كثرت الأسئلة حول الدين والدولة، وأدلجة الدين والتراث، وعن دور الدين ومجاله في الحياة، ولا سيما على ضوء ما نحياه اليوم من صعود التطرف الديني، ودعوات التحرر من سطوة السلف وتحديث الفكر الديني. أسئلة من هذا النوع الإشكالي وغيرها حملناها إلى المفكر الاسلامي العراقي والأستاذ في الحوزة والجامعة الدكتور عبد الجبار الرفاعي.
فكان هذا الحوار:1- ناقشت "اختزال الدين في الأيديولوجيا"، وهذا ما أسهبت الحديث عنه في كتابك "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، وقدّمت كل من علي شريعتي وحسن حنفي كنموذجين لتحويل الدين من ثقافة إلى أيديولوجيا. مع الرفض لأن يختزل الدين في الأيديولوجيا، ولكن إذا تحدثنا عن الإسلام، فهو ينطوي في فكره وتراثه على تحقيق العدالة، أي أنه دين في جوهره يحمل عقيدة تغييرية، فكيف يمكن أن يكون خالصاً من التمثلات الأيديولوجية؟
لم يكن المرحوم علي شريعتي أو الصديق حسن حنفي وحيدين في دعوتهما وجهودهما لـ"اختزال الدين في الأيديولوجيا"، بل إن البروتستانتية الإسلامية منذ ولادتها تناضل في سبيل ذلك. الخبير بأدبيات الجماعات الإسلامية يعرف جيدا أن هذه الأدبيات مسكونة بأحلام خلاصية. وهي تدرك جيدا أن مثل هذه الأحلام الكبيرة لن ينجزها سوى "أدلجة الدين والتراث". ذلك أن الأيديولوجيا نسق مغلق، يغذي الرأس بمصفوفة معتقدات ومفاهيم ومقولات نهائية، تعلن الحرب علي أية فكرة لا تشبهها، حتى تفضي الى إنتاج نسخ متشابهة من البشر، وتجييش الجمهور على رأي واحد، وموقف واحد، وكأنها تتمثل قول فرعون " قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى".
الأيديولوجيا جزمية، همها تنميط وتدجين ونمذجة الشخص البشري، لذلك تقدم جوابا واضحا لكل سؤال، وكأنها لا تدري أن أسئلة ثقيلة كأسئلة المبدأ والمصير، مالبثت منذ جلجامش مفتوحة. يتعطل التفكير حين تغلق الأسئلة المفتوحة. الأيديولوجيا تقوّضها الأسئلة المفتوحة، لذلك لا تبقي في فضائها أي سؤال مفتوح، وتحرص أن تقدم إجابات نهائية لكل سؤال مهما كان.
ما زلتُ أدرك أن الدين يهدف لتحقيق العدالة، لكن الطريق الى العدالة لا يمرّ من خلال "أدلجة الدين"، لأن "الأدلجة" تُفسد الدين، الدين يتمحور هدفه العميق حول تأمين ما تفشل الخبرة البشرية في تأمينه للحياة. الانسان كائن لا يشبه الا الانسان، وهو الكائن الذي يفتقر الى ماهو خارج عالمه المادي الحسي، خلافا للحيوان الذي لا تتجاوز احتياجاته عالمه المادي الحسي. الانسان في توق ووجد أبديين الى ما يفتقده في هذا العالم، وذلك ما تدلل عليه مسيرة هذا الكائن منذ فجر تاريخه الى الآن، بل أزعم أن هذه الحاجة مزمنة، وستستمر حتى آخر شخص يعيش في هذا العالم. وهو ما يمكن تسميته بـ" الظمأ الانطولوجي". يتمثل "الظمأ الانطولوجي" في افتقار الشخص البشري الى ما يُثري وجودَه، وهو يجتاح حياةَ كل كائن بشري، بوصف هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود، كي يتخلصَ من الهشاشة، ويجعلَ حياتَه ممكنةً في هذا العالمِ الغارق بالمتاعب والأوجاع، وتكونَ له القدرةُ على العيش بأقلَ ما يمكنُ من المرارات، ويخرجَ من حالة القلق الى السكينة، ومن اللامعنى الى المعنى، ومن العدمية الى الحقيقة. الدين هو المنهل لإرواء الظمأ الانطولوجي. وحين يرتوي الشخص البشري، تخمد نزعة الشر المتأصلة في ذاته، ويكفّ عن العدوان وكراهية الآخر. مادامت كينونة الكائن البشري في تعطش لمعنى وجوده وهدفٍ لحياته، ولم يعثر على المنهل الحقيقي لذلك المعنى، والسبيل لبلوغ ذلك الهدف، يغرق في اللامعنى والعدمية ولاجدوى الحياة والعالم وكل شئ، فيغدو كقنبلة موقوتة؛ تتفجر لحظة إشعال صاعقها. مادام المرء يكتوي بعذاب العدمية واللامعني تترسخ على الدوام النزعة التدميرية في شخصيته، ويصير مستعدا لكل ما من شأنه الهدم لا البناء، الموت لا الحياة، والظلام لا النور.
2- ولكن"البروتستانتية الاسلامية" بالنهاية أجرت إصلاحات كانت ضرورية للدين كي ينسجم مع العصر؟ماالذي تعنيه بـ "البروتستانتية الاسلامية"؟
البروتستانتية هي "حركة الاصلاح الديني في الكاثوليكية"، التي قادها مارتن لوثر. "البروتستانتية الإسلامية" هي "حركة أدلجة الدين والتراث في الإسلام الحديث والمعاصر"، التي يمكن أن نؤرّخ لها بولادة الاخوان المسلمين.
البروتستانتية المسيحية والاسلامية كلتاهما تشتركان؛ بإنهاك الدين، وإفقاره ميتافيزيقيا، وخفض طاقته الروحية، وإهمال قيمه الأخلاقية، والتشديد على مضمونه الدنيوي الأرضي، لكن البروتستانتية الاسلامية مختلفة عن المسيحية، فالبروتستانتية المسيحية حرّرت الدولة من الدين، والبروتستانتية الاسلامية أفشلت الدولة بالدين، وسمّمت الدين بالدولة.
2- ما سبق يحملنا للسؤال عن الدين ودوره في حياة الإنسان؟ وما مساحته ومجاله، وما الحدود التي يتوقف عندها؟ وهل تنحصر وظيفته في منح الحياة معنى على مستوى فردي أي الباطن الإنساني؟
إن هذه الرؤية لوظيفة الدين؛ لا تدّعي أن الدينَ ليس مؤثراً في الفاعل الاجتماعي، وإنما هي تؤشر بوضوح لأفق الانتظار من الدين، ونمطِ المهام التي يعد بها. فإذا عمل الدين في حقله الحقيقي، وأنجز وعودَه التي يقدّمها للبشر، آنذاك يشبع الشخص البشري حاجته لخلع المعنى على ما لا معنى له، ويرتوي تعطشُه للوجود، وتلهفه الانطولوجي، فيصبح ممتلئاً متوازناً، إيجابياً سوياً، لا ينهكه القلق، وفقدانُ معنى الحياة.
يروي لنا علي شريعتي مثلا مأساة عشرات الآلاف من العمال، الذين تهشمت ضلوعهم تحت حجارة الإهرامات، بينما لا يدري أن ضلوعنا مهشمة أيضا، وأننا يجتاحنا: القلق، اليأس، الاغتراب، الضجر، السأم، الألم، الحزن، الغثيان، فقدان المعنى، ذبول الروح، انطفاء القلب، الجنون...الخ. إنه كمن يضع بأيدينا مصابيحَ شديدةَ الإنارة، ليكشف لنا بؤس العالم، لكن عالمنَا الجواني الباطن يظل مجهولاً مهملاً. لم يتنبه شريعتي إلى أنه؛ لا ينبغي لنا أن نطاردَ ظلامَ العالم، فيما نحن نجهل ظلامَ أنفسنا، ونتضور لجوع العالم، ونحن لا نشعر بجوع أنفسنا، ونحترق لظمأ العالم، ونحن لا نتحسس الظمأَ الأنطولوجي في ذواتنا...الح. ما فائدةُ أن يغدو العالم سعيداً إن لم أكن أنا قبل ذلك سعيداً ؟! ما فائدة أن يغدو العالم جميلاً إن لم أكن أنا قبل ذلك جميلاً؟! "ما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك"، حسب قول السيد المسيح؟!
3- في اللحظة الراهنة كيف يمكن الانفتاح على الدين؛ بما يملك من خصوبة للخلاص من الطغيان والفساد، خاصة وأنتم تعلمون أن فكرة الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي غير ناضجة، فما نسميه بالدول عندنا أقرب ما يكون للسلطة؟
مأزق الإسلام اليوم هو انهيار الحياة الروحية والأخلاقية والعقلية، وما نعيشه من شقاء للعقل والقلب والروح. وهذا هو المآل الطبيعي لما أفضت إليه جهود البروتستانتية الإسلامية في عملية "تديين الدنيوي".
لا خلاص إلا بالخلاص من "تديين الدنيوي"، وإعادة الدين الى حقله الطبيعي. ومن دون ذلك ننهك ما هو ديني، ونبدّد ما هو دنيوي. بمعنى أن تمام الدين و كماله ليس بمعنى استيعابه وشموله لكل شئ في الدنيا, وانما بمعنى أن الدين لايعوزه ولا ينقصه شئ فيما يرتبط بأهدافه وغاياته في بناء الذات البشرية خاصة، ورفدها بما تفتقر إليه الخبرة البشرية في سياق عالمها الحسي المادي. أما ما يؤمّنه العقل، وما تنجزه الخبرة البشرية فلا ضرورة لإقحامه في الدين، أو إقحام الدين فيه.
البروتستانتية الإسلامية شددت على أن يختلط كل شئ بكل شئ .. يختلط الدين بالعلم، والعلم بالدين، يختلط الدين بالدولة والدولة بالدين، يختلط الدين بالفن والفن بالدين، يختلط الدين بالاقتصاد والاقتصاد بالدين .. مضافا الى أن السياسية انحطت في مجتمعاتنا فتغولت، والتهمت الدين والاقتصاد والفكر والأدب والفن والرياضة، فلم يعد الدين ديناً، ولا الاقتصاد اقتصاداً، ولا الفكر فكراً، ولا الأدب أدباً، ولا الفن فناً، ولا الرياضة رياضة.
نحن بحاجة ماسة لعبور ميراث شريعتي، مثلما عبره وتجاوزه التفكير الديني في إيران، وجعله خلفه منذ سنوات طويلة. بل نحن بحاجة ماسة لعبور التفكير الديني للمفكرين الأيديولوجيين من رواد البروتستانتية الإسلامية في عالم الاسلام في القرنين الأخيرين. ذلك أن مجتمعاتنا مسكونة بنحت الأصنام البشرية، فالزعيم السياسي أو غيره؛ سرعان ما يتحول في الوجدان الشعبي الى أسطورة خارقة للطبيعة البشرية، فيصاب هو بجنون العظمة، ويصدّق أنه أضحى أسطورة، وأنه "الرجل الضرورة!".. وإن أخطر أنماط الأصنام البشرية هي التي تولد في حقل الفكر، فحين يتحول المفكر الى صنم، وقتئذ يكفّ العقل عن التفكير. التفكير الديني مطالب اليوم بالانتقال "من الأيديولوجيا الى الابستمولوجيا"، ومن "تحويل الدين الى أيديولوجيا"، كما يشدّد المرحوم شريعتي، الى "اكتشاف الوظيفة الأنطولوجية العميقة للدين". متمنيا أن يتسع وقتكم لمطالعة مقالتي في العدد القادم لمجلة "الكوفة" المعنونة: "المثقف الرسولي علي شريعتي: ترحيل الدين من الأنطولوجيا الى الأيديولوجيا"، التي تشي بموقفي الراهن من تلك الوجهة في التفكير الديني في عالم الاسلام الحديث والمعاصر، والتي ساقتنا الى ما نحن فيه اليوم من شقاء للعقل والقلب والروح.
4- تشدّدون على مراجعة الماضي ونقد التراث، والتحرر من سطوة السلف، في كتاباتكم. هل تحسبون ذلك منطلقا لتحديث التفكير الديني؟
"تبرئة الذات" وتنزيهها عامل حاسم في عجز الشخص البشري عن عبور الماضي. وتعود منابع ذلك الى "لاهوت الفرقة الناجية"، والتربية على "تنزيه الذات"، وعدم "الاعتراف بالخطأ". كأننا كائنات كاملة لحظة ولادتها، كأن كل شخص في مجتمعاتنا هو "انسان كامل"، وسيلبث كاملا أبدا. لم تكفل ثقافتنا "حق الخطأ" للشخص البشري. الخطأ فضيحة في حياتنا، لذلك يحرجنا، بل نرتبك ويغمرنا الخجل والوجل لو اعترافنا به. أفضى هذا الى أن يغدو تراثنا كله صوابا، وماضينا كله مشرقا، وتاريخنا كله مجيدا، ورموزنا كلها مقدسة..الخ. ربما لا توجد ثقافة غارقة بالثناء والتبجيل للتراث ورجاله كثقافتنا. ربما لا توجد لغة مشبعة بالمناقب والمديح للماضي ورموزه كلغتنا .. مَنْ يفشل في صناعة التاريخ يعشق تمجيده وأسطرته وتخليده.
وربما لا يوجد متخيل لماضٍ كماضينا، إذ يعيدُ ماضينا نفسه؛ بإعادة إنتاج نصوصه ذاتها اليوم، ففي السياقات ذاتها تتكرر النصوص الماضية في الحاضرة؛ بكلمات بديلة وصياغات جديدة.
تجلت الآثار التربوية لذلك في أن للمرء في مجتمعاتنا شخصية مستعارة، يرتدي بها قناعاً في كل موقف نيابة عن غيره، وعجز المرء عن أن يكون ذاته، لا كما تريد له التقاليد والقيم الاجتماعية أن يكون. كما تجلّت في تفتيش الشخص البشري على الدوام عن عوامل خارجية لفشله، والتنكر لأي سبب للفشل من داخله. فهو يعتذر مثلا عن رسوبه؛ بأن: "المعلم عدوه"، وليس كسله وإهماله هو ما تسبب برسوبه. وعن تأخره عن السفر؛ بأن "الطائرة غادرت وتركته"، وليس هو من تأخر عن موعدها ..الخ.
وهكذا ترسّخت ظاهرة تبرير كل تخلف في مجتمعاتنا، بوصفه مؤامرات كونية تستهدفنا على الدوام. الآخر سبب تخلفنا، الآخر سبب فشلنا، الآخر سبب هزيمتنا في معاركنا، الآخر سبب ظهور الجماعات المتطرفة الإرهابية في مجتمعاتنا، الآخر سبب صراعاتنا الطائفية، الآخر سبب كل ما لا سبب له.. الآخر سبب يغذي نرجسيتنا المزمنة. نرجسيتنا تملي علينا أن نعتذر عن كل ما تصرّح به مدونات التاريخ؛ من تعسف واضطهاد وطغيان الخلفاء والسلاطين، رغم انه لم يكن في الرعية شخص حرّ سواهم، أما بقية أفراد المجتمع فظلوا على الدوام عبيدا لهم. نرجسيتنا تدعونا للتنكر لموجات الحروب الأهلية الطائفية المرعبة في بغداد مثلا في العصر العثماني، والادعاء أن الطائفية مخلوق غريب لا يعرفه تاريخ العراق، وإنما ظهر بعد سقوط صدام حسين ونظامه!
ومما لا ريب فيه أن كل من لا يعترف بأخطائه؛ سيُرغمه التاريخُ على استئناف تجرع كؤوس هزائمه في الماضي. من لا يعترف بأخطائه لا يتعلم. التاريخ لا يُعلّم الا من يعترف بأخطائه.
من نتائج "تبرئة الذات" أننا لا نعثر على مذكرات تسجل مسيرة تجارب الأعلام والمشاهير في تراثنا، لئلا تبوح بضعفهم البشري، ماخلا حالات نادرة، مثل كتاب "الاعتبار"، الذي ألفه أسامة بن منقذ المتوفى ٥٨٤ هـ. ودوّن فيه سيرته الذاتية، غير أنه لم يكتبه الا بعد مضي ثمانين عاما من حياته. في العصر الحديث مازال كتّاب المذكرات خارج فضاء الحواضر والحوزات الدينية عادة، وحتى أولئك الأدباء والمثقفين والسياسيين الذين ينشرون مذكراتهم، فإنهم في الغالب يمضغون الكثير من التفاصيل الجميلة، التي تؤشر لتطور منحنى شخصياتهم ومنعطفاتها، وضعفهم البشري ، وما اكتنف حياتهم من؛ ألم وأمل، ونجاح وفشل، وضعف وقوة، وقلق وطمأنينة، وإيمان وحيرة..الخ. وعادة ما يلوّنون ماضيهم الشخصي بألوان جذابة، تتغافل عن الكثير من الأخطاء والهشاشة والعجز. قبل سنوات طالعت مذكرات الشاعرة نازك الملائكة، بتحرير حياة شرارة، فكانت كأنها قصيدة غزل تتغنى فيها بشخصيتها وعائلتها. شعرت بالغثيان؛ لفرط نرجسيتها وشعورها بالتفوق. وعجزها عن إعلان شئ من صوت الشاعر المتوهج القلق في ذاتها. وهواجس وخلجات وأحلام وأوهام الرائي في وجدانها. وتكتمها على العجز الطبيعي في شخصية كل كائن بشري. لكن ربما نجد من يشذّ عن هذه الحالة، مثل الروائي سليم مطر كامل الذي كتب سيرة تفضح "ثقافة العيب"، وتعلن عن "مذكرات رجل لا يستحي" حسب تسمته، تصرخ حياته فيها بعنفوان وضجيج، وتتكشف شخصيته عن منحنى تمزقها وهبوطها وصعودها، بشكل صادم لوعي القارئ في مجتمعاتنا.
5- تدعو لإحياء واستلهام ميراث الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء كمحيي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي وغيرهما، كعلاج للشفاء من أدبيات الكراهية ومناهضة الآخر. كيف تفسّرون هذه العودة للتصوّف اليوم؟ وهل فعلاً يمكن أن يشكّل شفاءا للآلام التي نعاني منها، علماً أنه يؤخذ على التصوف عموماً الاعتناء بالخلاص الفردي؟
الالتباس ينشأ من الخلط بين التصوف الطُرُقي، والتصوف المعرفي والعرفان النظري. التصوف الطُرُقي "الاجتماعي" هو تصوف الدروشة والخانقاهات والتكايا والزوايا. هذا النمط من التصوف مرآة لتشوهات وعاهات المسلمين العميقة، إذ ترتسم فيه صورة تشوهات وعاهات التجربة التاريخية لعصور انحطاط الاسلام، وتخلف المسلمين وجهلهم. مثل؛ التربية على نفسية العبيد، وذهنية القطيع، والمسكنة والانقياد والرضوخ والطاعة العمياء لمشايخ الطرق الصوفية، والهروب من المجتمع، والتنكيل بمتطلبات الجسد، والتضحية بالغرائز والحاجات الطبيعية للبشر..الخ.
هذا ما تفشّى في تصوف الدراويش، تصوف الخلاص الفردي. أما التصوف المعرفي "الفلسفي" والعرفان النظري فإنه أنتج قراءة للنصوص خارج إطار المناهج وأدوات النظر الموروثة، التي اخترعها الشافعي والأشعري وغيرهما، ثم أضحت مقدسة، ومنح المسلم أفقا رحبا في التأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام قراءات حية، في فضاء يواكب متغيرات الحياة..والخلاص من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتمسك بالأشكال ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات.كما أعاد التصوف المعرفي "الفلسفي" والعرفان النظري الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق تعالى، وانشغل بإرواء الظمأ الانطولوجي للروح.
6- بوصفك استاذا في الحوزة، ما موقفك من النظام التعليمي في الحوزة، والمرجعية التقليدية؟
كنت قبل أكثر من ثلاثين عاما ممن ينتقدون النظام التعليمي في الحوزة، والمرجعية التقليدية، لكن بعد تجربة تواصلت في الحوزة منذ 1978، وعلاقة عضوية بالدراسة والتدريس فيها، أدركت أن عملية إصلاح النظام التعليمي انغمست بالشكل وأهملت المضمون، أعنى: جرى توطينٌ لنظام التعليم الجامعي في الحوزة بأسلوب تبسيطي، يفتقد العمق والتكثيف. نعم؛ أُطر التكوين الموروثة الراسخة في الحوزة تتضمن عيوبا متعددة، وتُهدر فيها سنوات طويلة من أعمارنا، غير أنها تتكفل بتكوين عميق دقيق في المنقول والمعقول، يمنحنا أهلية استثنائية للتوغل في التراث، واستكشاف مسالكه ومدياته المتشعبة القصية.
أما المرجعية التقليدية، فقد تحوّل موقفي حيالها منذ أكثر من ربع قرن، بعد أن تفهمتُ أن حضورها ضرورة تفرضها متطلبات اجتماعنا اليوم. ذلك أن مجتمعاتنا مازالت في "مرحلة ماقبل الحداثة"، بل يمكن توصيف بعضها بأنها "مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة". والمرجعية التقليدية في مجتمع ينتمي الى الماضي بكل ما فيه، أهم نقطة ارتكاز في العواصف والمنعطفات العظمى التي تعصف بها، مثلما تشاهد في العراق منذ الاحتلال الامريكي. ولك أن تراجع مواقف مرجعية السيد السستاني في هذه الحقبة، ودورها الحاسم والمحوري منذ 2003 الى سقوط الموصل وغيرها بيد داعش 2014، فلولا مواقفها الحكيمة؛ لغرقنا أعمق مما نحن فيه اليوم في الفوضى والدم المسفوح.
7- أنت تقدم نقدا للسلفية والجماعات الإسلامية، ومهادنة أو مجاملة للمرجعية في المقابل. هل يعود ذلك للسياقات والظروف الخاصة في العراق وإيران، وماتتمتع به المرجعية من سطوة وقدرة على الحشد؟
مرجعيات النجف وقم والزيتونة والقرويين ليست سببا للمأزق الذي نغرق فيه اليوم، ذلك أنها مشتقة من الاجتماع الإسلامي نفسه، وهي تتحرك وتنمو وتتطور في ضوء المنطق الذاتي لهذا الاجتماع وسياقاته الخاصة، ولا تمثل تمردا وانشقاقا عليه. مأزقنا يتمثل في الانشقاق على الاجتماع الاسلامي الراسخ، الذي يعمل على نحر هذا الاجتماع وتمزيقه. وهو ما نشاهده كل يوم في مآلات داعش وشقيقاتها.
طوال تاريخ الاجتماع الاسلامي لبثت المرجعيات الدينية في الاسلام فاعلةً ومتفاعلةً. ولم يحكي لنا تاريخُنا القديم أو الحديث أنها مثّلت في مرحلة ما مأزقا للأمة. مرجعية النجف قاتلت الانجليز سنة 1914 حين دخلوا العراق محتلين؛ دفاعا عن دولة الخلافة العثمانية، بوصفها تحمل راية الإسلام، بالرغم من أن دولة الخلافة هذه ظلت تضطهد الشيعة وتهدر حقوقهم في العراق قرونا عديدة،كما تحكي لنا تواريخ تلك الفترة.
8- هل تتفق مع من يقدّم طرحا علمانيا للدين من داخل الدين، أو ما يسمى بـ"العلمانية المؤمنة"؟
أرفض توصيف "علماني"، ذلك أنه يشي بحكم قدحي. الناس مرضى بالتصنيف ووضع اللافتات. لا أقبل أن أصنف نفسي تبعا لمصطلحات، مثل: يسار إسلامي، يمين إسلامي، ليبرالي إسلامي، ديمقراطي إسلامي، اشتراكي إسلامي، علماني إسلامي، علمانية مؤمنة...ألخ. يؤسفني أننا نخلط كل شئ بكل شئ .. هذا خلط شاع في مرحلة ماضية، بل هي موضة تفشت في بعض الأدبيات الاسلامية منذ منتصف القرن الماضي. ومازالت بقايا صدى منها تتردد في مصطلح "علمانية مؤمنة"، وهو تعبير الصديق السيد محمد حسن الأمين، أو " يسار إسلامي" كما تحلو التسمية لصديقنا د. حسن حنفي..
أنا مسلم مؤمن، متيم بحب الله والانسان والعالم. أؤمن بالله ونبيه وكتابه الكريم، وما جاء به النبي "ص". وأؤدي الصلاة والفرائض، طبقا لما نصت عليه الشريعة.
الكلمات أحكام. الكلمات حساسة. الكلمات معبأة بطاقتها الخاصة للمعنى. نهدر المعنى ونبدده، لو عبثنا بمواضعاتها، وحاولنا تبذير المعنى في تركيبها مع كلمات لا تنتمي الى مجالها التداولي، واستعملناها في سياقات لا تشبهها.
توصيف "علماني مؤمن" أو "مؤمن علماني" يشي بجمع مفهومين لا ينتميان الى سياق واحد، فالعلمانية كما تستعمل اليوم بإسراف في أدبيات الجماعات الاسلامية، تنصرف في فهمهم؛ الى شبكة مفاهيم ومواقف مناهضة للدين، بل هي شتيمة تطلق على كل من لا يتبنى رؤاهم ومواقفهم. ولعلها تؤشر في مضمون تلك الأدبيات الى الحكم بإخراج الشخص الموصوف بها من الملة.
9- لماذا لا يصح أن يكون أحدنا علمانيا مؤمنا. فهو مؤمن بالله ورسوله وكتابه؟
أنت حددت إيمانه بقولك: "هو مؤمن بالله ورسوله وكتابه"، ومعنى ذلك؛ أنه ليس مخيرا في تبني أية صيغة للطقس الذي يوصله الى الله. ففي كل رسالة هناك تقليد خاص للطقس والعبادة؛ مشتق منها، ومتسق مع نمط الايمان الخاص بها.
وبتعبير أوضح: مثلما أن للإيمان أنماط، وهذه الأنماط تتنوع وتتعدد بتعدد الرسالات، فإن الطقوس والعبادات تتنوع تبعا لها. مع احترامي لأتباع الأديان، لكل دين تقليدُه وطقسه الخاص في وصال الحق، الذي يُنهَل منه نمطُ إيمان أتباعه. فلا يصح أن تكون مسلما، وتؤدي القداس مع المسيحيين؛ تبعا لتقليد الطقس الكنسي، بدلا من الصلاة. أو أن تكون مسيحيا وتؤدي الصلاة في المسجد؛ تبعا لتقليد العبادة الاسلامي، بدلا من القداس في الكنيسة.
من هنا لم يحدثنا التاريخ عن أن الشيخ محيي الدين بن عربي أو مولانا جلال الدين الرومي أو غيرهما من أعلام المتصوفة والعرفاء كانوا يؤدون قداساً في كنيسة. وهكذا لم نسمع عن مشاهير المتصوفة والقديسين المسيحيين انهم يؤدون صلاة في مسجد. لقد شدد المتصوفة والعرفاء المسلمون على ضرورة التطابق في البداية والنهاية بين "الشريعة والطريقة والحقيقة"، في مدارج سلوكهم وتجاربهم الروحية. فالشريعة تؤدي الى الطريقة، والطريقة تؤدي الى الحقيقة. ولايمكن تحقق الثانية بدون الأولى، مثلما لايمكن تحقق الأخيرة بدون الثانية.
10- أريد أن أستفيد من هذا اللقاء لتناول موضوع الحوزة الدينية، وقد ذكرتم مراراً أن تحديث الحوزة لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة نفسها، وليس من خارجها، وذلك كي لا يفتقر التحديث للمشروعية. كأستاذ في الحوزة الدينية، إلى أي مدى لمستم تغييرات وقيام إصلاحات جديّة فيما يتعلق بتغيير المناهج والأدوات والمفاهيم ومن ثم قيام رؤى جديدة في التعاطي مع قضايا الراهن والتجديد الديني والحفريات في المعرفة الدينية، بالاستعانة بفلسفة العلم والعلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة؟
الحوزة واحدة من مؤسسات المجتمع، تطورها لا ينفصل عن العالم البشري المتنوع الواسع، فهي ليست خارج الزمان والمكان الأرضيين، وليست عابرة للتاريخ الانساني، و تغيير عالمنا والمجتمعات البشرية لم يعد محكوماً بالأساليب والوسائل الموروثة، بل تجاوزت المجتمعات النمط الذي ظل فيه التاريخ تصوغه الايديولوجيات والأفكار والدعوات والمفكرون والأبطال، بعد انزياح عالمنا لصالح العالم الافتراضي، وسطوة تكنولوجيا المعلومات على كل ما يتصل بتدبير الشأن الدنيوي، وإعادة تشكيل الاجتماع البشري في سياق مختلف. وما تفاجؤنا به هندسة الجينات من نتائج، ربما تتخلخل فيها الشفرات الوراثية للنوع الإنساني، فضلا على غيره من الأحياء. إنها ترسم صورة بديلة لنموذج من بني آدم، قد تبتعد بالتدريج عن الخصائص المألوفة لدينا، حسبما أنبأنا اكتشاف الخارطة الجينية، والقدرة على التحكم بالـ"DNA"، وما سيفضي اليه من تنميط للنوع البشري. مضافا الى ما تعد به تكنولوجيا "النانو"، وغيرها من آفاق متنوعة للتكنوجيا. ولا تبدو الوتيرة المتسارعة للتحولات المناخية، وما ينجم عنها من كوارث طبيعية غير متوقعة، أقل أثراً في تفكيك بنية المجتمعات وتحولاتها. اما المشكلة الديمغرافية واختناق بلادنا بتكاثر عشوائي للسكان، والعجز عن توفير الحدّ المناسب للعيش الكريم لهم، فإنه يضعنا في مأزق مصيري، تتعطل معه المجتمعات وتتهشم مرتكزاتها وعناصر بقائها وديمومتها.كل ذلك يعيد ترتيب العناصر الفاعلة في بناء المجتمعات، ويخضع العوامل الأساسية التقليدية في حركة المجتمع الى تسلسل مغاير، تضمحل أو تختفي معه بعض العوامل المؤثرة، بينما يتعاظم تأثير عوامل ثانوية أو جديدة، وتنتظم الأولويات في نسق بديل، بعد المتغيرات النوعية الجديدة، وما تفرضه من آثار وحقائق غير معروفة.
العالم يتبدل من حولنا. العالم يتغير من حولنا. العالم يتطور من حولنا. الصمت لا يعزلنا عن العالم. لا يسمح لنا منطق التاريخ أن نبقى متفرجين في عالم يتغير فيه كل شئ. لا خيار لنا؛ سوى مواكبة متغيرات العالم، والاستجابة للإيقاع العاجل لوتيرة التطور. ومع أن ماضينا يطمح الى أن يتخفّى دائما في حاضرنا ومستقبلنا، لكن مكر التاريخ سيبتلعه، وتسحبنا قاطرة التاريخ الهائلة في مسيرتها. ففي "دراسة حكومية أميركية أجريت مؤخرا تبيّن أن 65 في المائة من الطلاب، في مرحلة رياض الأطفال، سيعملون في وظائف غير موجودة حاليا، بل سيتم استحداثها. وفي دراسة لجامعة أكسفورد تبيّن أن 47 في المائة من الوظائف الحالية في جميع المجالات الرئيسية ستختفي؛ بسبب التقدم التقني والتكنولوجي، إذ ستحل الأجهزة محل البشر، وذلك خلال عقد من الآن فقط .. وأن أكبر 500 شركة عالمية قبل 40 عاما، كانت أصولها المرئية تمثل 80 في المائة من إجمالي الأصول، لكن اليوم أصبحت الأصول غير المرئية، كالأبحاث والدراسات والاختراعات، تمثل أكثر من 80 في المائة من إجمالي الأصول في قائمة الشركات الـ500 الأولى عالميا"( صحيفة الشرق الأوسط 4-2-2015). هذا ضوء يكشف عن صورة عالم الغد. فهل ننتمي لهذا العالم، أو ننتمي لعوالم خارج عالمنا؟! وكيف يتغير كل شئ في هذا العالم، فيما نلبث نحن نكرر أنفسنا؟!
11- كيف تلخص رؤيتك لتحديث التفكير الديني؟
لا يمكن تخطي القراءة الموروثة للنصوص، وإنتاج قراءة تواكب العصر، مالم نعيد النظر بالبنية التحتية لتفسير النصوص، ونتخطى آليات النظر والمناهج الموروثة. أية بداية لتحديث التفكير الديني لا تبدأ بعلم الكلام، ومسلماته وقبلياته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز الى النتائج دون المرور بالمقدمات. تجديد الفقه ينبني على تجديد علم الكلام، ذلك أن خلفيات الفقه مسلمات ومقولات تحددها الرؤية الكونية، وحقلها هو علم الكلام.
هنا لابد من الاشارة الى ضرورة التفكير جديا بتحديث اللغة في الدراسات الدينية. اللغة مرآة حياة المجتمع في كل عصر. البيئة الفقيرة لغوياً فقيرة عقلياً. خصوبة اللغة وثراؤها؛ بقدر ماتقتل التفكير السطحي الملتبس، فإنها تحيي التفكير العميق الدقيق المنظم. حين تشيخ اللغة ويصيبها الوهن؛ تنضب فيها طاقة الأسئلة الكبرى، وتتفشى فيها كلمات واهنة، وعبارات هشة؛ تقول كل شئ، من دون أن تقول شيئاً له معنى. التحليل اللغوي يتيح لنا اكتشاف أنماط المعتقدات والقيم والمفاهيم والحوافز العميقة الموجهة لحياة المجتمع في ذلك العصر.
البحث اللغوي عند الأصوليين والفقهاء بلغ سقفا توقف عنده، وما يقال فيه ليس قولا جديدا، وانما هو شروح وتعليقات وشروح للشروح، وتفاصيل في التشعبات، وتفريعات داخل الفروع. ما يعدنا بأفق جديد؛ هو استيعاب المعطيات الراهنة في الألسنيات والهرمنيوطيقا وعلوم الدلالة والرموز، وتوظيفها في الدراسات الدينية.
12- هل أنجزت شيئا من وعودك في "تحديث التفكير الديني"، عبر المجلة التي أصدرتها "قضايا اسلامية معاصرة"، منذ عشرين عاما تقريبا، وما أصدره "مركز دراسات فلسفة الدين". المركز الذي أعلنت عن ولادته ببغداد سنة 2003، بعد عودتك من المنفى الى وطنك؟
بقعة الضوء مهما كانت صغيرة تفضح الظلام. سيظل ضوء الأفكار الجادة المنفتحة على الحاضر والمستقبل يفضح الظلام الذي يستبدّ بعالمنا .. أدركت قضايا إسلامية معاصرة لحظةَ صدورها، أنّ التفكير الديني في دنيا العرب تحتكره؛ المؤسساتُ الدينية من جهة، والجماعاتُ الإسلامية من جهة أخرى. المؤسّسات الدينية تواصل ترسيخَ التقليد والبناء على ما كان، لا ما ينبغي أن يكون، والجماعات الإسلامية لا تنتمي للتقليد روحا؛ بقدر ما تنتمي إليه شكلا وصورة وشعارا، ذلك أن مؤسّسيها وكتّابها لم يتكرّسوا بتكوين تراثي تقليدي، ولم يتسلحوا بأدوات تمكّنهم من الخوض في حقول الموروث الواسعة المتنوعة. فلا يعرفون شيئا في الغالب عن المعارف العقلية، كالمنطق والفلسفة وعلم الكلام، ولم يتوغلوا في أصول الفقه ومسالك الفقهاء المتشعبة في الاستنباط الفقهي. أما خبرتهم بالتفسير، فإنها مبسّطة، لا تعدو سوى محفوظات يجري تلقينُها في أدبياتهم. وكلّ ما يتصل بالعرفان والتصوف وميراث الحياة الروحية يخاصمونه، تبعا لمنظّريهم، بلا اطّلاع على مضامينه الخصبة. ويتفننون في ابتكار شعارات تبسيطية تعبوية حالمة، ذات تأثير سحري في تجييش المراهقين والشباب.
جاء صدور هذه الدورية إيذانا بتدشين مسار جديد لتحديث التفكير الديني، يستلهم أفقا يضئ لنا ما ينبغي أن يكون، بدل أن نلبث الى ما لا نهاية فيما كان. أفق لا يدعو لإقصاء الدين، بل يشدّد على أن الدينَ هو منطلق أية عملية للنهوض والتنمية والتحديث في مجتمعاتنا، يكون رأسمالُها ومادتُها المحورية الشخصَ البشري؛ كيفيةَ تربيته وتأهيله روحيا وأخلاقيا، وأن الدين هو المنبع الأساس في بناء حياته الروحية، وتطهير حياته الأخلاقية، وحماية الكائن البشري من الاغتراب الكوني، والقلق الوجودي، والعبثية، واللامعنى.
لقد كان لمجلة قضايا إسلامية معاصرة مقاربتها لمأزق التفكير الديني في عالمنا المعاصر، سعت من خلالها لتجاوز التبسيط، والقطيعة مع حالة الغرق في الماضي وأسيجته المنيعة، فغامرت باجتراح تفسير لا يخشى توظيف معطيات العلوم الإنسانية والمعارف الجديدة في قراءة النصوص الدينية، ولا يمتنع من الإفادة من خبرة فلسفة الدين الحديثة والمعاصرة في الكشف عن جوهر الدين، ونمط التجارب الدينية. وانتقلت بدراسة وتحليل ما يرتبط بالدين وتعبيراته في الحياة من الآيديولوجيا الى الإبستمولوجيا، فلم تدرس الدينَ بعقلية لاهوتية، ولم تنقد علمَ الكلام بعقلية كلامية. واهتمت بالكشف عن المهمة المحورية للدين في إرواء الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري، وحرصت على ضرورة عودة الدين الى حقله الأنطولوجي، بعد أن رحّلته الجماعاتُ الإسلامية الى الآيديولوجيا، وحوّلته الى وقود يحترق في عربة السياسة، وزجّته في الدولة؛ فأفشلت الدولةَ، وأمرضت الدينَ، وأفسدت رسالتَه.
وهذا ما دعى"المعهد البابوي في روما" التابع للفاتيكان الى أن يخصص كتابَه السنوي لمواد منتقاة من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، الذي صدر في ديسمبر 2012 ؛ اعترافا بالمهمة التي نهضت بها قضايا إسلامية معاصرة في تحديث التفكير الديني في ربع القرن الأخير، وبوصفها الدورية الأهم المتخصصة في الأديان باللغة العربية، الرائدة في اقتحام الحقول الممنوعة في التفكير الديني، واجتراح سؤال لاهوتي جديد، والعمل على كشف قصور مناهج النظر والمقولات الموروثة في ذلك التفكير اليوم، وتدشين مناهج للنظر وأدوات بديلة فيه، تواكب إيقاع الحياة الشديدة الغنى والتحوّل والتطور والتركيب.
أما "مركز دراسات فلسفة الدين" فقد تأسّس في المنفى، ودشّن جهوده في البحث والطباعة والنشر قبل عشرين عاما تقريبا، لكن إشهاره تأخر حتى عودتي من المنفى للوطن. منذ ذلك التاريخ أصدر المركز مضافا الى مجلته الفصلية "قضايا اسلامية معاصرة" سلاسل كتب عدة ، تجاوز عدد ما صدر فيها 200 كتابا. تناولت القضايا الإشكالية في التفكير الديني. وبدأ العام الماضي 2014 بإصدار "موسوعة فلسفة الدين"، التي صدر مجلدها الأول في 500 صفحة، والمجلد الثاني تحت الطباعة في 600 صفحة. وستصدر بقية المجلدات تباعا في هذه الموسوعة، حيثما يتم تحريرها، ونخطط أن تستوعب كل مسائل فلسفة الدين، في عشرة مجلدات. وهي تضم مساهمات لفلاسفة دين وباحثين عن الألمانية والانجليزية والفرنسية والفارسية، بموازاة النصوص العربية، بالرغم من شحة الأخيرة.
مع العلم ان مركزنا هو أول مركز أبحاث يتخصص بفلسفة الدين في المجال العربي. قلما نعثر على كتابات عربية جادة في هذا الموضوع البالغ الخصوبة والحيوية، والضروري لفتح آفاق بديلة لتحديث التفكير الديني، وبناء الحياة الروحية والأخلاقية الحقيقية الأصيلة.
بعد 12 سنة من جهود مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد وإصداراته المتنوعة، ومجلته "قضايا إسلامية معاصرة"؛ قرّرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إدراج "فلسفة الدين" في المقررات التعليمية لأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية.كذلك تناولت مجموعة رسائل ماجستير ودكتوراه هذا الموضوع ومسائله المتنوعة في السنوات الأخيرة. فضلا على تبني بعض أقسام الفلسفة في الجامعات العربية لتعليم فلسفة الدين في مختلف مراحل التعليم العالي، والاتجاه الجديد لطلاب الدراسات العليا بالبحث والكتابة في هذا الموضوع.