ما الذي يجعلني أقيم تشابهاً، غموضه أكثر من وضوحه، بين شيخ نجيب محفوظ في روايته «اللص والكلاب»، الثابت في لغته ومكانه، والكاتب اللبناني محمد دكروب، الإنسان الدنيوي الذي يدافع، منذ ستة عقود، عن أفكار اقتنع بها، واقتنع أكثر بدفاعه عنها ؟ يقوم الجواب المجزوء في رضا القلب والعقل، وفي خيار إنسان وضع مرجعه داخله، يستدل بآثار الذين اقتنع بهم، ويعيّن نفسه دليلاً لنفسه، معترفاً بما هو خارجه، ومعترفاً بما يمليه عليه قلبه وعقله. كأن دكروب يقول: من عيّن ذاته دليلاً لذاته لا يضل الطريق. ولعل هذا الرضا الطويل ، الذي يعاين تغيّر الأزمنة ولا يرتعب منه، هو الذي جعل روح دكروب واضحة في وجهه، حاله من حال شيخ محفوظ، الذي يرى إلى مثال أخلاقي بعيد، ويؤمن بتحققه.
يبدو مجاز الطريق المستقيم ملائماً لمسار هذا الشيوعي القديم، بلغة ما، أو المخلص لأفكاره ولخير البشر، بلغة أخرى. فقد آثر هذا المثقف العصامي، الذي تسبقه ابتسامة راضية، صحبة «الطريق المستقيم»، الذي اختاره، دون أن يمتثل إلى أقدار «رفاق الطريق»، الذين تعرّف عليهم وتعرّفوا عليه، لا فرق إن ارتضوا بالعزلة والانسحاب، أو اقتربوا من طريق آخر. وسواء كان طريق دكروب القديم ـ الجديد، أو الجديد ـ القديم، مقنعاً أو قليل الإقناع ، فإن فيه درساً أخلاقياً جديراً بالتأمل، قوامه إنسان مخلص لهويته، لصيق بما كانه، محافظ على آثار رفاق علّموه، أو ملتزم بشعاره القديم عن «المثقف الملتزم»، الذي يتأمل مصاعب البشر، قبل أن يؤوي إلى فراشه. ومع أن بعض المثقفين يقول، بحق أو من غير حق، أن الأفعى التي لا تبدّل جلدها تهلك، فقد ارتضى دكروب أن يحتفظ بجلده، وأن يبيّن أن الإنسان ليس بأفعى، وأن جلود الأفاعي تختلف عن وجوه البشر. فبين مجلة «الثقافة الوطنية»، التي أشرف عليها دكروب في خمسينيات القرن الماضي ومجلة «الطريق»، التي، سيشرف عليها لاحقاً، علاقة، وبين المجلتين وسلسلة الكتب التي أشرف عليها في الثمانينيات المنقضية علاقة، وبين ما كانه دكروب وما سيكونه «عروة وثقى» لا تقبل بالانقسام.
كان ذلك في بداية ستينيات القرن الماضي، بعد سقوط الوحدة المصرية ـ السورية، وبفضل ثقافة الأرصفة، التي عرّفت بعض أنصار القراءة على كتب وعناوين ومجلات معتقلة. ومن هذه المجلات «الثقافة الوطنية» التي عرّفتني، أو عرفتنا، شباب ذلك الزمن، على دكروب وجماعة دكروب، ومنهم: روائيون ونقاد وقصاصون وفنانون، عرب وغير عرب، موالون لشعار معين، ولهم لغة سهلة وصعبة، معتقلون وأحرار، ولهم صفات متوازية: المفكرون الأحرار، المثقفون الثوريون، الأدباء الوطنيون، الكتّاب التقدميون ...، ولهم أيضاً ذلك البريق الذي يقول إن وراء الواقع المعيش واقعاً أفضل، وإن الإنسان قارة مجهولة ـ معروفة، وإن في إرادته، إن تحرّرت، ما يزحزح الجبال ويقرّب القمر. كان في كلامهم، كما سنقول في ما بعد، تلك الرومانسية الثورية التي تحوّل التاريخ إلى رفيق، وتعقد بين التاريخ ـ الرفيق والرفاق حلفاً سعيداً يقود إلى المدن الفاضلة. وكان في كلامهم «علم جمال الإنسان»، الذي اعتقد أن الإنسان هو علمه، وأن في العلم الإنساني ما ينتج إنساناً علمياً، يرى ظاهر الأشياء وجواهرها، وأن الإنسان العالم والعلمي يعيد صناعة البشر والتاريخ والمعتقدات ، كما يشاء.
مفرد بصيغة الجمع
لم أتعرف على اسم محمد دكروب، للمرة الأولى ، بصيغة المفرد، فهو اسم بين أسماء، ومثقف بين مثقفين، يمارسون الثقافة ويوحدون بين الثقافة والسياسة، فاصلين بين «ثقافة محتضرة»، كما كان يقول وثقافة ثورية، كما كان يقال أيضاً، وبين سياستين وعالمين وعلميْن.. ومع أنني، أو أننا، نقدنا لاحقاً هذه الثقافة بلغة نقدية عنيفة، فإن هذا لم يمنع عني، في السنوات الأخيرة، سؤالاً واضحاً محدداً: لماذا قادت هزيمة الثقافة التي التزم بها دكروب في مجلتي «الثقافة الوطنية» و«الطريق» إلى هزيمة الثقافة بعامة، رغم وجود المثقفين وتزايد أعدادهم، ولماذا تلت هزيمة «الثقافة التقدمية»، المحسوبة على فكر معين، أزمة في القراءة والقيم وفي عالم المثقفين؟
تعرّفت على دكروب، في حقبة معينة، اسماً لبنانياً بين أسماء ثقافية لبنانية متعددة: أنطون ثابت، مؤسس مجلة الطريق، ورئيف خوري الصوت الناشز البديع المتمرّد الذي دافع عن القضية الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عمر فاخوري الذي ساءل هزيمة العرب قبل أن يبلغ العشرين، ومارون عبود وحسين مروة وتوفيق يوسف عواد، الذي رأى الحرب الأهلية الطويلة قبل مجيئها في روايته «طواحين بيروت»، وعبد الله العلايلي اللغوي المستنير المجدد في فكره ولغته، وجبران خليل جبران، الذي احتفظ بمسيحه ودعا إلى دين إنساني متسامح موحّد، يأمر بالمحبة والتسامح وينهى عن الجشع والكراهية، ... وهذه الثقافة الإنسانية، التي تتعرّف بالقيم لا بالأفراد، جعلتني أرى دكروب بين آخرين يتحلّقون حول نار فاضلة، تطرد الظلام ولا تحرق الأصابع. ولهذا سيعرّفني دكروب، في منتصف السبعينيات المنقضية، وهو يتابع طريقه القديم راضياً، على مثقفين جدد، يشتغلون في ثقافة جوهرها سياسة وفي سياسة باطنها ثقافة: مهدي عامل الذي يجمع بين الماء والنور والقدرة على الوجود في أكثر من مكان في آن، وحسين مروة في أدبه وتواضعه وحرارته وصدقه، وكريم مروة المثقف البشوش الحالم الأليف والمتفائل أبداً، وحبيب صادق الذي قرّر ألا يرتكب خطأ في السلوك والمحاكمة إلى درجة تثير الغيظ والحسد، والياس شاكر الذي يزهد بأمور كثيرة ولا يزهد بصدق مستديم لا يقبل المساومة...
عرفني دكروب على هؤلاء ، وعلى غيرهم، حين التقيته في مكتب مجلة الطريق، وحدّثته أو حدّثني عن «جذور السنديانة الحمراء». كنت قد تخيّلته، وأنا في العشرين من عمري، حين كنا نعيد خلق الأسماء ونعطيها ما نشاء من الصور، إنساناً مديد القامة بالغ التأنق له شارب كثيف مستعار من زعيم سوفياتي مضى، وحركات عصبية صارمة. لم يكن في دكروب، حين التقيته، شيء مما اخترعه خيالي الشاب والمخفق معاً. كان فيه ما سيكون فيه: بساطة معلنة لا شيء فيها من «طقوس المراتب» ولغة الألقاب، ومسؤولية إزاء أصدقاء الطريق، يعلّمهم ما تعلّمه بلغة يكون فيها تلميذاً ومعلّماً معاً، مؤمناً بأن الذي يكتفي بدور المعلّم لا يعلّم أحداً. ولهذا كان يجسّر المسافة بين أهداف الأحياء ورسالة الأموات، الذين استأنفوا رسائل غيرهم، مؤكداً أن الأموات كانوا أحياء مثلنا، وأن الحوار بين أحلام الأحياء والأموات يقي الأحلام النبيلة من التداعي والسقوط. وهو ما أملى عليه أن يكتب عن جبران أكثر من دراسة ، وأن يجمع مقالات «فارس فارس» الاسم المستعار لغسان كنفاني، الذي رأى في المنفى الفلسطيني عاراً، وأن يوجّه إلى طه حسين أكثر من تحية. مارس دكروب، على طريقته، نصرة الأحياء للأموات، مدافعاً عن سلسلة كتابية جديرة بالدفاع عنها، ونصرة الأموات للأحياء القائلة بالحفاظ على الأحلام وتجنّب الأحلام المفرطة. كان في حالاته جميعاً كادحاً في حقل الثقافة، بلغة قديمة، أو «شغّيلاً» ثقافياً، بلغة ليست من هذا الزمان، جامعاً بين المؤانسة والنصيحة ومبتعداً عن الموعظة المتعالية، التي تقمع الإنسان قبل أن تهديه إلى الصراط المستقيم.
كلّفني، لسنوات طويلة، أن أكتب لمجلة الطريق، واستفدت من تكليفه لي، مستفيداً من ملاحظاته، ومن نبرة كلام متسامحة بعيدة في مرونتها وطراوتها عن نبرة «المركزية الديموقراطية»، حتى ظننت أكثر من مرة أنه شيوعي مرتد، أو أنه رفيق ضعيف الانضباط وقابل للارتداد.
عبّر دكروب في مساره الكتابي ـ السياسي عن إيمانيّة حيّة، أو عن إيمانية نقدية، إن جاز التعبير، ينقد ويضيف ويحذف ويحتفظ بالجوهري، ويسائل طريقه ويوسّعه ولا يذهب إلى طريق آخر. وقد يسأل الإنسان، عقائدياً كان أو شكوكاً ينفر من العقائد، لماذا المواظبة على السير في «الطريق» الذي هجره الكثير من رفاق الطريق؟ قد يكون للسؤال، وفيه أكثر من سؤال، إجابات كثيرة، قد تحيل على «التربية العقائدية»، دون أن تقدم جواباً مقنعاً. فهناك فرق بين البشر والعقائد، طرف يتغيّر وطرف لا يميل إلى التغيّر، وإن كان دكروب، الذي يعتقد ويتغيّر، قد آمن بأن الدعوة إلى خير البشر لا تحتاج إلى النظريات، وأن الإنسان الخيّر يذهب إلى الأفكار التي تبشّر بالخير. إنه الإنسان الذي وضع مرجعه داخله, رغم تغيّر الأزمنة مقترباً، ولو بقدر من مهدي عامل في كتابه «نقد الفكر اليومي»، حيث شرف النظرية من شرف الفيلسوف المدافع عنها، وصورة الأفكار النبيلة من صور المدافعين عنها، وحيث شرف الطرفين امتداد لرومانسية مقاتلة، تعتصم بالصحيح وتنظر بزهد كبير إلى النافع العابر والمصلحة الضيقة والمفيد الذي يأتي به موسم ويمحوه موسم لاحق.
كادح ثقافي
ستون عاماً كان فيها دكروب كادحاً ثقافياً، شغّيلاً عتاده الحبر والورق والمعاناة والانتظار والاتساق. كان ريفيا ومدينيا معاً، لا هو بالمثقف المختص ولا بالمسؤول السياسي، منضبطا ومرنا في انضباطه، متحزّبا أكثر من كونه حزبيا، وحزبيا ممتثلا مرجعه ذاته، أو حدسه الطبقي، بلغة تبدو اليوم بعيدة. ولعل هذا التوتر بين ما هو ممكن وما يجب أن يكون هو الذي أعطاه مهنة مستمرة، ليست هي بالمهنة تماماً، تقول ان الثقافة شأن عام، وإن هواجس «العام» تفيض على العقائد الكاملة والناقصة معاً. ولهذا كتب رفيق «الطريق المستقيم» وسيكتب عن العدل الاجتماعي وأمراض الطائفية وإرهاب الصهيونية وفضائل المثقفين الأفاضل الراحلين، وعن الأدب الواقعي وعن الأدب ـ من حيث هو ـ ساخراً جاداً صلباً ومرناً، بأسلوب واضح بسيط، أو بلغة الناس التي يفهمها الناس، كما قال طه حسين ذات مرة. يقول مسار دكروب: تفضي الأخلاق إلى المعرفة، فالأخلاقيُّ يستدرك ما ينقصه، دون أن يعني هذا أن المعرفة تقود إلى الأخلاق، فقد عرفت الثقافة العربية، التي تلت الخامس من حزيران، مثقفين جسّروا الهوة بين المثقف والأمير، وبين السلام والاستسلام، وبين الشر الجذري والمصالح الخاصة.
زامل دكروب ، في مساره الطويل، جيلاً من الماركسيين، ولد مع ثورة أكتوبر، أو بعدها بقليل، ورأى في شبابه شبابها، وخادعته في طور الكهولة ـ القوة العسكرية السوفياتية وانتصار فيتنام ـ وشاخت قبل أن يشيخ، ولم يفاجئه رحيلها الأخير. وكان عليه أن يتأمل المجموع والباقي ـ عنوان كتاب قديم للماركسي الفرنسي الراحل هنري لوفيفر ـ وكان باستطاعته أن يسوّق موضوعاً قابلاً للتسويق، وأن يعترف بالخطأ ويعلن التوبة، تلك التوبة التي اتسعت وتمدّدت إلى أن شملت قادة رأوا في الاتحاد السوفياتي، ذات مرة، إلهاً جديداً، يجبُّ الآلهة القديمة، واستعاضوا عنه، لاحقاً، ببركات «المنظمات غير الحكومية». استنجد دكروب بإيمانية، لم تفارقه، ورفض أن يختصر حلم العدل إلى نظرية وحقبة ودولة، مؤمناً بأن ديمومة الحلم من ديمومة الأصوات المدافعة عنه. كان بذلك ينصت إلى الحدس السليم، الذي لا يحتاج إلى نظريات كبيرة عقائدية.
عيّن دكروب ذاته حارساً للذاكرة العادلة، فاقتفى آثار لبنانيين، علّموه وتعلّموا من غيرهم، وكتب عن جبران المتمرد على الاستبداد والظلام، وأمين الريحاني الباحث عن دين إنساني جديد، يمحو المسافة بين الشرق والغرب، رئيف خوري وعمر فاخوري وحسين مروة ونزار مروة ومارون عبود وقرأ، بمحبة ومعرفة، إبداع الأخوين رحباني... وسّع في بحثه أفق الثقافة الوطنية، ذلك أن الوطن يفيض على العقائد والأفكار، وأقام بحثه على منظور تنويري، لا يحتكر الحقيقة ولا يبشّر بحقيقة أخيرة. وإذا كان عزوفه عن الحقيقة المعطاة دفعة واحدة قاده إلى الاحتفاء بطه حسين، في سن متأخرة، وجعله يُقبل دائماً على ما يجدد فكره، فقد قاده انتماؤه القومي العربي المستنير إلى الكتابة عن نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس ولطفية الزيّات وغالب هلسا ومحمود درويش. وقاده إلى عنوان كبير: «وجوه لا تموت»، دافع عن قيم لا تموت. ولعل هذه القيم هي التي جعلته مثقفاً أخلاقياً يدافع عن قيم ثابتة بأدوات متحولة، ذلك أن حق البشر في حياة كريمة حلم لا يعرف الأفول.
صوت كتابي محتشد بأصوات كتابية أسكتها الموت، وإخلاص بريء لما كان وما سيكون. إنها تلك المظاهرة المتخيّلة التي يسير فيها الأحياء والأموات، إذ رئيف خوري إلى جانب غسان كنفاني وعبد الرحمن منيف يأخذ بيد طه حسين، وناجي العلي يمشي وراء فرج الله الحلو، وسعد الله ونوس يهمس في أذن مهدي عامل، وإذ شاب نجيب مجهول الاسم يرفع ما شاء من الرايات. أنشأ دكروب سياسة التذكّر، واستولد منها نقداً أدبياً خاصاً به، يتضمن أشياء من التربية والسياسة والسير الذاتية والنقد الأدبي، تعبيراً عن فكر حر يكسر الفواصل بين الأجناس الكتابية ويخلق مكاناً خاصاً به، لا يقبله النقد الأدبي المسيطر، ولا ينصاع إلى تعاليم النقد المسيطر.
نسج دكروب سيرته الذاتية الفكرية وهو ينسج سير الآخرين، يحلل أفكارهم ويرسم ملامحهم، ويدخل إلى الأفكار والملامح بعد أن يصف المكان، كما فعل وهو يكتب عن محمد عيتاني، ويقرّر ملامح الزمان، وهو ما قام به حين كتب عن يوسف إدريس. دخل إلى عالم الرواية، الذي رغب به ولم يحقّقه، من باب النقد الأدبي، ودخل إلى النقد الأدبي من باب السير الأدبية، ودخل إلى هذين الجنسين الأدبيين من باب التحزّب السياسي. كان يعلن عن هويته السياسية والفكرية وهو يقرأ كتاباًُ واسعاً، يمتد من جبران إلى إميل حبيبي ومن الريحاني إلى نزار مروة. كان، في الحالات جميعاً، إنساناً طليقاً، يكتب عما عثر عليه، ويعثر على ما انجذب إليه، وينجذب إلى ما انجذب إليه غيره من الأخيار.
سؤالان أخيران: ما الجنس الكتابي الذي نعرّف به محمد دكروب؟ وما هو المثقف الذي حاول أن يكونه أو كانه، ولا يزال، بعفوية لا تعبأ بالتصنيف؟ إنه المثقف الهاوي، بلغة إدوارد سعيد، الذي يرفض أسر الاختصاص الكتابي ويدرجه في اختصاص أخلاقي واسع موضوعه: الاحتفاء بالنور وبدعاة النور، الذي يرى مزايا البشر قبل أن يلتفت إلى المفاهيم النظرية. شيء قريب من رئيف خوري، الذي كتب عن ديكارت وامرئ القيس وعن فلسطين وعمر بن أبي ربيعة، وبقي مشدوداً إلى أسئلة الإنسان الباحث عن الحرية. ولهذا نستطيع أن نعطف على دكروب جملة من الصفات السيّارة: المثقف الملتزم، المثقف الأيديولوجي، المثقف الرسولي، دون أن نضيف إليه شيئاً جوهرياً، لأن دكروب هو دكروب ، الذي عايش طويلاً مثقفين لهم صفات، وعايش آخرين، بلا صفات، وعايش نوعاً هجيناً من المثقفين، يلتقطون صفات في الصباح ويرمون بها بعيداً. إنه هو، بابتسامته التي تسبقه، وبـ«حرفيّته» المرهِقة التي صنعت مجلة «لطريق»وأصدقاءها، ذات مرة. إنه هو بأفقه المتسامح الذي أرسل، في مجلة "لطريق" تحيات إلى قسطنطين زريق وسمير أمين وعبد الله العروي. إنه هو بمِشيته المتثاقلة ونظّارته السميكة ومشاريعه القديمة ـ الجديدة، التي لا تشيخ.
دكروب في الثمانين: نقرأ فيه ثقافة تنويرية لبنانية عمرها قرن من الزمن وأكثر، وثقافة نقدية عربية اخترقت القرن العشرين كله. إنه ذاكرة المفرد وحارس الذاكرة الجمعية، وشهادة على ذاته وعلى آخرين، وصوت صادق نزيه ، تحرّر من ضغط الزمن وقسوة التغيّرات. صوت يُنطق أصواتاً صادقة، وتنطقه أصوات صادقة، حالفها وآزرها وخاصرها وخرج معها في مظاهرة حاشدة شعارها: يشيخ البشر ولا تشيخ أحلامهم.