هل كانت نظرة ستالين قاصرة، يوم تساءل هازئا من عدد الوحدات العسكرية التي بحوزة البابا؟ إذ ذهب الاتحاد السوفييتي وبقي الفاتيكان. الظاهر أن ستالين كان كلفاً بالقوة الجارحة وغافلاً عن القوة الناعمة التي تملكها الكنيسة الكاثوليكية، وربما كانت الأيام كفيلة بالإجابة عن سؤاله.
بين يديّ هذه الأيام ثلاثة كتب، الأول بعنوان: يوحنا بولس الثاني من منشورات دار غاليمار الفرنسية، وقد أعادت نشره بالإيطالية مكتبة لاريبوبليكا سنة 2005، وهو من تأليف الخبير بالشأن الفاتيكاني الفرنسي برنار لوكونت؛ والثاني وهو بعنوان: سيرة يوحنا بولس الثاني، وقد صدر بمناسبة تطويب البابا الراحل، عن مكتبة سان باولو بروما، وهو من تأليف مؤرّخ الكنيسة البارز في الزمن الحاضر، الإيطالي أندريا ريكاردي. أما الكتاب الثالث فهو: التقرير الإحصائي للكنيسة للعام 2011 الصادر عن مكتبة الفاتيكان، الذي قدّمه الكردينال تارشيسيو برتوني، كاتب الدولة، للبابا بندكتوس السادس عشر. تولى السهر على الإحصاء المونسنيور فيتوريو فورمونتي والأستاذ أنريكو نينّا، وهو إحصاء يستعرض نسب نمو الكنيسة وتراجعها، وهو ما سنحاول التطرق إلى بعض ملخّصاته.
أجل تمتد حاضرة الفاتيكان على أربعة وأربعين هكتارا، وباتباع السور المحاذي يمكن الطّواف بتلك الحاضرة على مدار الساعة، لكن سلطانها يتجاوز حجم دول مترامية الأطراف. فجيش الكنيسة الحقيقي، هو جيش فريد، يبلغ في الراهن 400 ألف كاهن، و 750 ألف راهبة. كما أن لدولة الفاتيكان علاقات دبلوماسية مع 177 دولة، وتحت إشرافها ثلاثة ملايين مدْرسة، وخمسة آلاف مشفى، ويضم الكاريتاس (دور الإحسان)، المؤسّسة التي تسهر على المساعدات الاجتماعية، 165 ألف بين متطوّع وعامل يخدمون 24 مليون نفر. وأما مكتبة الفاتيكان فتضمّ أكثر من مليون كتاب، ومئة ألف بين خريطة ومخطوطة.
وبمحصلة عامة، فقد مرّ عدد المعمَّدين من مليار 166 مليونا سنة 2008 إلى مليار و181 سنة 2009، أي بعدد 15 ميلونا، وبنسبة 1،3 بالمئة. وتطوّر عدد الأساقفة في العالم من سنة 2008 إلى 2009 من 5.002 إلى 5.065، لكن عدد الراهبات تراجع، رغم التطور الحاصل في إفريقيا وآسيا. ففي ظل تلك التطورات تبدو بلدان ما وراء الصحراء، التي مرّ عدد الكاثوليك فيها من 1،9 مليون سنة 1900 إلى 140 مليونا سنة ألفين الحقلَ الديناميكي البارز للكنيسة. عالم الاجتماع نايل بوستمان تحدث عن التغيير بـ"الإضافة" والتغيير "العضوي"، الأول بانضمام العنصر ضمن كلٍّ موجود مسبقا والثاني بتحوير الدخيل كافة عناصر النظام في الوقت نفسه. فهل سيحوّل ذلك الرقم مسيحيي إفريقيا من حشو للكنيسة، منضمّ إلى مؤسسة متعددة الجنسيات، مقرها الرئيس في أوروبا، إلى فاعل فيها؟
بمقارنة خاطفة، لئن تجاوز عدد المسلمين عدد الكاثوليك في العالم، فإن عدد المسيحيين يبقى الأكثر، فهم ثلث سكان المعمورة. وفي خضم ذلك التطور الهائل نجحت الكنيسة في التحكم نسبيا بشيء من نزيف رجال الدين الذي يؤرقها. ولكن رغم ذلك تبدو آثار المحنة الأخلاقية للكنيسة حاضرة، ففي ألمانيا صعّدت آثار أحداث التحرّش والاعتداء الجنسي على الأطفال إلى 40 بالمئة عدد الذين هجروا الكنيسة الكاثوليكية. ما سبّب في العام الماضي سحب 180 ألف ألماني عضويتهم من الكنيسة، أي بزيادة 50 ألفا مقارنة بالعام 2009، وفق ما نشرة الملحق الديني في يومية "دي زايت".
يتفق الكاتبان برنار لوكونت وأندريا ريكاردي أن البابا كان لاعبا سياسيا متفردا، فهل ما زال معنى لآية الجزية الإنجيلية "اعطوا ما للقيصر للقيصر وما لله لله"، التي بات الكثيرون يجهلون مدلولها الإنجيلي الأصيل بعد أن استعيظ عنه بمدلول سياسي دخيل يزعم الفصل بين الدين والسياسة. فإذا كانت ليوحنا بولس الثاني معجزة، استُند إليها في تطويبه في ساحة بطرس يوم أول مايو الجاري، بموجب إشفائه السيّدة ماري توماس من داء البركنسون، فالحقيقة أن أكبر معجزاته ما ساهم به في السياسة الدولية في نخر الاتحاد السوفييتي. ربما لهذا تسعى الدول الفاعلة في السياسة الدولية دائما خطب ودّ الفاتيكان وأن يكون حليفها في سياساتها، فقلّ من يفد من الساسة على روما دون أن يجنح نحو كنيسة القديس بطرس لتقبيل يد قداسة الحبر الأعظم.