يعتبر محمد شكري ذا قيمة أدبية كبرى، فمن الأمية أتى هذا الكاتب المغربي المتميز ليتربع على عرش الرواية العربية، فهو كاتب استثنائي في الثقافة المغربية والعربية، وهو بمثابة نهر متدفق لا يكف عن الجريان، ولا يتوقف عن الفيض في الإبداع والعطاء، فقد حرص على ألا يكون كاتبا منعزلا يخاطب القراء من "البرج العاجي" بل على أن تعكس كتاباته واقع الناس ، فوظيفة محمد شكري من خلال رواياته لا تختلف عن مهمة المؤرخ الذي يبني الوقائع الماضية أو يتحدث عن وقائع كما هي.
تحدث محمد شكري عن وقائعه اليومية التي حدثت في فترات من حياته من خلال التطرق لمجموعة من الظواهر الاجتماعية وكذا التاريخية، كرواية "الخبز الحافي" و رواية " زمن الأخطاء" التي هي موضوع القراءة، فمن خلالها قدم بانوراما لمراهق أتى من مدينة طنجة، والتي قال عنها بأنها مدينة لم تكن تقل خطورة عن المدن المعروفة بالقرصنة والاغتيالات والمؤامرات، لذلك كانت في عهدها الدولي تعرف بمدينة المافيا وتصفية الحسابات، إلى دراجة أنهم وصفوها بالفرنسية TANGER، كانت تشكل ملجأ ومحمية للمجرمين والمضاربين والمتاجرين في الممنوعات، والمتابعين في بلدانهم الذين كانوا يخلون بسيادة نضامها المتعدد الجنسيات.
إن الحديث عن الفضاء الإنساني في طنجة في هذه الفترة فيه كثير من التعقيدات1. هذا ما دفعه إلى مغادرتها متوجها إلى مدينة العرائش من أجل التعلم، حيث بدأ في سن متقدمة وذلك من أجل وضع حد بينه و بين البؤس، وبعد لجوئه إلى المدرسة بدأ يحكي عن الأوضاع التعليمية التي كان يعرفها المغرب آنذاك من خلال الحديث عن مطعم المدرسة الذي قال عنه بأن وجباته كانت غير صحية. لينتقل إلى الحديث عن المعلمين الذين كانوا لا يقومون بدورهم كمدرسين، كما أشار إلى المشاكل التي عاشها في مسيرته التعليمية، وعلى الرغم من ذلك فقد حاول التعلم من خلال الالتجاء إلى مجموعة من الأصدقاء الذين ذكرهم في الرواية.
وهذه الكتابات التي قام بكتابتها مثل رواية "زمن الأخطاء" هي سيرة ذاتية اعتبرت عند صدورها بمثابة وثيقة اجتماعية تاريخية تحكي عن طفولته وشبابه وعلاقته بالعائلة والمجتمع، ويشارك فيها الجيل الذي عايشه وكما أشار في إحدى حواراته مع يحيى بن الوليد، كلنا أولاد الأكواخ أي (دور الصفيح).
وبخصوص الكوخ الذي كانت تعيش فيه عائلة شكري، يمكن القول بأنه ظهر مع المستعمر الفرنسي بعد عملية التصنيع التي قام بها في المدن الساحلية كطنجة والرباط والدار البيضاء، وهكذا تبدو أحياء الصفيح مرتبطة أشد الارتباط بحركة التصنيع التي شهدتها المدن المغربية وخاصة الساحلية منها 4.
ونجد أن هذه الأكواخ كانت تتميز بصغر حجمها حيث أشار الراوي في "زمن الأخطاء" إلى أنه ينام هو وأخواته في غرفة واحدة والغرفة الثانية كان فيها أبوه وأمه. هذا سيدفع بنا إلى القول بأن المسكن كان له دور في ذلك التوتر الذي كان بينه وبين أبيه، فالمسكن الصغير غالبا ما كان لا يتسع للعب الأطفال، الأمر الذي يجعل الأطفال في حالة عصبية دائمة، ويتأثر الرجل أو الأب بهذا الوضع لأنه أصبح لا يستطيع الراحة في منزله أو الانفراد بزوجته، وبلا شك يؤدي به مثل هذه الوضع إلى تعاسة الأبناء والآباء 5، وكان للمسكن دور في ظهور مجموعة من الأمراض التي ذكرها الراوي في روايته والتي أصيب بها عدد من أفراد عائلته، فمعظم هذه الأكواخ كانت تعاني من عدم توفر المياه الصالحة للشرب، ولذا يلجأ السكان إلى الآبار الجوفية التي لا تحيطها وسائل التنقية اللازمة وتمثل مصدرا من أخطر المصادر على صحة المواطنين، لما تنقل إليهم من أمراض طفيلية – معوية – معدية – كلورية ... الخ 6، إضافة إلى إهمال البلديات لأحياء الصفيح بعدم إرسال الشاحنات لجمع الأزبال، أزبال المنازل التي تضل بالقرب من الأكواخ لعدة أسابيع حتى تبلى، مما يعرض السكان لخطر الجراثيم ويسهل تكاثر الذباب والحشرات التي تفتك بالأطفال على وجه الخصوص. وقد أشار الراوي إلى أنه كان لديه إخوة كثر لكنهم ماتوا بأسباب تلك الأمراض وذلك في غياب المرافق الصحية، وهذه ظاهرة كانت تسود المجتمع المغربي في تلك الفترة.
وإلى جانب ظاهرة الأكواخ، كانت هناك ظاهرة تسود المجتمع أنداك ولازالت والتي تطرق إليها شكري بشكل كبير، وهي ظاهرة الدعارة أو البغاء، والبغاء هو ممارسة الجنس مقابل المال دون أن تكون هناك علاقة بين الرجل والمرأة 7. وهي ظاهرة انتشرت وبكثرة خلال تلك الفترة التي عاشها الراوي ولازالت قائمة إلى يومنا هذا، فهي ظاهرة توصف بأنها أقدم مهنة في التاريخ، حيث ظهرت في أمم سابقة، وكما يقول الباحثون السوسيولوجيون بأنها ظاهرة لن تنتهي إلا بانقراض النوع البشري، فهي نشاط غير شرعي، هذا من الوجهة القانونية وحتى الدينية. ولا تكاد تخلو أي دولة ولا مدينة ولا حتى متجر في منطقة نائية من ممارسيها والمستفيدين من انتشارها.
وفي المغرب لا يكاد الحال يختلف عن محيطه، فعلى الرغم من التجريم القانوني والتحريم الديني، إلا أن الظاهرة موجودة باعتراف الدولة و نشطاء المجتمع المدني. ففي الرواية أشار محمد شكري بأنه في يوم من الأيام جاءت حملة تطهيرية لأولئك المومسات اللواتي لم يخضعن لكشف طبي قبل ممارستهن للجنس غير الشرعي.
نجد أن الموضوع المتعلق بالدعارة يبدو أكثر تعقيدا، حيث لا توجد أبحاث ولا دراسات ولا هيئات من شأنها اغناء البحث في هذه الظاهرة. ولا توجد سوى تفسيرات قديمة تقول بأن الفقر هو السبب الذي أدى بتلك الفتاة التي لم تكن كل أحلامها أن تصبح ممتهنة جنس، ولا أن تكسب قوتها عن طريق الحرام. فالفقر إذن والمشاكل الاجتماعية وقلة التعليم من الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى ممارسة الدعارة، وأشار إليها الراوي في روايته "زمن الأخطاء" حيث قال عن كتاباته حول هذه المرأة الداعرة، "فكتاباتي عن المرأة الداعرة أدين بها للأسباب الموضوعية التي زجت بها في مهنتها" 8.
أما أبرز النتائج فهي تتمثل في اختلاط الأنساب وانتشار الأمراض، لأن للبغاء أخطارا صحية ونفسية تهدد كيان الفرد والمجتمع، ويحلل هذه الأخطار بقوله" تعتبر كثرة الأمراض الجنسية وانتشارها من أهم الأخطار السيئة للبغاء، وحتى مع وجود مراقبة صحية من قبل المسؤولين تطبق على محترفات البغاء، إلا انه سوف يصعب تطبيقه على الهاويات المستجدات على المهنة 9. فاتساع نطاق الظاهرة هو انطباع غير مسنود إلى دراسة علمية، فمن الشقق المفروشة إلى الملاهي الليلية كما أشار محمد شكري في روايته يتبين لنا حجم الظاهرة، أما رقم معاملاتها فلا يقل ضبابية عن ممتهنيها. ومن أجل القضاء ولو بشكل أقل على هذه الظاهرة، لابد لنا أن نعود إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية من أجل بناء إنسان حضاري. وهذه الظاهرة تطرق إليها محمد شكري في روايته "زمن الأخطاء" من أجل إثارة الرأي العام.
والى جانب ظاهرة الدعارة تطرق الراوي إلى موضوع أخر لا يقل أهمية عن سابقيه، وهي الأوضاع الصحية التي كانت ولازالت تعيشها مستشفيات الأمراض العقلية في المغرب، فالمرض العقلي أو الجنون ظاهرة حضارية تتواجد في كل المجتمعات، لكن هناك اختلافا في التعامل مع هؤلاء المجانين من مجتمع لأخر، وهنا سأطرح سؤالا: كيف يتعامل المجتمع مع هاته الظاهرة التي هي الجنون؟.
ومن خلال ما رواه شكري أثناء دخوله مستشفى ميوركا والمارستان، يتبين أنه كان هناك إهمالا لهؤلاء المجانين وهم كانوا يعيشون في حالة مأساوية، وأكبر دليل على ذلك هي تلك الفتاة التي حملت أكثر من مرة دون معرفة مرتكبي الفعل، والى ذلك الصراع الذي كان ينشب بين المرضى مخلفا أثارا دموية على أجسامهم، إضافة إلى ذلك المريض الذي كان يأكل الزجاج وشفرات الحلاقة في غياب مسؤولي المستشفى، وعلى الرغم من كل ذلك نلاحظ أن هؤلاء كانت تخرج من أفواههم الحقيقة والصدق مثل ذلك المجنون الذي قال للراوي بأنه يريد أن يحكم بلباس أبيض، لأن رجال العدالة اليوم يحكمون بلباس أسود.
والى جانب هاته الظاهرة تطرق محمد شكري لظاهرة أخرى كان يعرفها المجتمع المغربي أذاك ومازال، وهي ما يسمى اليوم الهدر المدرسي من خلال حديثه عن ذلك التلميذ المجتهد وخاصة في مادة الرياضيات، الذي انقطع عن دراسته بسبب مشاكل أسرية ومادية كان يتخبط فيها.
إضافة إلى ما ذكر، نجد أن محمد شكري تطرق إلى مجموعة من الأحداث التاريخية، كحديثه عن فرانكو والحرب الأهلية الاسبانية، وهي الحرب التي امتدت ما بين سنتي 1936 و1939م، وهي حرب أهلية كانت بين الجمهوريين والقوميين نتيجة الانقلاب على الجمهورية الاسبانية في مدريد والتي قام بها مجموعة من الجنرالات من بينهم فرانكو الذي جاء الحديث عنه في الرواية بكونه ديكتاتوريا. فهذه الحرب قد شارك فيها مغاربة وأجانب حيث قال محمد شكري بأن أباه قد شارك في حرب فرانكو، وأنه كان يتباهى أمام أصدقائه من خلال الحديث عن بطولاته.
صحيح أن المغاربة الذين شاركوا إلى جانب قوات فرانكو، تميزوا بشجاعتهم وبسالتهم وكفاءتهم القتالية وإتقانهم الكبير لحرب العصابات 10. إلا أن شكري يقول عن أبيه بأنه كان جبانا وأنه فر من حرب فرانكو، الذي شارك فيه عدد كبير من المغاربة، حيث نقل أكثر من ثلاث وعشرين ألف جندي من قوات الصدام المغربية حتى أواخر شهر نوفمبر 1936م أي حوالي ثلثي جيش إفريقيا 11. وحسب القرائن التاريخية، فان الانقلابيين اتخذوا الإجراءات الضرورية والاحتياطية لمباشرة عمليات التجنيد في صفوف المغاربة 12. وعلى الرغم من معارضة أو رفض بعض الأسر انخراط أبنائها في جيش فرانكو، لكن ولمجموعة من الأسباب أو المشاكل التي كان يتخبط فيها المجتمع المغربي آنذاك، كالجفاف والفقر و المجاعة، هذه كلها عوامل دفعت بالمغاربة إلى الانخراط في جيش فرانكو، وهذا ما أكدته المؤرخة الاسبانية "ماريا روزا" بقولها: لقد انخراط المغاربة بكثافة في صفوف الجيش الاسباني، وكان ذلك بسبب سنوات الجفاف الأولى (1934-1935م) وظروف سنوات الحرب 1937م. الأمر الذي سهل مأمورية القياد، وبالمقارنة مع راتبهم الشهري، كانوا هناك أكبر عدد من المجندين رهن إشارة فرانكو.وبالمقابل كان المغاربة يحصلون على الأكل والشرب، واللباس والراتب 13.
والى جانب هذا الحدث التاريخي نجد أن محمد شكري أشار إلى حدث تاريخي أخر تمثل في تواجد الجيش العسكري الأمريكي الذي احتل السواحل الشمالية من خلال إشارته إلى مجموعة من البارجات التي كانت تتواجد على السواحل الشمالية ، وكان هدف القوات الأمريكية من احتلال الشواطئ المغربية الأطلنتية هو حماية إفريقيا الشمالية من أي احتلال ألماني أو ايطالي، كما عبر عن ذلك مخطط عمليات النزول الأمريكي الجنرال "دويت د.إيزنهاور" 14. وكما أشار محمد شكري أن هؤلاء الأجانب غادروا المغرب في جو مطبوع بالحزن والأسف، إلى درجة أن أحدهم قال بأنه تعود على شمس هذا البلد أي المغرب.
ختاما، يمكن القول بأن السيرة الذاتية الروائية هي محاولة لاستعادة ذات أو وقائع حدثت فعلا أو ستحدث أو حوادث متخيلة، فالروائي يعيد رسم الحاضر/ الماضي / المستقبل كما جرى أو يجري في خياله، فوظيفة محمد شكري من خلال هذه الرواية التي لا تختلف عن مهمة المؤرخ الذي يبني الوقائع الماضية أو يتحدث عن وقائع كما هي. فمحمد شكري تحدث عن وقائعه اليومية التي حدثت في فترات من حياته، من خلال التطرق لمجموعة من الظواهر الاجتماعية أبرزها الدعارة، إضافة إلى حوادث تاريخية عايشها هو وعائلته كالحرب الأهلية الاسبانية وتواجد الأجنبي بالمغرب. فهذه السيرة الذاتية الروائية تعد مصدرا من المصادر التاريخية التي يمكن الاعتماد عليها من أجل بناء حقيقة تاريخية أو اجتماعية.
1- حوار محمد شكري، أجراه الزبير بن بوشتى ويحيى بن الوليد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طبعة 2003، ص 146.
2- ن. م. ص 5.
3- ن . م. ص 7.
4- عبد القادر القصير، أحياء الصفيح، دراسة ميدانية في علم الاجتماع الحضري مثال " المجتمع المغربي"، دار النهضة للطباعة والنشر 1993، ص 89.
5- أحمد الأنصاري، الأخلاق الاجتماعية عند برتراندراسل، طبعة 2003، ص 118.
6- عبد القادر القصير، أحياء الصفيح، دراسة ميدانية في علم الاجتماع الحضري مثال " المجتمع المغربي"، دار النهضة للطباعة والنشر 1993، ص 97.
7- ن. م. ص 258.
8- حوار محمد شكري، أجراه الزبير بن بوشتى ويحيى بن الوليد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طبعة 2003، ص 99.
9- أحمد الأنصاري، الأخلاق الاجتماعية عند برتراندراسل، طبعة 2003، ص 259.
10- عبد الرحيم برادة، اسبانيا والمنطقة الشمالية المغربية 1931- 1956، الجزء الثاني، مطبعة افريقيا الشرق، طبعة 2007، ص32.
11- ن. م. ص 46.
12- ن. م. ص 47.
13- ماري روزا، مادارياغا، مغاربة في خدمة فرانكو، ترجمة: كنزة الغالي، منشورات الزمن، سلسلة ضفاف، طبعة 1، 2006، ص 109.
14- عبد الحق المريني، الجيش المغربي عبر التاريخ (جائزة المغرب لسنة 1968)، الطبعة الخامسة، دار نشر المعرفة، ص 314.