شهدت الكتابة في المسائل الدينية لدى الباحثين والكتّاب التونسيين، خلال العقدين الأخيرين، تنوّعات لافتة، وأبرز ما ميّز مساراتها خروجها عن النمطية الواحدة إلى تنوّع منهجي وثراء موضوعاتي. فقد فرض واقع التضييق على النخبة المنشغلة بالقضايا الدينية ضروب اشتغال فكري، أملتها مواقع تواجدها. والملاحظ أن الفكر الديني التونسي خلال العقدين المنصرمين قد ضاقت به أرض تونس بما رحبت، فكان جلّ أبحاثه ودراساته ومقالاته منشورا في الخارج، أكان الكاتب متواجدا في تونس أم خارجها.
لكنّ البارز في خضمّ ذلك السّيل من الكتابة المستنفَرة هو المنزع الأكاديمي الذي اجترحته كليات العلوم الإنسانية والآداب في معالجة المواضيع الدينية، بما جنحت نحوه إلى بناء خطاب تفكيكي تحليلي للموروث الديني، لطالما عدّه الزواتنة وقْفاً خاصا بهم. إذ بقي الطرح الزيتوني يراوح في معالجاته الكلاسيكية وبأدواته التقليدية، ولم يشهد طفرة سوى مع نزر قليل من الأبحاث التي قاربت الآخر الديني. كان ذلك مع محسن إسماعيل الأستاذ في جامعة باريس الثالثة، الذي هجر الزيتونة بعد أن أتم رسالته "الله والإنسان في منظور لاهوت التحرّر"، وأيضا مع عدنان المقراني الذي استقرّ به المقام في الجامعة الغريغورية في روما بعد أن ناقش رسالته "نقد الأديان عند ابن حزم الأندلسي" (نشرت لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، وكذلك مع كاتب المقال الذي غادر الزيتونة واستوطن روما بعد مناقشة رسالته "الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري" (نشرت في دار الجمل بألمانيا)، وكذلك مع الغامبي المتوْنس حسن سعيد جالو الذي حطّ به الرحال في مدينة مساكن، بعد مناقشة رسالته "أثر الإسلام في اللغات الإفريقية: الولوف والفلانية أنموذجا".
وبالتالي، خارج معقل الزيتونة التاريخي شقَّ الفكر الديني التونسي مغامرته الجديدة. تكثّفت الانشغالات ضمن مسارات ثلاثة أساسية، يمكن حصرها في الإسلام التفكيكي، الذي نشط داخل تونس، وقد عبر عنه بالخصوص عبد المجيد الشرفي وألفة يوسف وجماعة "الإسلام واحدا ومتعدّدا" وغيرهم؛ والإسلام العقلاني، ولعلّه الأكثر عددا وكان من أبرز رموزه أبويعرب المرزوقي، ومحمود الذوادي، واحميدة النيفر، ومحمّد الحداد، ومصدّق الجليدي وغيرهم؛ أما ثالثة الأثافي في خارطة الفكر الديني التونسي فقد كان الإسلام السياسي، الذي نشط في المنفى أساسا، وإن أصرّ بعض المساهمين فيه من تونس على الحضور رغم الاعتقال والملاحقة، مثل الباحث العجمي الوريمي والشاعر البحري العرفاوي.
لقد كان تيار الإسلام التفكيكي النقدي طليقا في الساحة التونسية مقارنة بغيره، ما خوّل له بلورة أفكاره بصورة أوضح. فلمْ تشكّل أعماله، المنشورة في تونس أو خارجها، تصادما مع السلطة، بل عُدّت، من جانب مّا، سندا لمشروعها الثقافي ودعما لأجندتها السياسية، وهو ما كفّ يد القمع عن أصحابها. وكأن الضمانة لفكر الإسلام التفكيكي في إعمال نقد لا هوادة فيه في القداسي حتى يُثبت براءته وتبرؤه من أيّة تهمة. من جانب آخر، حضر الفكر الإصلاحي العقلاني وقد كان مشوبا بالحذر ومسكونا بالتوجّس في كتاباته، لهواجسه التصحيحية والتأصيلية للفكر الإسلامي. كان منظورا إليه بعين الريبة، لأنه لم يلغ ولاءه لمبدأ أصالة الإسلام والمنافحة عنه، وفي الوقت ذاته حرص على ترسيخ قراءة مجدّدة للموروث الديني. وأمام امتعاض السلطة من الإسلام العقلاني الإصلاحي، وموقفها الرافض للإسلام السياسي الإحيائي بشكل قاطع، لجأ كتّاب التيارين للنشر خارج تونس بالأساس، فضلا عن الكتابة في الصحافة الدولية والدوريات الأجنبية، عبر صحف "الحياة" و"القدس العربي" و"الشرق الأوسط" و"الزمان" في لندن، و"الشرق القطرية" و"العرب القطرية" ودوريات فكرية مثل "النهج" السورية و"التسامح" العمانية، ومواقع فكرية في الشبكة العنكبوتية. أما الشق الثالث من مكوّن الفكر الديني التونسي، فقد كان الإسلام السياسي، الذي التفّ حول الأطروحات الإحيائية، وكان من أبرز رموزه راشد الغنوشي بنشاطه من لندن عبر المركز المغاربي للبحوث والترجمة، الذي نشر جلّ أعماله، وعبر عديد المواقع الإلكترونية. وكان من نشطاء تلك المجموعة أيضا عبدالمجيد النجار، الذي برأ بنفسه عن المباشرتية السياسية وانكبّ على الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي في الغرب وعلى فقه المواطنة للمسلمين في أوروبا. كما لمعت ضمن ذلك التيار مجموعة شابة التفّت حول دورية "أقلام"، الصادرة من لندن عبر الشبكة العنكبوتية، بتنسيق الكاتب نورالدين العويديدي.
بشكل عام انكبّ تيار الإسلام السياسي على مسألة تبْيئة الديمقراطية من منظور إسلامي في المجتمعات العربية، مع تركيز خاص على تحليل وانتقاد الأوضاع السياسية في تونس، فضلا عن انشغالات بالواقع الغربي وسبل التثاقف معه. ربما كان رفيق عبدالسلام أبرز المؤصلين لذلك المسعى من خلال طروحاته التي تلخّصت في كتابه المعنون بـ"العلمانية والدين والديمقراطية: المفاهيم والسياقات". كانت مجموعة الإسلام السياسي، رغم مظاهر استيعابها العميق لقيم الحداثة السياسية، والقبول بالديمقراطية، وتبني حقوق الإنسان، والإقرار باللعبة الحزبية، ووعيها بانزلاقات مفهوم العلمانية، شحيحة في كتاباتها التي تبرز تجاوزها للمدرسة الإخوانية، وإن تخطّتها على مستوى الرؤى والطروحات السياسية.
ما هي المتطلّبات المطروحة اليوم على الفكر الديني التونسي بعد أن بات النفي من ذكرى الماضي؟
لقد كان الفكر الديني مفروضا عليه التشتت والتباعد، بموجب ضيق هامش الحرية. وأما اليوم فما على الباحث إلا أن يجهد نفسه ليخرج من قبْو الحصر النفسي والإيديولوجي، لأنه غالبا ما خلّف لديه تشوّهات هائلة. فإن كان المفكر يزعم أن المعرفة سلطة فليتحوّل فعلا إلى سلطة، ويزحفَ بفكره وبحثه شطر المجتمع بعد أن كان يتحاشاه، فلا عذر له اليوم بعد أن استعاد حيزه الاجتماعي المصادَر.
ربما كان الغائب الفعلي البارز في هذه الخريطة الدينية التي رسمناها الزيتونةَ، وهو ما لا ينبغي. لقد وعيت رمزية تلك المؤسّسة حين التحقت بالتدريس بجامعة الأورينتالي في نابولي، في مستهلّ نزولي بإيطاليا. كانت المستعربة إيزابيلا كاميرا دافليتو تقدّمني إلى طائفة من الأساتذة والمستشرقين الإيطاليين، وهي تردّد كلمة ملؤها التقدير والإعجاب: إنه من الزيتونة.. إنه من الزيتونة! أدركت حينها الثقل التاريخي لتلك المؤسّسة التي غمرها الطوفان.