في البحث والدراسة والنقاش العلمي والذاكرة..، يحضر ابن خلدون كأحد أعلام تراث عربي اسلامي وكوني شامخ، ويحضر كجرأة علمية وتحليلِ عَالِمٍ لا يزال مثار أسئلة بهيبة معبرة في حقول معرفيةٍ انسانيةٍ عدة ومتداخلة. ولعل هذا العلامة المؤرخ هو القرن الرابع عشر والعالم العربي الإسلامي ومجمل ما عرفه حوض المتوسط من تحولات على أكثر من صعيد، وهو التاريخ والعقل والذاكرة والذكاء والدهاء السياسي... أخذ العلم فتوفق وفاض علماً وطلب السياسة فاعتلى مناصب وتعرض لِما تعرض من حسدٍ وسجنٍ..، وارتحل شرقاً وغرباً وركب مخاطر بحر وقصد مصر والشام والقدس والحجاز... وعندما يذكر ابن خلدون تذكر مُقدمته التي اشتهر بها واشتهرت به، كعمل علمي أثار عناية كل فئات مجتمع البلاد العربية الإسلامية والعالم، فأحيط ولا يزال بكثير من الدراسة والبحث والجدل... هو تونسي مولداً (1332 م) بوسط أسري كان بأثر بليغ في تكوينه، بكيفية خاصة والده الذي كان محبا للأدب والعمل السياسي ما جعله أول أساتذته. وبقدر قيمة تميزات حياته ومنهجه وفلسفته في الحياة، بقدر ما كان بأثر في مجال تماساته تحديداً حوض المتوسط، من خلال ما كان عليه من إشعاع علمي وعلاقات ودرجة تواصل وتأثير بين أطراف وعاء بحري عميق الحضارة، ما كان بصدد تحولات دقيقة وعميقة خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي، حيث معالم نهضة في ضفة شمالية ومظاهر انحطاط وضعف في ضفة جنوبية.
لقد كان نقد ابن خلدون لسابقيه في فعل الفكر والمجتمع والأسطورة والمثال والغيب والمادة، بسبب عدم تأسيس وانطلاق أعمالهم من حركة التاريخ الجوهرية، واقتصارهم في تفاعلهم على قضايا بمثابة هوامش تخص أنشطة وحياة واهتمامات حاكمين وشخصيات بأبعاد بطولية.. ونقده لمن سبقه من مفكري عصره لم يفقد قيمته، بل لا يزال بأهمية في الوقت الحاضر خاصة ما يتعلق بما هو سوسيولوجي واجتماعي. وأهمية رؤية ابن خلدون للتحولات وللحياة جعلته يقيم قاعدة قوية لفكر اجتماعي علمي، وهو الفكر الذي يقوم على مبدأ وقانون التطور. وعليه، فقد تمكن من تقديم مشروع ومن صياغة متماسكة لمفهوم "الوجود الاجتماعي المادي".
والواقع أن فكر ابن خلدون وانتقاداته ظلت بتأثير محدود في عصره وفي المجال المتوسطي، بل مهملة طيلة عصر وسيط (زمن إقطاع) إلى أن ظهرت معالم فكر مادي تاريخي خلال القرن التاسع عشر بأوربا. التحولات الفكرية التي كانت وراء تزايد الاهتمام بإرث ابن خلدون الفكري والفلسفي، ما يظهر بقوة وجلاء من خلال رسالة بعث بها، "مكسيم غوركي" إلى المفكر الروسي "انوتشين" سنة 1912، جاء فيها" إنك تنبؤنا بأن ابن خلدون في القرن الرابع عشر كان أول من أظهر دور العوامل الاقتصادية. وعلاقات الإنتاج، إن هذا النبأ قد أحدث وقع خبر مثير واهتم به صديق الطرفين (يقصد لينين) اهتماما خاصا". وبهذا الصدد كتب أنوتشين: "اهتم لينين اهتماما شديدا بمؤلف الفيلسوف العربي ابن خلدون "المقدمة" الذي يتناول دور العوامل الاقتصادية، وكان لينين يتساءل "ترى أليس في الشرق آخرون أيضا من أمثال هذا الفيلسوف؟". مقدمة ابن خلدون هذه تشيد من ناحية بكبار المؤرخين الذين أعطوا للتاريخ الإسلامي مكانته، وتكشف عن أخطاء كبرى وقع فيها هؤلاء من ناحية ثانية أمثال الطبري والمسعودي ...
لقد بدأ اشعاع ابن خلدون كفكر ومنهج ومعرفة وتاريخ بحوض المتوسط، وبدأ جميع ما أسهم به تعميقا بقصد فهم الأحداث وتقارب الأفكار..، مع فترة تقلده لوظائف ديوانية وسياسية استغرقت تقريبا ربع قرن من 751 هـ إلى 776 هـ، الفترة التي قضاها متنقلا بين بلاد المغرب الأدنى والأوسط والأقصى وبين بلاد الأندلس، إنما أساساً بعد تأليفه للمقدمة وتنقلاته إلى مصر والشام والمغرب. كلها أنشطة وجهود علمية خلدونية كان لها أبعد الأثر على مستوى تغيير النظر إلى التاريخ، وإلى منهجية كتابة الأحداث التاريخية في زمن كان يعرف متغيرات عميقة دافعة بالمجتمع العربي الإسلامي إلى الانحطاط. فقد أورد في هذا الصدد: " وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة، فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة...". وكتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من السلطان الأكبر"، حضي بمكانة هامة عند علماء وباحثين من مستويات عدة من العلوم كعلم الاجتماع والتاريخ وعلوم السياسة، والاقتصاد...لكون ابن خلدون تناول كل هذه العلوم، ومن هنا سلطة ودرجة إشعاعه في زمانه وفي المجال الجغرافي الذي كان يشتغل فيه، وكذلك مناطق الجوار التي كانت تصلها أصداء ما كان عليه وبصدده أنذاك من تناول لعلوم سابقة إنما من خلال علم العمران البشري.
ورغم عدم اتفاق البعض مع "توينبي" المؤرخ الانجليزي في وصفه لابن خلدون ب" نجم مذنب لمع في سماء الحضارة العربية الإسلامية ثم تلاشى بدون أثر"، فابن خلدون يبقى بلا جدال من مؤسسي التاريخ الاجتماعي، ومن مؤسسي الرؤية التي حولت مجرى التاريخ من حقل الإنسان إلى حقل الجماعة، من الله إلى الطبيعة ومن الخاصة إلى العامة ضمن منظومة من الشروط والأحداث سماها علم العمران البشري. والتركيز على المجتمع وليس الفرد كان من أسباب الاهتمام بابن خلدون طيلة قرون، ومن عوامل ما حققه من إشعاع في البلاد العربية الإسلامية وفي الخارج. ويظهر أن ابن خلدون يقول بالتاريخ الشمولي العالمي فما عنوان كتابه إلا دليل على هذا التصور والتوجه، وعبارة "ديوان المبتدأ والخبر" تدل بوضوح على ضرورة الإحاطة بكافة العلوم إذا أريد للتاريخ أن يفهم على حقيقته. وهو يؤكد على العلاقة الجدلية بين ازدهار العمران البشري والاقتصادي، وبين التقدم الفكري والعلمي وازدهار صناعة التأليف . وكان حكم ابن خلدون قاسياً تجاه العرب متهما إياهم بأنهم خربوا العمران في كل ما فتحوه من الأقطار، وهنا جرأته وإشعاعه في الفكر على صعيد المنطقة العربية.
لقد حاول قلة من المؤلفين أن يقتبسوا شيئا من آراء ابن خلدون أو يتأثروا به في كتاباتهم، ومعظم هؤلاء كانوا ممن تتلمذوا عليه أو عاصروه أو عاشوا بعده بزمن طويل. وكان أكثر هؤلاء تأثرا به وبآرائه "الأصبحي" الذي عاش خلال القرن التاسع الهجري أي بعد وفاة ابن خلدون بزمن قصير وكان من أهل الأندلس، أما "المقريزي"مم الذي كان تلميذا لابن خلدون ومعجبا به فقد سار على نهجه في بعض مؤلفاته ك"إغاثة الأمة بكشف الغمة"، وحلقة المقريزي في الفكر العربي الإسلامي هي امتداد لفكر ابن خلدون، وهناك وحدة عميقة بين الُمفَكِّرين تظهر في المؤلفين "المقدمة" و"إغاثة الأمة بكشف الغمة". والاهتمام بابن خلدون وبالمقدمة تحديداً لم يبدأ إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، كسبق ومبادرة من الأروبيين لإعجاب هؤلاء بالمقدمة. وقد انكب العرب على دراستها من باب التقليد، وتمت ترجمة المقدمة (منهجية ابن خلدون) إلى عدة لغات حيث بدأ التهافت على قراءتها واقتناءها. كما أن الدعوة إلى الاحتفال إحياء "لذكرى ابن خلدون منذ 1932، كانت مبادرة أدبية وعلمية استجابت لها كل البلاد العربية. وعليه، فقد نظمت عدة لقاءات علمية للإشادة بفكره وبما خلفه من إشعاع على المستوى العربي والمتوسطي ثم العالمي. ولا بد من الإشارة إلى أن الاهتمام بفكر ابن خلدون بأروبا، بدأ مع بداية القرن التاسع عشر من طرف مستشرقين فرنسيين وألمان. وكقد أطلق على ابن خلدون "منتسكيو العرب"، وكان الفرنسيون في مقدمة المهتمين بهذا العلامة العربي وهذا الاهتمام يعود لوجود فرنسا في الجزائر، وللرغبة في معرفة الخصوصيات الفكرية والثقافية والتاريخية لتوسيع مجالها الاستعماري في بلاد المغارب من خلال فكر وكتابات ابن خلدون.
وكانت عناية الأتراك بمقدمة ابن خلدون قد جاءت من خلال ما أورده في شأن قضية وإشكالية الخلافة الإسلامية علما أن رأيه كان ينسجم ومصلحة الأتراك ودولتهم، فقد ذكر أن النسب القريشي ليس ضروريا في الخلافة والخليفة وعلل هذا تعليلا علميا واجتماعيا قويا، وقد وجد العثمانيون في هذا الرأي ضالتهم التي كانوا ينشدونها منذ زمن بعيد. ومعروف أن آل عثمان ادعوا الخلافة لأنفسهم رغم أنهم غير قرشيين، وكان يحرجهم ويسيئهم ما أجمع عليه الفقهاء والمسلمون قديما عندما اشترطوا النسب القريشي لتولي الخلافة. ومن الطرائف التي تروى في هذا الصدد أن الحكومة العثمانية ترددت طويلا في السماح بطبع كتاب صحيح البخاري في الاستانة عند بداية تأسيس المطبعة هناك، لأنه كان يحتوي على الحديث القائل بأن "الأئمة من قريش". وكانت الدولة العثمانية قد سيطرت على العالم الإسلامي بقوة العصبية والسيف، وهي على هذا الأساس حسب نظرية ابن خلدون تستحق الخلافة، وهذه القاعدة كانت من الأسباب التي دفعت المؤرخين العثمانيين لدراسة أطوار الدولة العثمانية على ضوء هذه النظرية.
وقد اهتم الأتراك بمقدمة ابن خلدون وتأثروا بها واقتبسوا منها منذ القرن السابع عشر الميلادي، فقد ظهرت ترجمة لها باللغة التركية قبل ترجمة الأروبيين لها بمدة تزيد عن القرن، وهنا السؤال يقول "ساطع الحصري" في تفسير عناية الأتراك بالمقدمة: "إن الفتوحات العظيمة التي قامت بها الدولة العثمانية، استلزمت ظهور سلسلة من المؤرخين رسميين وغير رسميين، وكان هؤلاء المؤرخون يقرأون المؤلفات العربية بحكم الثقافة التي كانت سائدة في ذلك العهد، فكان من الطبيعي أن يطلعوا على مقدمة ابن خلدون ويعجبوا بها إعجابا شديدا ويتأثروا بها تأثيرا عظيما"، وهذا الإشعاع العلمي المعرفي والمنهجي هو الذي كان لابن خلدون ولا يزال لدى الدول وللشعوب ولدى مفكري حوض الأبيض المتوسط.
الجانب الدبلوماسي في حياة ابن خلدون جعلت منه شخصية بإشعاع كبير خارج البلاد العربية، وهو نفسه اعترف بما كان لمهامه وتنقلاته لأغراض سياسية، من آثار على مداركه وعلمه وتعميق تمكنه من السند على عكس باقي علماء المغرب خلال القرن الرابع عشر الميلادي. فقد تعرف من خلال أنشطته الدبلوماسية على أمراء تونس وفاس، وعلى أمير غرناطة وملك قشتالة وأمير بجاية وقسنطينة...كما حضر الاستقبالات والاحتفالات التي تقام لفائدة علية القوم، وحضر مجالس على درجة من التفكير والتسيير. وكان محاورا جيدا للملوك وللأمراء في إفريقيا وأروبا وأسيا. وإشعاع ابن خلدون من خلال هذه المهام في السفارات جعلت منه رجلا خبيرا في معالجة المستعصيات ومقارعة المشاكل، وقد وضع لنفسه بطاقة فيها نبذة عن حياته كان يقدمها للذين يهمهم أمر معرفته. كما أن الإشعاع الدبلوماسي لابن خلدون الذي بدأ من بلاط تونس ثم بلاط فاس، فقد جعله من أبرز الذين عهد إليهم باستقبال سفارة السودان التي بعث بها إلى المغرب سلطان مالي، "ماري دياظ". واحتكاك ابن خلدون لأول مرة مع العالم المسيحي، كان من خلال اختياره سفيراً باشبيلية عاصمة قشتالة، المناسبة التي سمحت له بزيارة معالم المدينة والوقوف على آثار آبائه بالعاصمة الأندلسية.
وكانت قوة ابن خلدون قد ازدادت أولا عندما تفادى إغراءات عاهل اسبانيا "بيير الأول"، من أجل الاستقرار نهائيا بقشتالة مقابل تمكينه من أملاك أجداده، وثانيا عندما ظل متعلقا بالمغرب من خلال ارتدائه للزي المغربي، وهو كاتب عند بني مرين وفي القاهرة وعند اجتماعه مع ملك التتر. وكانت له مساعي ناجحة في إعادة العلاقات المغربية المصرية بعد طول ركود، وكان بأدوار مهمة في دعم السلطان الظاهر برقوق في وقف زحف التتر في بلاد الشام (ربيع الأول 803 هـ نونبر 1400 م)، وتحقيق الأمن في المنطقة بالإفراج عن دمشق من قبل الملك التتري "تيمورلنك". والذي في مقابلة معه قدم معلومات عن طنجة وسبتة وفاس وسجلماسة بطريقة مشوقة، فكانت مناسبة حضر فيها ابن خلدون لمجلس فتوى للاستشارة في نازلة سياسية تتعلق بالخلافة الإسلامية. وكان اشعاع ابن خلدون قد تقوى أكثر، من خلال نجاحه في وساطة بين مصر والتتر والتي اعتبرت من أدق الوساطات وأكثرها جرأة.
لقد توافقت أفكار ابن خلدون ومكيافيلي علماً أنهما عاشا في محيطين حضاريين متعارضين، بدون أي دليل في تأثير الأول على الثاني. ويتأسس رأي عبد الله العروي صاحب مؤلف "مفهوم التاريخ" حول هذا التوافق على ثلاث عوامل أساسية: تجربة في الحياة متشابهة، ظروف اجتماعية تاريخية متقاربة، ومواقف معرفية واحدة. فابن خلدون عاش في شمال افريقيا قبل أن يرحل إلى المشرق، ولم يتعرف على أروبا المسيحية إلا من خلال سفارة قصيرة المدة لدى ملك قشتالة في اشبيلية. كما أن مكيافيلي عاش طوال حياته في فلورنسا، ولم يخرج عن إيطاليا إلا لفترات قصيرة في سفارات لدى أمراء فرنسا وألمانيا. وابن خلدون عاش في ظل كيانات ضعيفة منحطة 1332- 1406، خلافاً لمكيافيلي الذي عاش في زمن نهضة وبداية تفوق أروبي.
وإذا كان هناك اختلاف في ظروف زمان ومكان الرجلان فهناك تشابه بينهما من حيث التجربة، عندما اقتنع مكيافيلي بأن دوره السياسي قد انتهى فتوجه إلى مكان بعيدا عن فلورنسا وتفرغ لدراسة تاريخ روما فألف كتاب "الأمير"، أما ابن خلدون فقد ودع السياسة في بداية عقده الخامس ليتفرغ إلى كتابة التاريخ. وعليه، فالرجلان يلتقيان في نسق واحد هو من السياسة إلى التاريخ، ومن التاريخ إلى قوانين ثم إلى علوم جديدة تبحث في أعمال الإنسان. إن الخطوة التي ميزت كل من ابن خلدون ومكيافيلي داخل حضارتيهما وقربت بينهما وقادتهما إلى أحكام متشابهة، هي رفضهما المبدئي للطوباويات والإيمان بالواقع والوقائع. مع أن هناك خطوة ثانية تتعلق بالأدلة والبراهين لدراسة الحياة الواقعية، وأن ما يميز ابن خلدون ومكيافيلي هو دراستهما للواقع دراسة عقلية. وكلاهما اكتشفا معا قاعدة الاجتماع والسياسة، وفي هذا الاكتشاف يكمن سر التقارب وأحيانا التطابق في الأفكار والتحليل، ومن هنا قيمة الإشعاع الفكري العلمي والتنظيري عند ابن خلدون في حوض المتوسط وبالنسبة للفكر الإنساني ككل.
يقول ابن خلدون في المقدمة: فصل في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها، "والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس، ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجات ...". إن هذا الطرح الخلدوني حول فصل العلماء عن السياسة، يدفعنا للتساؤل حول ماهية العلم المقصود في النص ومفهوم السياسة عند ابن خلدون، وأي علماء هل الواقعيين المنخرطين أم المنظرين المجردين المثاليين البعيدين عن الواقع وعن متطلباته. وقد بين ابن خلدون بوضوح في آخر هذا الفصل أن أهل العلم المقصودين بهذا الابتعاد عن السياسة، بقوله: "ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوسات". ولهذا يرى ابن خلدون أن التنظير هو ذلك الذي ينبني على كل ما هو ممارسة ومعايشة للأحداث، وهو نفسه كان من الممارسين للسياسة ولما انفصل عن الجو السياسي قارب السياسة برؤية واقعية لِما تقتضيه في الحكم. وقد كان ابن خلدون بهذه الطروحات العلمية في مجال فصل العلم عن السياسة، بأثر في مفكري زمانه وفي الفترات اللاحقة ومن هنا إشعاعه العلمي والنقدي والمنهجي.
ومعروف على أن العلوم الاجتماعية نشأت وتطورت داخل المؤسسات الجامعية ومدارس العلوم الإنسانية، خلافاً لِما حدث بالنسبة للخلدونية والماركسية. فالخلدونية جاءت كحصيلة شروط عيش مر بها ابن خلدون ضمن سياقات تاريخية وعوامل تشكل وتكون "العصبية"، التي ترتبت عنها مؤسسات سياسية (كيانات حاكمة). وبعبارة أخرى التجارب السياسية (دولة المغرب العربية الإسلامية) نشأت فعليا وموضوعيا خلال العصر الوسيط، ومن خلال الفلسفة العامة (المجتمع)، الدين الإسلامي، والتحالفات ذات الأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية والحضارية والاديولوجية. كما أن الخلدونية نشأت من خلال الانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري، أي في فترة ولادة وانحلال السلطة السياسية الحضارية. والخلدونية تجربة اجتماعية (مغربية) (المغرب الجزائر، تونس)، وهي نظرية تشكلت نتيجة فلسلفة عيش ومراقبة فعالة ومشاركة عملية، ونتيجة التزام موضوعي يقوم على شروط معارف علمية واديولوجية، وفي مجتمع هو الغرب الإسلامي خلال القرن الرابع عشر الميلادي. كما أن الخلدونية تؤكد وترى أن التكون الحضاري من خلال العمران البشري، يترتب عنه تشكيل أنظمة سياسة تقوم على العصبية بعيدا عن أي صراع للطبقات كما تتحدث عنه الماركسية، وأن العصبية هي وجدان موضوعي وذاتي يوجد عند الفرد والجماعة وأنها ضرورة وجود واستمرارية. وتختلف الخلدونية عن الماركسية اختلافا كبيرا خاصة فيما يتعلق بمصدر تكون السلطة (الدولة)، فابن خلدون وماركس يتفقان في أن الدولة ليست واقعا ولا كيانا منفصلا على الشروط والعلاقات الاجتماعية، لكنهما يختلفان في مصدر وعامل تكون السلطة (العصبية. الطبقة. النخبة). ويرى ابن خلدون أن السلطة هي أمر طبيعي يتحقق به إدماج الأفراد اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا وإيديولوجيا، وأن الدولة هي اتحاد الأفراد ضمن عصبية.
طرح ابن خلدون في مقدمته الشهيرة كثيرا من المبادئ والأسس ذات العلاقة بالمعرفة وبالعلوم، لكن ما أورده في مجال الاقتصاد تجعله أحد رواد الفكر الاقتصادي السياسي قبل " أدم سميث" بقرون(380 سنة). وأفكار ابن خلدون لم تؤسس لعلم الاقتصاد من خلال حديثه عن الإنتاج والعرض والتكلفة فقط، بل أفكاره كانت رائدة حول مسألة الاستهلاك والمنفعة والطلب والتي تشكل قواعد نظريات علم الاقتصاد الحديث. وهو ما يتبين في فصول "المقدمة" الخاصة بمعنى التجارة ومذاهبها وأصنافها، ونقل التاجر للسلع والاحتكار. والصنائع تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها". فنظرية القيمة التي يرجعها معظم مفكري الغرب الاقتصاديين إلى "أدم سميت" وإلى "دافيد ريكاردو"، كان ابن خلدون سباقا إليها. فالعمل عند هذا الأخير هو مصدر القيمة وأساسها، ومن هنا فهو أول من حاول تفسير ظاهرة الفروقات المالية في الدخل، وربط هذه المسألة بالنوعية في المهارة وحجم السوق والمكان والحرفة والقدرة الشرائية، ويرى أنه كلما زاد الطلب على سلعة ما ارتفع دخل صانعها ففي هذا الصدد يقول:" وإن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه إليها النفاق كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم، وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لا تنفق سوقها ولا يوجه قصد إلى تعلمها فاختصت بالترك وفقدت للإهمال". وإذا كان الاقتصاديون قد تحدثوا في أدبياتهم على أن الربح هو ثمن المخاطرة، فإن ابن خلدون كان قد سبق إلى قواعد نظرية الربح فقال: "اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال، بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء... وذلك القدر النامي يسمى ربحا،. فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه". لقد كان ابن خلدون من أنصار الملكية الخاصة على أساس أنها حافز فردي، وأن نزع الملكية أشبه بعملية انتحار ذاتي وجماعي وشكل من أشكال تخريب وخراب اقتصادي.