قد يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، ونحن أمام مفهوم من المفاهيم الأساسية في الفكر السياسي العربي المعاصر، أي مفهوم العلمانية، أننا أمام مفهوم جديد على الساحة الفكرية العربية، بينما في حقيقة الأمر أنه كان ضمن مجال اهتمامات مفكرينا الأوائل منذ أواخر القرن الماضي وبداية هذا القرن.
فإذا كانت العلمانية اليوم تعد مدخلا رئيسيا نحو تحديث الدولة أساسا والمجتمع والاقتصاد، فإنها في بداية هذا القرن طرحت لنفس الغرض، أي من أجل التحديث السياسي.
وفي هذا المقال سنحاول التعامل مع نصوص أعطت أكثر من غيرها أهمية متميزة لعلاقة الدين بالدولة، وأدخلته ضمن دائرة مجال الحداثة السياسية من خلال محطتين بارزتين في الفكر السياسي العربي، ليس من الممكن غض الطرف عنهما دون الوقوف على مغزييهما، وما يمثلانه كحدثين فكريين داخل الساحة الفكرية العربية.
في المحطة الأولى سنركز على جدال دار بين مفكرين يعتبران من رواد الفكر العربي واللذين ساهما في تأسيس قواعد الفكر السياسي العربي المعاصر، ونعني بهما فرح أنطون ومحمد عبده. في هذا الجدال سنقف على محورين أساسيين: الأول يتعلق بمسألة التسامح في المسيحية والإسلام. والثاني يتعلق بمسألة العلاقة بين الدين والدولة. وبالتالي كيف تم الربط بين المسألتين عند كل واحد منهما.
أما في المحطة الثانية، فسنركز على موقف علي عبد الرازق من مسألة الخلافة، هل هي واجبة أم غير واجبة في الإسلام. وسنحاول تتبع قراءته للتاريخ الإسلامي منذ ظهور النبوة. وكيف استطاع تبرير موقفه من مسألة الخلافة. وقراءتنا لن تعتمد على عزل علي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم من المناخ السياسي والفكري –داخل مصر وخارجها- الذي كان سائدا آنذاك.
وطريقة عملنا في هذا المقال ستسلك سبيلين: الأول محاولة استقراء النصوص، واستخراج موقف كل نموذج من علاقة الدين بالدولة. والثاني سيتم الاعتماد فيه على محاولة استخراج جوهر ومنطق التفكير في علاقة الدين بالدولة، بمعنى هل التفكير يقف عند حدود مسألة العلاقة بين الدين والدولة أم يتجاوزهما إلى مسألة أعمق؟ وما هي آليات تفكير كل نموذج؟
بهذه الطريقة، لن يكون اهتمامنا بهذه النصوص هو الوقوف على موقف كل نموذج فحسب، وإنما يتعداه إلى محاولة استخراج جوهر التفكير في مسألة العلمانية، أو الغاية من طرح مسألة العلاقة بين الدين والدولة ككل، وبالتالي المسكوت عنه من وراء موقف مناصرة العلمانية أو رفضها.
ومن هاتين المحطتين والعلاقة بينهما، سيكون بإمكاننا استخراج آلية التفكير أو منطق تفكير الأوائل داخل دائرة الفكر السياسي، من تعاملهم مع إشكالية كان لها حضور متميز عندهم، إما في شكل نقاش أو سجال حول المسألة الدينية في علاقتها بالسياسي والمجتمعي. وإما في شكل تناول مفهوم السلطة السياسية من منظور حديث في مواجهة منظور السلطة السياسية التقليدية، تؤطرها الإشكالية الرئيسية، إشكالية التقدم المرتبطة في علاقتها بالآخر، كإشكالية كانت ولا تزال توجه أسئلة الفكر السياسي العربي المعاصر.
إن الثقافة العربية الإسلامية في أواخر القرن الماضي وبداية هذا القرن، لم تكن منعزلة أو بعيدة عن التأثيرات الثقافية الأخرى، وخاصة تأثيرات الثقافة الغربية الحديثة. وبهذا فإن تناول مسألة العلاقة بين الدين والدولة عند الرواد الأوائل لم يكن بعيدا بدوره عن تأثيرات هذه الثقافة. لذا جاء النقاش تتداخل فيه مفاهيم الثقافتين: العربية الإسلامية واللبرالية الغربية.
فكيف تعامل كل نموذج مع هذا التداخل الثقافي الذي سيحدد في النهاية مرجعيته الفكرية؟ وما هي انعكاساته على طريقة التعامل مع مسألة العلاقة بين الدين والدولة؟
I – جدال محمد عبده وفرح أنطون:
ما يمكن الوقوف عنده من هذا الجدال، هو أن مسألة العلاقة بين الدين والدولة لم تطرح كمسألة منعزلة عن الإطار السياسي العام الذي هيمن على مختلف مجالات الفكر العربي في أواخر القرن الماضي وبداية هذا القرن. وبالذات موقع السلطة السياسية ووظيفتها داخل المجتمع.
إن المسألة طرحت كرافد من روافد الإشكال العام الذي طرح على الفكر السياسي العربي والذي تتجلى مفاهيمه في التقدم والديموقراطية والحرية والتسامح..الخ. وهذا الجدال في حد ذاته لحظة تعكس كيفية تناول تلك المفاهيم واستعمالها، وفي نفس الوقت صراعا نظريا أسس وقعد لمرحلة فكرية من مراحل التاريخ السياسي العربي.
هذا الجدال في جوهره يزاوج بين رؤيتين وموقفين وبالتالي جوابين للإشكالية المطروحة على الفكر العربي، كل واحدة لها مرجعيتها ومنطلقاتها النظرية. فإذا كان فرح أنطون ينطلق من مرجعية لبرالية واضحة يستلهم منها مواقفه، ويدعو إلى تحقيقها في الواقع، فإن محمد عبده لم يكن أكثر محافظة، بل حاول تأسيس لبرالية على قاعدة الإسلام. بمعنى حاول من خلال اجتهاده أن يطوع القواعد الليبرالية كالعقلنة والحرية والمدنية والديمقراطية والتسامح.. الخ للمرجعية الإسلامية. وهذا راجع للتأثيرات العامة الفكرية على الخصوص التي هيمنت على الثقافة العربية في أواخر القرن الماضي، التي تميزت بهيمنة الفكر اللبرالي وكونيته. مما جعل الثقافة العربية تعرف "هزة إيجابية"، تتحدد معالمها: إما في تبني الفكر اللبرالي كمرجعية، وإما في تبني الفكر اللبرالي من خلال مفاهيمه، ومحاولة تكييفها مع المرجعية الإسلامية، أو البحث في الإسلام عن قواعد لها. ويعتبر محمد عبده والأفغاني من أبرز المفكرين الذين كانت محاولاتهم الفكرية تصب في هذا الاتجاه، بل يظهر ذلك بوضوح في كتابات عبد الرحمان الكواكبي الذي استطاع تطويع المفاهيم الليبرالية مع الشرع الإسلامي [1].
فإذا كان منطلق الجدال هو مسألة التسامح في المسيحية والإسلام، فإن خاتمته هي مسألة العلاقة بين الدين والدولة. ومن خلال هذا المنطلق يمكننا استنتاج أن فرح أنطون كان واضحا في ربطه بين التسامح وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، بينما نجد عدم وضوح هذا الربط عند محمد عبده، فعبده في رده حاول أن يتعامل بنوع من التجزيء بين المسألتين. ويعود سبب ذلك إلى أن ردوده، كانت دفاعية أكثر منها هجومية من جهة، ومن جهة ثانية كانت ردوده على أكثر من واجهة وعلى أكثر من شخص. فإذا كان يرد على أنطون والجامعة من خلال المنار، فهو في نفس الوقت كان يرد على شخصيات أخرى كموسيو هانوتو ورينان في منابر أخرى[2].
نجد في الجدال حول مسألة التسامح أن كلا من أنطون وعبده استعملا طريقة السجال بمقوماته الهجومية والدفاعية، باستخدام كل من تاريخ الإسلام المسيحية وإخضاعهما لعملية التأويل.
وما يمكن ملاحظته في هذا السجال أن أنطون كان مسيحيا أكثر منه لبيراليا، فالدفاع عن المسيحية في صورتها العقائدية لا يمكن إدخاله في خانة الفكر الليبرالي رغم ربطه بين التسامح وفصل الدين عن الدولة. فإذا كان مسيحيا في الأول ولبيراليا في الثاني فهذا لا يمكن اعتباره في كلتيه إلا نظرة تجزيئية في علاقة التسامح بالعلمانية. وبالتالي يصبح ذلك الربط بينهما على المستوى المنهجي فحسب، بينما على المستوى النظري وبالأخص على مستوى المرجعيات يظهر ذلك التجزيء بوضوح، وهذه الملاحظة هي التي دفعت بعض الباحثين إلى استنتاج أن دعوة أنطون إلى العلمانية كان يحركها هاجس وضعية الأقلية المسيحية في المشرق[3].
وما يمكن استنتاجه من خلال جداله حول مسألة العلاقة بين الدين والدولة، أن الهاجس المسيطر في منطق تفكيره لم يكن سوى الفكر اللبيرالي بمفاهيمه وأسسه كما ظهر مع رواد النهضة الأوروبية، ويظهر ذلك بجلاء في ربطه بين التقدم ومسألة الفصل بين السلطتين. فبالنسبة إليه لن يحصل تقدم في العالم العربي بدون هذا الفصل. وهو بهذا يستلهم مسار التحولات التي طرأت في الغرب وينظر من خلالها إلى واقع العالم العربي.
وإذا كان أنطون قد ربط بين فصل السلطتين وتحقيق التقدم، فهو في نفس الوقت يربط بين التأخر ومقارنة الدين بالسياسة، حيث إن هذه المقارنة بالنسبة إليه تؤدي إلى محاربة الاجتهاد والذكاء، واستغلال الدين في أمور سياسية مما يضر بالدين نفسه، وبالتالي تؤدي إلى انشقاقات في صفوف الشعب وذلك بالاعتماد على العقيدة الدينية كأساس للمواطنة(*).
وفي مقابل ذلك وبالذات في الفصل بين السلطتين تتحقق المساواة بين أبناء الأمة، أي أن يصبح الانتماء إلى الوطن هو القاعدة والأساس للمواطنة، وليس العقائد الدينية أو المذاهب العرقية. وفي ذات الوقت تحديد وظيفة الدين في كونها تتعلق بمجال العلاقة بين الفرد وربه، وأن لا تتعدى هذه لتتدخل في المجال السياسي أو الدنيوي بصفة عامة.
ومن هذه الخلاصات أو الأهداف، يصل أنطون إلى نتيجة واضحة لبيراليتها، تظهر معالمها في الإقرار بالاختلاف بين البشر، حيث أن العقل في نظره مطبوع على الاختلاف والتباين، وليس على الوحدة والانسجام، فمن هذه النتيجة يدعو أنطون إلى حياد الدين وفصله عن السياسة وذلك لتحقيق التسامح والعدل والمساواة والحرية والتقدم..الخ.
وإذا كان أنطون يربط بين التقدم والفصل بين السلطتين، مستلهما التجربة الأوروبية، فإن عبده لم تكن له نفس الرؤية. فإذا كان هدف الفصل هو إعطاء مفهوم لبيرالي للسلطة السياسية، فإن عبده بهذا الفهم ينظر إلى السلطة في الإسلام. فالإسلام في نظره لا يعرف سلطة دينية، فللحاكم سلطة مدنية محضة، تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية للبلاد. أما أمور الدين فهي لأهلها، إن السلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى، ويستشهد عبده، هنا، بسياسة الدولة العثمانية في تعاملها مع الدول الأوروبية. حيث في نظره أنها سياسة مدنية لم تكن أبدا سياسة دينية، ولا دخل للدين في هذه المعاملة. وإذا كانت السياسة كذلك بالنسبة لعبده، فإن موقع الحاكم بدوره موقع مدني يخضع لإرادة الأمة، لكن ليس بالفهم الليبرالي المطلق، بل لإخضاعه إلى المرجعية الإسلامية. وهو في هذا يحاول أن ينفي أن في الإسلام سلطة دينية، فلا الخليفة ولا القاضي ولا المفتي يملك هذه السلطة.
غير أن محمد عبده لا يرى في هذه الوظيفة السياسية المدنية للسلطة الإسلامية منفعة على المسلمين –وهو هنا ينطلق من وضعية الدولة العثمانية آنذاك- فالعكس بالنسبة إليه صحيح، فهذه السياسية لم تجر إلا الويل وفقدانها لاستقلالها.
وبهذا إذا كان أنطون يربط بين التقدم والفصل بين السلطتين، فإن محمد عبده لا يرى في هذا الفصل سوى مقدمة وسببا في دخول الاستعمار وتخلف الأمة.
إن ما يمكن الوقوف عنده كمركز للجدال حول مسألة الفصل وعدم الفصل بين السلطتين السياسية والسلطة الدينية، يتمثل في الدولة كجهاز للسلطة السياسية. ومن خلال هذا الجدال يتضح لنا مركز التفكير السياسي العربي منذ أواخر القرن الماضي. حيث أن السلطة السياسية وموقعها ووظيفتها كانت هي الموجه الأساسي للفكر العربي[4]. فالتقدم بالنسبة للمفكرين الأوائل كانت له علاقة مباشرة بوظيفة السلطة السياسية. وهنا يمكن الوقوف كذلك على مفهوم التقدم، حيث ينظر إليه فقط من الزاوية السياسية، وهذا يعكس نظرة الرواد الأوائل في تشخيص وتحليل الواقع المتأخر للعالم العربي.
فإذا كان مركز الاهتمام إذن في جدال محمد عبده وفرح أنطون كمحطة أولى، هو وظيفة السلطة السياسية، فكيف سيتعامل علي عبد الرازق، كمحطة ثانية، مع هذه السلطة داخل الحقل الإسلامي من خلال دينية أو عدم دينية مركز الخلافة؟
II – علي عبد الرازق ومسألة الخلافة:
إذا كنا قد استنتجنا من جدال محمد عبده وفرح أنطون، أن جوهر هذا الجدال يكمن وينحصر في طبيعة الدولة كما يراها مفكرو النهضة الأوائل. فإن جوهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم"(*) يسير كذلك في نفس النهج، من خلال الإشكالية الرئيسية المتمثلة في مسألة دينية أو عدم دينية منصب الخلافة.
ولتوضيح هذا الأمر، لا بد لنا من الاعتماد على نقطتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالملابسات السياسية التي صاحبت ظهور الكتاب، والثانية تتعلق بأطروحات الكتاب نفسه، كوجهة نظر حول طبيعة الدولة، وكمفهوم يشكل مركز اهتمام الفكر السياسي العربي في أواخر القرن الماضي وبداية هذا القرن. والنقطتان معا تشكلان في العمق نقطة واحدة لارتباطهما وتداخلهما بالنظر إلى الظروف التاريخية التي عاشها العالم العربي على المستوى السوسيو-سياسي والاقتصادي والثقافي. وتصبان معا في خانة البحث عن حل لمعضلة التأخر الذي يعانيه العالم العربي والإسلامي.
فيما يخص الملابسات السياسية التي أدت وصاحبت ظهور الكتاب، فيمكن حصرها في وجهين: وجه يتمثل في ظهور دولة مصطفى كما أتاتورك العلمانية، وإلغاء منصب الخلافة سنة 1924، وما نتج عن هذا الإلغاء من نقاشات وجدالات حول وجوب أو عدم وجوب منصب الخليفة في الإسلام.
والوجه الثاني يتمثل في الظروف السياسية الداخلية لمصر، وعلاقة الملك أحمد فؤاد بالأحزاب السياسية من جهة، والاستعمار البريطاني من جهة ثانية، وكل هؤلاء بمسألة منصب الخلافة.
فظهور دولة كمال أتاتورك يستدعي أولا الحديث عن أحوال الدولة العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى، والوضع السياسي المتردي، والوضع الاقتصادي المتفكك اللذين أصبحت تعيش عليهما الدولة العثمانية المنهزمة في الحرب بجانب ألمانيا. حيث لم تعد السلطة المركزية قادرة على التحكم في أطراف الإمبراطورية، مما جعل أطماع الاستعمار الغربي عامة والبريطاني خاصة تتقوى للهيمنة على بعض الأقطار العربية وعلى رأسها مصر.
ففي ظل هذه الظروف ستظهر على الساحة السياسية بتركيا شخصية تكونت معرفيا وعسكريا بفرنسا وبالضبط بالأكاديمية العسكرية بتولوز في نهاية القرن 19. وتشعبت بالثقافة الغربية الحديثة، وبالضبط بالإيديولوجيا الوضعية التي كانت تسود الفكر الفرنسي آنذاك. وبهذا التكوين العسكري الحديث والمعرفي والإيديولوجي عاد مصطفى كمال إلى تركيا حيث استولى على السلطة، وبدأ في تطبيق إيديولوجية الحداثة بنوع من "التطرف" أحيانا كما يصفها بعض الباحثين[5]. وذلك من أجل وضع أسس للدولة الحديثة في تركيا. كإلغاء السلطنة سنة 1922، وإعلان الجمهورية سنة 1923، وإلغاء منصب الخلافة ومنصب شيخ الإسلام، ووزارة الشريعة، والمدارس الدينية، وإلغاء المحاكم الشرعية، ثم حل الفرق الصوفية وقفل الأضرحة ووضع الألبسة الدينية سنة 1924. وألغي الطربوش والزي التقليدي وفرض القبعة الأوروبية والبنطلون سنة 1925، كما أصدر قانونا جديدا للأحوال المدنية مؤسسا على القانون السويسري سنة 1926. ثم منع إرخاء اللحي والشوارب وحذف التقويم الإسلامي والحروف العربية في الكتابة، كما منع التعليم الديني في المدارس سنة 1928[6].
ما يهمنا من هذا الجرد التاريخي هو الوقوف على هذه الإصلاحات التحديثية التي قام بها أتاتورك، والتي شملت مجالات متعددة، سياسية واجتماعية وقانونية، ستكون لها انعكاسات بالسلب أو بالإيجاب، ليس فقط على مستوى الواقع التركي ولكن على مجموع العالم العربي والإسلامي.
فهذه الإصلاحات تمثل من جهة صدمة للواقع العربي والإسلامي، بكونها ثورة من فوق، طبقت بقرارات فوقية –وفي ظرف زمن قصير لم يتعد عقدا من الزمن- لم تكن تعتمد على أسس وقواعد تحتية من خلالها تجد هذه الإصلاحات دعما وطريقا نحو التأسيس[7]. لكن هذا لا يعني أنها كانت تفتقد إلى الوجه الإيجابي، والذي يمكن حصره في خلخلة بنيات المجتمع التقليدية، وتحديث بعض مظاهر المجتمع، كخروج المرأة من البيت، والتخلي عن الحجاب وطرح مسألة تحررها، وبروز فكر جديد مع مثقفين جدد متشبعين بثقافة حديثة، أحدث شرخا كبيرا في الثقافة التقليدية في مجموع العالم العربي والإسلامي، وخاصة في مصر التي كانت تعرف نهضة فكرية في تلك الحقبة(*).
هذا بشكل عام ما خلفته الثورة الكمالية. ولكن ما يهمنا في هذا المقال، هو ما قام به أتاتورك من إلغاء لمنصب الخليفة كإجراء يهدف إلى فصل الدين عن الدولة، أو علمنة الدولة.
هذا الإجراء سيخلف ردود فعل متباينة حول وجوب أو عدم وجوب منصب الخليفة. وقد طرح الأمر بإلحاح بمصر حيث كان ملك مصر أحمد فؤاد يطمح إلى شغله من خلال جمعيات كانت تدعو إلى مؤتمر للخلافة، أبرزها "جمعية الخلافة". بالإضافة إلى سعي بريطانيا إلى أن يكون خليفة المسلمين من نصيب إحدى الأقطار التابعة لها.
فكانت مسألة الخلافة، مسألة سياسية تواجه فيها المناهضون للقصر المصري والاستعمار البريطاني، والمناصرون له وللتواجد الإنجليزي في المنطقة. ويظهر هذا الصراع بوضوح بعد طبع كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وما خلفه من ردود فعل سياسية متباينة واضحة، كصراع الأحزاب التي كانت تدافع عن الكتاب وصاحبه من جهة، كحزب الأحرار الدستوريين الذي كان ينتمي إليه علي عبد الرازق، رغم مشاركته في الحكومة الموالية للقصر، بجانب حزب الاتحاد، وحزب الوفد المعارض، رغم موقف زعيمه السلبي سعد زغلول من الكتاب. ومن جهة أخرى ردود فعل سياسية مغلفة بالدين من بعض الأحزاب والجهات التي وقفت ضد الكتاب وصاحبه، داعية إلى محاكمته، كحزب الاتحاد والقصر الملكي والأزهر.
لهذا كانت ردود الفعل حول الكتاب في جوهرها سياسة واضحة في أحيان ومستترة وراء الدين في أحيان أخرى، كما وقع في المحاكمة التي جاءت نتائجها كما أراد لها القصر وأتباعه[8].
في ظل هذه الملابسات إذن يأتي كتاب علي عبد الرازق كطرف في صراع حول مسألة الخلافة كشكل من أشكال الحكم في العالم العربي والإسلامي. وكوجهة نظر حول مفهوم الدولة والحداثة بصفة عامة.
إن كتاب الإسلام وأصول الحكم عبارة عن جدال حول مسألة السلطة في الإسلام، يناقش فيه علي عبد الرازق مجموع الآراء والمواقف من مسألة الخلافة في الإسلام، انطلاقا من السؤال الرئيسي حول دينية أو عدم دينية منصب الخلافة.
فإذا كان البعض يعتبرها منصبا دينيا، وضرورة دينية، فإن علي عبد الرازق في رده على هذا القول ومن أجل تفنيده، يعود إلى المصادر الأساسية للإسلام: الكتاب والسنة والإجماع، يبحث عن شرعية أو عدم شرعية هذا القول. ليخرج بنتيجة مفادها أن لا الكتاب ولا السنة ولا الإجماع يعطيه الشرعية.
وبرجوعه إلى الأصول الإسلامية للاعتماد عليها كسند لموقفه الرافض لدينية منصب الخلافة، يهدف عبد الرازق بالأساس إلى مناقشة مسألة دينية وسياسية في نفس الوقت من داخل الإسلام، نفسه، باعتماده على الأصول من جهة، وعلى التاريخ الإسلامي منذ ظهور الدعوة، من جهة ثانية. وهو في هذين الاعتمادين يستعمل المنقول وفي نفس الوقت التأويل الذي يعتمد على الاستدلال والعقل.
وإذا كانت الخلافة بالنسبة لعبد الرازق لا تستند لا على الكتاب ولا على السنة ولا على الإجماع. فإنها لا تستند في رأيه إلا على القوة والقهر والعنف بحد السيف من أجل فرض نفسها على المسلمين(*). وفي هذا الإطار يستعين المؤلف بالتاريخ الإسلامي من خلال بعض اللحظات التاريخية، ومن بعض الذين مارسوا الحكم للاستدلال على القوة والقهر.
وانطلاقا من هذا الموقف العام من مسألة الخلافة، يلجأ علي عبد الرازق إلى البحث عن العلاقة بين الديني والسياسي في النبوة بشكل عام، وفي سلوكات النبي بشكل خاص، من خلال علاقة الملك بالرسالة. إن المؤلف ينطلق للخوض في هذه العلاقة من واقع تاريخي وديني لا يرى فيهما تلازما بين الملك والرسالة. معللا موقفه في أن هناك ملوكا لم يكونوا أنبياء أو رسلا وأنبياء لم يكونوا ملوكا أو حكاما.
وعلى ضوء هذا الطرح، يتساءل المؤلف حول وضعية النبي، هل هي دينية (الرسالة) ومدنية (الملك) أم دينية فقط (الرسالة)؟
وللرد على هذا التساؤل، يعود المؤلف كذلك إلى الأصول الإسلامية وخاصة الكتاب والسنة ليخرج بالقول أن النبي لم يكن دوره إلا دينيا فقط من غير أن يكون سياسيا. لكن ما لاحظناه أنه في مناقشته لهذه المسألة يريد في بعض الأحيان أن يصل إلى مسألة الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي في النبوة دون أن يرتكز على أسس منطقية واضحة تقنعنا بموقفه. وربما يعود ذلك إلى قلة المصادر التي تؤرخ لحياة النبي كما يعترف هو نفسه بذلك. مما جعل بحثه في علاقة الديني بالسياسي في حياة النبي يكتنفه نوع من الغموض، وخاصة عندما يتحدث عن الجهاد في حياة النبي[9]. وغموضه في هذه المسألة يعود إلى نظام الحكم في عهد النبي –كما يعترف كذلك هو نفسه بذلك- مما جعلها تهمة أساسية من بين التهم السبع التي وجهتها إليه هيئة العلماء في المحاكمة[10] والتي مفادها:"أن نظام الحكم في عهد النبي (ص) كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص، وموجبا للحيرة". كما أنها كانت في نفس الوقت نقطة رئيسية وقف عليها منتقدو كتاب "الإسلام وأصول الحكم"[11].
وهذا الموقف من العلاقة بين الديني والسياسي في النبوة، والتركيز على أن دور النبي دور ديني لا سياسي(*)، جعل المؤلف يرى من خلاله صورة الجزيرة العربية بعد ظهور الرسالة. حيث في نظره أصبحت وحدة القبائل تشكل وحدة دينية لا سياسية. ذلك لأن النبي لم يقم بدور الوحدة السياسية، بل اكتفى بالقيام بدور الوحدة الدينية. هذه الأخيرة هي ما توارثه المسلمون بعد وفاة النبي، أي أن وضعية الجزيرة العربية لم تكن تضبطها بعد وفاة النبي إلا مبادئ الوحدة الدينية ومن تحتها دول تامة التباين والاختلاف، مما يفسر الصراع بين القبائل الذي لم يكن إلا صراعا سياسيا حول السلطة السياسية.
وانطلاقا من هذه المعطيات التي وقف عندها المؤلف، استنتج أن دور الرسالة انتهى بوفاة الرسول وبالتالي الزعامة الدينية، وانطلق دور الزعامة السياسية أو المدنية، وبهذا فإن الخلافة كمركز ديني انتهت كذلك مع وفاة الرسول, وهو بهذا يريد أن يصل إلى ما وقع من نزاعات وصراعات، بعد وفاة النبي، لم تكن إلا نزاعات وصراعات سياسية، أنجبت زعماء سياسيين وليسوا دينيين، مما يؤكد قوله أو أطروحته أن الخلافة مسألة سياسية ليست لها قواعد لا في النص ولا في السنة ولا في التاريخ.
وما يهمنا نحن من هذا الكتاب الذي تناول مسألة الفصل بين الديني والسياسي في الإسلام من خلال مسألة الخلافة، ليس هل أصاب المؤلف أم أخطأ –يمكن الرجوع هنا إلى الكتب الكثيرة التي ردت عليه-[12]. بل ما يهمنا هو أن هذا الكتاب كمحطة ثانية هو امتداد واستمرار للمحطة الأولى، محطة محمد عبده وفرح أنطون، ليس فقط على مستوى طرح إشكالية علاقة الديني بالسياسي، بل كذلك في جوهر هذا الجدال المتمثل في إشكالية الدولة في المجتمع العربي والإسلامي.
حيث إن الطرح لم يكن في جوهره حول الفصل أو عدم الفصل بين الدين والسياسة فقط، بقدر ما كان حول كيفية تحديث الدولة وعصرنتها كشكل من أشكال الخروج من التخلف وتحقيق التقدم. من هنا يمكن اعتبار علي عبد الرازق كامتداد لهذا الجدال بصفة عامة، ومن منظور الإصلاحيين الإسلاميين بصفة خاصة، أي مناقشة مسألة الدولة من داخل الإسلام نفسه وليس من خارجه، مما يجعلنا نعتبر امتدادا لفكر محمد عبد الإصلاحي ومحاولة تطويره، وليس امتدادا للتيار الليبرالي وخاصة فرح أنطون كما اعتبره بعض الباحثين[13].
من هنا يمكن أن نستنتج من خلال هذا المقال ومن خلال هاتين المحطتين، أن جوهر الإشكال في مسألة العلاقة بين الدين والسياسية، لم يكن هو إشكالية الفصل أو الوصل فقط، بل في العمق هو إشكالية التقدم من خلال تحديث الدولة. استعملت فيها عدة مفاهيم في جوهرها لبيرالية (كالحرية، الديمقراطية، التسامح، فصل الدين عن الدولة..الخ) انطلق فيها البعض من مرجعية غربية لم تستطع الخروج عنها، وحاول البعض الآخر تكييفها أو إعطاءها شرعية إسلامية.
هذا يدفعنا أيضا إلى الوقوف على إشكالية التقدم عند المفكرين الأوائل من حيث نظرتهم أو الزاوية التي ينظرون منها إلى تحقيق هذا الهدف. فما لاحظناه أن الزاوية المنظور منها لم تكن إلا زاوية الدولة فقط، أي زاوية السياسية، بينما أهملت الزوايا الأخرى أو لم يعط لها نصيبها من البحث والتقصي، كزاوية الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحقوقي..الخ. مما دفع ببعض المفكرين إلى ملء هذا الفراغ في بعض الميادين، كسلامة موسى على سبيل المثال لا الحصر، على المستويين السياسي والاجتماعي، أو طه حسين على المستوى الثقافي[14] .
[1] - مجلة الوحدة، العدد 96، السنة الثانية، سبتمبر 1992.
[2] - انظر كتابه: الإسلام دين العلم والمدنية، محمد عبده، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت-لبنان، 1989.
[3] - محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1982.
(*) ابن رشد وفلسفة فرح أنطون، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، مارس 1981، ص151 حيث يقول: "لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفضل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. ولا سلامة للدولة ولا … ولا تقدم في الداخل إلا بفضل السلطة المدنية عن السلطة الدينية".
[4] - علي أومليل: الإصلاحية العربية والدولة الوطنية. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1985، ص94.
(*) الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، دراسة ووثائق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1972.
[5] - محمد أركون، العلمنة والدين – الإسلام، المسيحية، الغرب، ت.هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الأولى، 1990.
[6] - استعنا في هذا بكتاب العلمنة والدين، محمد أركون، ص91. وبكتاب التأويل والمفارقة نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي، كمال عبد اللطيف، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1987، ص94.
[7] - محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، منشورات مركز الإنماء القومي، ت.هاشم صالح، الطبعة الأولى، بيروت 1986.
(*) راجع كتاب عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 1992.
[8] - راجع تحقيق محمد عمارة لكتاب الإسلام وأصول الحكم حيث يورد المحاكمة.
(*) الإسلام وأصول الحكم، ص18-21-39-42. أما في الصفحة 70 يقول: غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع.. وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت، إلا في النادر قوة مادية مسلحة. فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف؛ والجيش المدمج والبأس الشديد، فبتلك دون غيرها يطمئن مركزه، ويتم أمره" وكذلك في الصفحتين 75-86.
[9] - راجع تعليق محمد عمارة على كتاب الإسلام وأصول الحكم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972. أو تعليق الدكتور ممدوح حقي للكتاب، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
[10] - راجع وقائع المحاكمة في تحقيق محمد عمارة للكتاب.
[11] - راجع الكتب التي كتبت للرد على كتاب علي عبد الرازق، ومن بينها:
1 – الشيخ محمد بخيت: حقيقة الإسلام وأصول الحكم.
2 – الشيخ محمد خضر حسين: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم.
3 – محمد عمارة: معركة الإسلام وأصول الحكم، طبعة دار الشروق، القاهرة، 1989.
(*) الإسلام وأصول الحكم، لذاتها تستلزم للرسول نوعا من الزعامة في قومه، والسلطان عليهم، ولكن ذلك ليس في شيء من زعامة الملوك وسلطانهم على رعيتهم".
[12] - راجع نفس الكتب السابقة.
[13] - كمال عبد اللطيف، مرجع سابق.
[14] - سلامة موسى، كتاب الثورات، دار العلم للملايين، 1972.
طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، مطبعة المعارف.