلهم الخاصة ومتاجرهم ويقيمون في حارة اليهود قرب الموسكي[15].
تلك بعض من مشاهدات الرحالة الأوربيين عن قاهرة العصر الوسيط، التي اتسمت بالاتساع والحركة والنشاط التجاري والاقتصادي الهائل، وسعة وارتفاع منازل القاهريين، وحبهم للمرح والتسلية والحياة، وسرعة تفاعلهم مع الأنشطة السياسية والاجتماعية التي كانت لا تنقطع عن مدينتهم العظيمة.