إنّ حديثنا عن هذا الموضوع حديث ذو شجون، ذلك أن الرؤى تتعدّد، والمقاربات تختلف من فاعل وباحث لساني لآخر، كلّ حسب عُدّته النظرية وخلفياته الأيدولوجية وتوجهاته السياسية. من الأكيد أنّ هذه التيمة / الإشكالية من بين التيمات والموضوعات التي طفت على سَطح النقاشات العمومية، ماضيا وحاضرا، ولا يزال النقاش يحتد بشأنها بين الفينة والأخرى حتى بعد دسترة الأمازيغية (في دستور 2011 ) ولا نستبعد أن يحتد النقاش بخصوصها مستقبلا مادام أعداء التعدّد والاختلاف في كل زمان ومكان. موضوع قيل فيه من الكلام الشيء الكثير، وسيل فيه مداد غزير لأقلام باحثين مرموقين مشهود لهم بالكفاءة والأهلية العلمية في اللسانيات والسوسيولسانيات واللسانيات الجغرافية والسياسية. سنحاول أن نبرز في هذه المقالة المختصرة موقفنا من طبيعة العلاقة الكائنة والموجودة بين الأمازيغية والعربية كما نتمثلها ونتصورها كمهتمين بالشأن اللساني.
إن طبيعة هذه العلاقة أمازيغية - عربية طُرحت على أكثر من صعيد ومنبر، لكن يطغى عليها في كثير من الأحيان الطابع الأيديولوجي المحض بعيدا عن المقاربات العلمية الهادئة الرصينة المسؤولة، يعنّ لنا هنا بادئ الرأي أن نذيّل هذا المدخل ببعض التساؤلات المشروعة؛ ما العلاقة المفترضة إذن بين هذين الكيانين اللغويين؟ هل يمكن الحديث فعلا عن صراع - ألسني بين العربية والأمازيغية في الخريطة اللِّسْنية في المغرب؟ هل يتعلق الأمرُ بصراع ألسن ولغات، باعتبار الأخيرة علامات وأنساق وضعت للتواصل كما يعتبرها مؤسّس الدرس اللّسْني الحديث السويسري فيرديناند دوسوسير في كتابه دروس اللسانيات العامّة) cours de linguistique générale (، أو صراع خطابات وايديولوجيات؟ إذا كانت العلاقة علاقة تعايش تاريخي وتكامل بين هتين اللغتين فما بال بعض المناضلين الراديكاليين الأمازيغيين لا يفتئون يخرجون علينا بمواقفَ متشنجة خشبية حُيال العربية، وأنّها على حدّ زعمهم لا تعدو أن تكون سوى لغةٍ عقيمةٍ ميتةٍ، يتحتّم علينا طردها وأصحابها إلى الجزيرة العربية موطنهم الأصلي عبر (الطائرة) حتى وإن كانت لغة القرآن فإنها لا تلزمنا بشيء، وأنها لغة ليست لغة علم، وأن أصحابها لم ينتجوا بها شيئا يذكر غير علْكِ البلاغة والخطب الوعظية، ولربما ألفينا من قد يتبرأ من هته اللغة لا لشيء اقترفتها هذه اللغة إلا لكونها لغة العرب، فهذه الأخيرة نؤكد ولا نكَلّ من أن نكرر أنها كائن بريء كباقي اللغات لا ناقة لها ولا جمل، ولم تشارك لا من قريب ولا من بعيد في مأساة الشعب الأمازيغي، ما الذنب ذنبها بل سياسة التمييز الممنهجة من قبل مسؤولينا وأصحاب القرار هي السبب في التمييز والعسَف والتهميش والاجحاف الذي تعرضت له الأمازيغية لعقود - هذه الثقافة الرائعة كما يسميها السوسيولوجي بول باسكون - وما خلفته من رواسب وشوائب ثقافية في الذهنية المغربية والضمير الجمعي المشترك إلى اليوم. وهذه المواقف كما يبدو فيها من اللاموضوعية والخلط الشيء الكثير( نزعة شوفينية ضيقة ) ومن أراد أن يطلع على المزيد من هذه المواقف المتشنجة فليتصفح "معارك فكرية مثلا حول الأمازيغية التي جمعتها مكتبة طارق بن زياد وغيرها من المقالات والتصريحات التي تبث هنا وهناك ". وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء فما بال أولئك القوميين أذيال الحزب البعثي السوري والعراقي ( القومجيون كما ينعتون في خطابات الحركة الثقافية الأمازيغية ) لا يفتئون يخرجون علينا بين الفينة والأخرى بدورهم بمواقفَ وطروحات وأفكار تستحق الردّ الخشبي وإن كان التطرف الأول (القومي الشوفيني) بالكاد يكون ابنا شرعيا، ووليدَ التطرّف والخطاب الاسئصالي الذي يكفر بكل تعدد،. ولربما وجدت منهم من يخوضون أرضا ليست بأرضهم، ويتحدثون في تخصّص ليس بتخصصهم، و"يفتون" بدون أدنى علم بأبجديات وبمبادئ ونظريات علم اللسانيات الحديثة وما أقرته مدارسها المختلفة ؛ (البنيوية ، التوزيعيةّ، التوليدية التحويلية مع نعوم تشومسكي ..الخ) ويأتون من القول زُورَهُ، ولرّبما وجدت البعض منهم لم يتخلص بعد من "عقدة اللهجة" والصاق عبارة لهجة بالأمازيغية بشكل متعسف وينسى أن معظم البنيويين والسوسيولسانيين يرفضون هذا المصطلح لكونه فيه من الذاتية والانطباعية والايدلوجية أكثر ممّا فيه من الموضوعية والتوصيف العلمي الدقيق. فاللهجة كما قاربها اللساني الشهير Calvet" " من داخل النسق الفكري اللساني الحديث هي لغة لكنها حُطمت سياسياً واللغة ما هي أيضا إلا لهجة لكنها لقيت دعماً ونجحت سياسيا كما حدث مع مجموعة من الأنساق اللغوية خذ إن شئت مثالا لا حصرا؛ اللهجة الفرنسية التي لم يكن يتحدثها ألا أشراف باريس..) ويوم توفر لها شرط الدعم السياسي أي "مبدأ التعيير" حسب التأصيل اللساني الذي وضعه السوسيولساني الألماني "فيشمان" أصبحت لغة تهيمن على ما سواها من التنوعات اللّسْنية الفرنسية الأخرى" وهذه الحقيقة اللسانية التي لا غبار عليها كما يبدو هي نفس ما وقع للأمازيغية تحديدا حينما أُبْعدت وأقصيت إقصاء استراتيجيا من الأجندات السياسية التنموية على حساب سياسة التعريب الأحادية اليعقوبية التي لم تكن تعترف بباقي المكونات الثقافية والهويات اللسنية المتعددة. بل اختزل المشهد اللسني والسوسيوثقافي الموسوم بتعدّده وتنوعه في مغرب ما بعد الاستقلال في مكون وحيد وأوحد، مع اقصاء عناصر التعدّد.
إن الدستور المغربي لحراك ما بعد 2011 قد حسم هذا النزاع، وأقرّ في الفصل الخامس منه أن العربية والأمازيغية هما لغتان رسميتان في البلاد وتتكفل الدولة بضمان الحماية القانونية للغتين. على التيارات وكل الأيديولوجيات المتعصّبة المغلقة أن تحترم الدستور المغربي والا فإساءتها للأمازيغية أو العربية على حد سواء هي إساءة لأزيد من 30 مليون مغربي.
إن الواقع التاريخي والأنثروبولوجي واللّسني في المغرب - موضوع الدرس والمقاربة - ؛ هذا المجال الجغرافي المتميز عرف احتكاكا حضارياً فريدا وتَعَاقُب الكثير من الثقافات والحضارات كروافد ثقافية أغنت الفسيفساء الهوياتي المغربي تعكس عبقرية الانفتاح لدى المغاربة الذين أعطوا وأخذوا من الآخر المختلف الحضاري بعيدا عن كل انغلاق وتزمت وانسداد حضاري. إلا أن هذا الاحتكاك الحضاري كان له ما له وعليه ماعليه، اتسّم في الكثير من الأحيان بالصراع والاصطدام نتيجة توالي الأطماع المتزايدة على خيرات شمال افريقيا، ويعتبر المكون الثقافي العربي الاسلامي أبرز هذه المكونات الثقافية واللغوية الوافدة.
إن الكتب التاريخية والوقائع والاحداث تقرر أن تواجد العربية بجانب الأمازيغية هو تواجد قديم يمتد لقرون خلت، وهاته الازدواجية لم تكن أبدا بشائبة ولا نقيصة، فالتعدّد اللّسني والثقافي والاثني تُمليه السِّجية والطبيعة البشرية كما هو مقرّر عند المناطقة والعقلاء من البشر، وحدث نوع من "التثاقف" والانصهار الإثني بين مختلِف هذه المكونات، ولذلك من التشنج والتعصب واللاّعلمية بمكان أن يتحدث أحد اليوم عن وجود أعراق نقية خالصة لم يمسَسْها اختلاط. إن ما يسجلّه الباحثون والدارسون حول الوضعية اللّسْنية ( la sutuation linguistique ) في المغرب كون أن الأخيرة لم تكن أبدا عاملا من عوامل التفرقة والتشرذم والانقسام، بل كانت على الدوام عاملا من عوامل الإثراء والاغناء والتعدد الثقافي الذي تتميز به الهوية والشخصية المغربية وعاش المغاربة في انسجام داخل الاختلاف (التعدد في اطار الوحدة والوحدة في اطار التعدد). إن تواجد العربية إلى جانب الأمازيغية لم تكن مصدرا من مصادر التفكك والاصطدام المجتمعي الذي كان يبرز على الساحة بين الفينة والأخرى. فالعلاقة إذن بين هذين الكيانين اللغويين علاقة اتسّمت بالكثير من التعايش والندية (والتواجد مع، والعيش المشترك) لا علاقة تصادم وتصارع واستعداء كما يحاول البعض أن يصورها، بل إن هناك من الأمازيغيين من انبرى وكرَّس حياته للدفاع عن العربية تأليفا وتصنيفا ومدارسة سيما في العلوم التقليدية كالشرعيات واللغويات وعلوم المنطق وما كتبوه من حواشي وشروحات وتقريرات ومخطوطات. وقس على ذلك ثلة من رجالات الفكر والعلم الذين أسّسوا للتاريخ العقلي المغربي؛ أمثال المختار السوسي الذي كان يفتخر بأمازيغيته، وتجد الحس الجهوي والهوياتي حاضرا بقوة في تصانيفه ورسائله، وكان في الوقت نفسه يعتبر اللغة العربية لغة لذيذة، ولذلك حينما تتناول كتابات هذا الرجل بين يديك تجده أحيانا يمزج بين العربية والأمازيغية في صفحة واحدة بعيدا عن كل تشنج. وقس على ذلك مجموعة من الشخصيات الثقافية المغربية كابن عرضون الفقيه السوسي الامازيغي العقلاني الذي عاش في القرن السادس عشر، صاحب الكد والسعاية التي سيتم ادراجها في تعديلات مدونة الأسرة الأخيرة لعمقها الاجتهادي، وابن آجروم صاحب المنظومة النحوية المشهورة التي حفظت النسق القواعدي النحوي للغة الضاد في شكل أبيات شعرية كما فعل ابن مالك الأندلسي في ألفيته المشهورة (ق4هــ) وغيرها كثير من الاسهامات التي لا مجال لتفصيلها في هذا المقام المقتضب.
تأسيسا على كل الذي سبق نتحصّل أن الثابت من كل هذا إذن أن الأمازيغ الأحرار أنتجوا من داخل الثقافة العربية الإسلامية وأعطوا الشيء الكثير للعربية كما أنتجوا من داخل ثقافات أخرى كالثقافة اليونانية والرومانية القديس سانت اكستن صاحب رواية الحمار الذهبي والفرنسية حاليا ..الخ لكن في المقابل من حقنا أن نتساءل تساؤلا معرفيا بريئا ما الذي قدمه المشارقة للأمازيغية؟ غير الأوصاف القدحية والتنابز بالألقاب والنظر الى المغاربة دائما على أنهم عالة وتبع وذيل للمشرق ولعل هذا هو السبب الذي دفع عبد الله كنون إلى تأليف كتاب النبوغ المغربي ليرافع علميا عن هذا الزعم.
إن تفاعل وتعايش العربية إلى جانب الأمازيغية أنتج على مستوى التاريخ، مستوى تعبيريا ثالثا متوسطا يعكس عمق هذا التداخل والتفاعل، هو اللسان الدارج المغربي (الدارجة) وعبقرية الشخصية والذات المغربية وقدرتها على تذويب كل الخلافات وجاهزيتها على تجاوز كل الفوارق. وهو ما قاربه الأكاديمي المغربي محمد شفيق حينما ألف عمله القيم " الدارجة المغربية مجال تداول بين العربية والأمازيغية".
آن الأوان لنمسك العصا من الوسط، وتنزيل مقتضيات الدستور واصدار القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في المرافق والمؤسسات العمومية والمناهج الدراسية إلى جانب العربية، للقطع بشكل فعلي حقيقي مع سياسة الميز من أجل عدالة لغوية ثقافية تضمن السلم الاجتماعي فكل اللغات متساوية أمام الله وأمام اللساني كما يقول نعوم تشومسكي، آن الأوان لنعطي المساحة اللائقة لثقافة الاختلاف وقبول الآخر كآخر مختلف في مقرراتنا ومناهجنا التعليمية التي من المرتقب ان يعاد فيها النظر مع الورش الإصلاحي والرؤية الاستراتيجية لإصلاح المنظومة التربوية التعليمية ( 2015 – 2030). لنعزز الشعور بالانتماء لهذه الأرض ولخصوصيتنا التي تميزنا كمغاربة وللأمازيغية كرصيد مشترك نتحمل جميعا مسؤولية الحفاظ عليه.