يعد هذا الكتاب الصادر سنة 1895 من صفوة الأعمال التي عنيت بسبر وتمحيص نفسية الجماهير، فبالرغم من أنه لم يلق قبولا وذيوعا واسعا حين صدوره، غير أن الأحداث الكبرى التي عرفتها بدايات القرن الموالي وفي مقدمتها صعود نجم الحركات التوتاليتارية قد صدقت نبوءة المؤلف إلى حد بعيد. ولكي نفهم مشمولات ومضامين الكتاب على نحو أوضح لا مناص من استحضار السياق العام الذي صاحب تأليفه، حيث فرضت الثورة الفرنسية التي قامت سنة 1789 متغيرا جديدا على ساحة الأحداث في فرنسا وعموم أوروبا ألا وهو بزوغ سطوة الجماهير كفاعل أساسي بعدما كانت مغيبة ومهمشة على مدار السنين التي سبقت الحدث الثوري المزلزل، حيث كانت السياسات الفردية والفوقية التي انتهجها الحكام والملوك هي المتحكم الرئيس في مجرى الأحداث.
إن الكاتب الفرنسي وصدورا من خلفيته اليمينية يتوجس خيفة من صعود الجماهير ولا ينظر بعين الرضا للنتائج المتولدة عن الثورة الفرنسية، إذ يعتبر الجماهير سببا في هدم الحضارات وتقويض أسسها ولا يتورع عن وصفها بالبرابرة. غير أن هذا لم يمنعه من إنجاز دراسة موضوعية ومرجعية بشأن سيكولوجية وروح الجماهير في محاولة لاستكناه أبعاد تلك الظاهرة واستشراف مآلاتها. وعطفا على ذلك، فإنه لا يجد ضيرا في إبراز بعض الفضائل والصفات الإيجابية التي تختزنها الجماهير والتي قلما نجدها لدى الأفراد العاديين.
ولعل أهم خصيصة يتصف بها الجمهور هي فقدان الفرد المنضوي تحت لوائه للشخصية الواعية والإرادية بحيث تذوب هذه الأخيرة وتنصهر في اللاوعي الجمعي للجمهور، وهذا ما يفسر لنا سبب اختلاف سلوك وتفكير الفرد المعزول عن الحالة التي ينخرط فيها في صفوف الجمهور، ذلك أن الفرد حين يكون بمفرده فإنه لا يعدم القدرة على الفحص والتدقيق والمراجعة النقدية. هذا بخلاف الحالة حيث يكون وسط جمهور، إذ يملك القابلية للإنسياق وراء مختلف التحريضات التي يتعرض لها بدون أن يخضعها لأي مناقشة أو تمحيص ليطلق العنان لدوافعه الغرائزية المجردة من أي اعتبار عقلاني. وفي هذا يجب التنويه بأنه لا يوجد فارق جوهري بين الجماهير المكونة من أفراد مستنيرين (قضاة الحكم ، المجالس النيابية...) وجماهير عامة الناس ذوو المستوى المتوسط.
ولئن كانت الجماهير كائنات لاواعية تحول دون تفتق الشخصية الفردية القادرة على التفكير ذاتيا وإراديا بمعزل عن سطوة الجموع، فإن الجمهور يستعصي التأثير فيه عن طريق توظيف أسلوب الحجاج المنطقي ووسائل الإثبات العقلية والفلسفية التي غالبا ما تثير نفورا واشمئزازا لديها، ذلك أن الجماهير لا يمكن النفاذ إلى روحها إلا بواسطة استخدام وسائل إقناع بسيطة وسطحية من قبيل الصور الإنطباعية التي تدغدغ مخيلة الجماهير. وفي هذا الإطار يقر الكاتب بأن الكلمات التي يكون لها مفعول السحر على الجمهور هي التي تتصف بالغموض ويصعب حصر معانيها بدقة، حيث يمكننا في هذه الحالة أن نخلع عليها ما نشاء من صور وردية وآمال براقة بصرف النظر عن مدى تماسكها المنطقي والحجاجي.
كما يؤكد مؤلف الكتاب بأن الجماهير تميل إلى الإعجاب والإنقياد تلقائيا وراء المحركين الذين يظهرون بمظهر الرجل القوي القادر على فرض إرادته وقيادة الأمة وفق المنهج الذي يرتضيه مدفوعة بنوازعها الإستبدادية ، في حين أنها تأنف من القادة الوديعين المفتقرين للكاريزما الشخصية ولا تستمزجهم. وعليه، فلا غرو والحالة هذه أن الزعماء المستبدين والشعبويين طالما استندوا إلى قاعدة جماهيرية عريضة توفر غطاء لشرعنة سياساتهم وأعمالهم.
ومن جهة أخرى، يميز المؤلف بين العوامل البعيدة التي تساهم في تشكيل آراء وعقائد الجماهير والتي تجد أساسها في خصائص وطباع عرق معين، فضلا عن العادات والتقاليد والقيم المتجذرة في اللاوعي الجمعي والتي يتم غرسها بواسطة التربية ومؤسسات التنشئة التقليدية (الأسرة، المدرسة...)، وهذه العوامل هي التي تشكل ما يسميه الكاتب بالعقائد الثابتة التي يصعب تغييرها أو تعديلها إلا من خلال حدث ثوري عنيف أو تحول فكري جذري (وكمثال على تلك العقائد الثابتة أو الدوغمائية نورد التصور الخاص بالنظام الإقطاعي والعقائد اللاهوتية في القرون الوسطى أو الأفكار الثورية والإجتماعية التي تمخضت عن الثورة الفرنسية). وإلى جانب ذلك، ثمة أيضا العوامل المباشرة أو القريبة التي لا تعدو كونها الجزء الظاهر من جبل الجليد أو الشرارة التي تطلق حدثا ما أو تساهم في تبلور عقيدة معينة.
أما فيما يخص صفات القادة أو المحرضين الذين يحركون الجماهير ويظفرون بإعجابهم، فيميل الكاتب إلى القول بأن القادة الذين طالما سحروا الجماهير ونجحوا في استمالة مشاعرها وعواطفها باتجاههم هم أولئك الذين يقتنعون بالمثل والأفكار التي يتشربونها ويؤمنون بها عن ظهر قلب ليشكلوا بذلك مصدر إلهام للجماهير وبوصلة لها، هذا على النقيض من القادة الإنتهازيين والوصوليين الذين تتبدل مواقفهم باستمرار إذ لا يملكون سوى تأثير ظرفي ووقتي على نفسية الجماهير. وعلاوة على ذلك، فلا يكفي أن يكون القائد خطيبا مفوها ومتبحرا في فن البلاغة والخطابة لكي يحظى بتأثير على نفوس الجماهير، وإنما يتوجب عليه أن يكون ملما بروحها وسيكولوجيتها وقادرا على استبطان ميولها وأمزجتها.
وعطفا على ذلك، يعرض الكاتب لوسائل الإقناع التي يستخدمها محركو الجماهير لجذبهم والتأثير في نفوسهم والتي من جملتها نورد أسلوب التوكيد، حيث غالبا ما يميل قادة الجماهير إلى توظيف عبارات قطعية ويقينية تخلو من أي تنسيب أو برهان حجاجي لتنفذ بسهولة إلى أعماق ونفسية الجماهير اللاواعية التي لا تملك القابلية لتمحيص الخطاب الموجه إليها وإخضاعه للمراجعة النقدية. هذا دون إغفال أسلوب التكرار والذي يضفي على العبارات المستخدمة التي يتم تردادها باستمرار صبغة يقينية تجعلها في منزلة الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل. كما تعتبر العدوى نتيجة طبيعية وحتمية للأسلوبين السابقين والتي يتم تجسيدها من خلال تشكل تيار الرأي العام والذي قد يتحول إلى "طغيان الأغلبية" باستعارة تعبير الفيلسوف السياسي الفرنسي "ألكسيس دو توكفيل".