إذا كان صاحب جائزة نوبل الهندي أمارتيا صن ينظر إلى التنمية باعتبارها حرية، بكل معانيها ومستوياتها الفكرية واللغوية والفعلية السلوكية، فإن التنمية لا يمكن تحقيقها خارج الثقافة من حيث هي نمط وجود وخط فاصل بين مملكة الحيوان وعوالم الإنسان المادية والرمزية والافتراضية. بهذا الصدد، لا يمكن مقاربة مشكلات التنمية وقضاياها المختلفة دون استحضار الإنسان محركها الأساس، لأن التنمية الاقتصادية بمعزل عن روح الإنسان وعقله ورموزه وسلوكه وفعله مآلها الفشل وظهور تناقضات التحديث ومفارقاته الاجتماعية والثقافية. كما أن الحديث عن نموذج تنموي مفترض لا يستقيم دون وضع الرهان الثقافي في صلب اهتمامه، تبعا لاستراتيجيات محددة في المكان والزمان وبرامج محكمة الأهداف والآليات، وفي انسجام تام مع انخراط الفاعلين والمؤسسات ذات الصلة. إذا كيف هو الوضع الثقافي في سياقنا الشمال إفريقي والشرق أوسطي؟ وكيف يتحدد حجم القراءة؟ وما مدى حضور الكتاب في الحياة اليومية للأفراد؟ وبأي معنى يمكن الرهان على القراءة والثقافة لتحقيق التنمية الشاملة؟ وهل معارض النشر والكتاب تسهم في نشر فعل القراءة وتشكل فرصة للتنمية الثقافية أم أنها لا تحيد عن كونها مواسم تكشف عن فراغاتنا وهول عزوفنا عن القراءة وخواء ذواتنا؟
التنمية ثقافة اختيار وموقف ناتج عن علاقة متوترة بين مفهومين متعالقين، التنمية والثقافة، رباط ملتبس وغامض ومركب، لكنه مسكون بقدر عال من التفاعل، إذ بالقدر الذي تصنع الثقافة التنمية، تصنع التنمية الثقافة دون إغفال نسق المفاهيم الضدية ذات الصلة التي تحكم البنيات الذهنية والموضوعية والنظام العام للأشياء، التحديث والحداثة، التخلف والتقدم، الفرد والمجتمع، الفكر والواقع، التراث والمعاصرة، وغيرها. إنها مفاهيم خاضعة إلى جدل منفتح ودينامي منفتح محكوم بالشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
أشار فلاسفة اليونان قديما، إلى أن الإنسان كائن مدني بطبعه، ويميل بالطبيعة إلى العيش مع بني جنسه من أجل تحقيق وجوده وحاجاته وسعادته. هذا ما جعل أرسطو مثلا يعتبر أن الكائن الذي يستطيع العيش خارج المدينة والمدنية، إما كائن فوق البشر "إله" وإما كائن دون البشر "حيوان"، ويوضح الفيلسوف هذه الأفكار في ارتباط وثيق مع ما تتطلبه الحياة داخل الجماعة السياسية من تعاون ومشاركة. هذه الفكرة تبدو غريبة اليوم، كونها عرفت تحولات جذرية في العصر الحديث مع رواد فلاسفة العقد الاجتماعي والتنوير الأوروبي، وما أسهم به هؤلاء من تحديد مغاير للإنسان بوصفه كائنا عاقلا وذاتا أخلاقية وحقوقية سواء في علاقته مع ذاته أو مجموعة الأغيار والعالم الخارجي. بمعنى أن الإنسان قادر على التفكير والاختيار وتحمل نتائج الفعل والمشاركة في صناعة القرار العمومي بآليات سياسية حديثة، وقادر بالعلم الحديث والتقنية المرتبطة به على السيطرة على الطبيعة واستغلال خيراتها وثرواتها ومقدراتها؛ وهو ما أسفر عنه، في الفترة المعاصرة، تدمير مهول للطبيعة والإنسان معا أو ما يسميه كارل بولاني بالموجات الأربع المتتالية للسلعنة والسوقنة: قوة العمل والأرض والمال والمعرفة، الأمر الذي أدى إلى تصاعد أصوات الحركات الاحتجاجية التي تطالب بإعادة النظر في علاقة الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة والمال والمعرفة جراء ما أحدثه مشروع النموذج الصناعي الرأسمالي من خسائر.
ومع نشأة العلوم الإنسانية والاجتماعية تبين أن الإنسان كائن ثقافي بامتياز، خاصة مع أعمال الأنثروبولوجيا التي تمثل إسهامات تايلور ومالينوفسكي ورادكليف براون وكلود ليفي ستراوس معالما فارقة لها. إذ بين كلود ليفي ستراوس أن الإنسان كائنا ثقافيا من خلال ابتكار منظومة رمزية تتمثل في اللغة أساسا. والثقافة بهذا المعنى، إنتاج لواقع يتمثل في أحداث وعلاقات وأدوار وتراتبيات وممارسات وأفعال وسلوكيات ناتجة عن تمثلات وخطابات ومقولات وأفكار؛ وهو ما يشكل العالم الاجتماعي ويصنعه. لذلك، إحداث التنمية رهين بإنتاج الثقافة المادية والرمزية.
في سياقنا المغربي الذي لا ينفصل عن السياق العربي أو الشمال إفريقي والشرق أوسطي، لا نعرف حالة حداثة أصيلة تعلي من شأن الفرد وحريته واختياراته ومسؤوليته في صنع القرار العمومي في جميع مستوياته ومجالاته، كما أننا لم نحقق بعد توازنا بين التحديث الكمي والتحولات الذهنية، بالشكل الذي يدفع في اتجاه تبلور سياسات عامة وعمومية تحقق التنمية البشرية الحقيقية، تنمية روح الإنسان وعقله وذوقه وفنه ولغته وكفاءاته بعيدا عن ذهنية السحر والشعوذة والخرافة والتحريم وتكفير التفكير والإبداع. بقي هذا الإنسان مرهون بالأصل أو يسلك وفق العود الأبدي حسب تعبير الفيلسوف نيتشه، ومنطق نقطة البدايات أي الرجوع إلى النصوص التراثية والشخصيات التاريخية وتقديسها والسكن فيها، وكأن التاريخ خاضع إلى قانون الاستقرار والثبات، ولا يعرف أي تغير وتحول يذكر؛ وهو ما تفسره نقاشات عديد مواضيع الندوات والمؤتمرات وقضاياها، وأحداث ووقائع كثيرة في الواقع والافتراضي، وصراعات إثنية وتدينية ومذهبية وطائفية إقليميا ودوليا. لم يتحرر الفرد من سلطة العادات والتقاليد والرواسب المتراكمة التي استبطنها عبر البنيات التقليدية والقوالب الأبوية التي لا تحيد عن الوصايا والحجر، الأمر الذي جعل هذا الفرد يعيش حالة قصور دائمة، وقهر مزمن وهدر لا حد له.
اللغة مسكن الوجود وناطقه الرسمي تبعا للفيلسوف مارتن هيدغر، وفيها تتجلى الثقافة في كل أبعادها، وبها تحرر الفرد من نفوذ الغريزة، وتشكل فكره وهويته وملامحها، عبر التعليم والتعلم والتنشئة الاجتماعية الأساسية والثانوية كما أشار السوسيولوجي أنتوني غيدنز. هنا تأتي أهمية القراءة والكتاب وسياسة صناعة الثقافة والآليات والوسائل المستنفذة لها، ذلك للارتقاء بالإنسان المنتج لهذه الثقافة والناتج عنها. إن القراءة فرصة للسفر عبر الزمن والانفتاح على حيوات أخرى وتكثيفا للحياة في عمقها وأبعادها الممتعة والنوعية، تفكير من خلال الآخر وعبره، تحقيق للذات وتقوية لوجودها. والكتاب إلى جانب المؤسسات التنشئوية الأخرى، آلية للإنتاج الفكري والثقافي، والترويج له وخلق فضاءات لنشره وإشاعة القراءة، وفرصة للتنوير والتحرير، ورفع الوصايا عن التفكير الفردي بعيدا عن الخوف والإكراه، وتأثيرات السلطة السياسية والدينية وتحرير من الخوف الناتج عنهما.
لكن، واقع الحال في سياقنا يكشف عن مدى العزوف عن القراءة، لدى متعلمي المدارس وطلابها، والفرد العربي لأسباب مركبة ومتداخلة، تاريخية واقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية، وتتحدث أرقام بعض التقارير "بغض النظر عن طريقة صياغتها وأساليب المسح المعتمدة فيها والفئة المستهدفة والأدوات والتقنيات التي استخدمت في جمع البيانات وتبويبها وتكميمها وعرضها، " عن مدى تدني معدل القراءة للفرد الواحد؛ ففي تقرير قامت به منظمة التربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، تتحدث عن 60 مليون عربي لا يقرؤون ولا يكتبون و6 ملايين طفل خارج المدرسة، وأرقام مهولة أخرى تقدمها المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم "ألسكو"، حيث 96 مليون عربي أميون بنسبة 26 بالمائة مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يمثل 13.6 بالمائة. كما أن تقرير مؤشر القراءة العربي الذي قامت به مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم وفق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لقياس معدل القراءة بالعالم العربي سنة 2016، يُقرّ بأن إلمام المغاربة بالقراءة لا يتجاوز متوسط 57 ساعة سنويا بمعدل 9 دقائق في اليوم، مع العلم أن طبيعة المادة المقروءة ورقية وإلكترونية ولا تنفصل عن الدراسة والعمل المهني. إن هذه الأرقام توضح مدى ضعف الاهتمام بالقراءة والإقبال عليها.
وبهذا الصدد، يعتبر المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي ينظم كل سنة بالدار البيضاء، فرصة للتشجيع على القراءة وشحذ الوعي وتحفيز النفوس على تغيير أسلوب التفاعل مع الكتاب، والكتّاب والمبدعين في مختلف الرواقات ومجالات التأليف. كما يشكل لحظة مؤسسة لتبلور الثقة وتقويتها بين القراء "من مختلف الأعمار والفئات والأقطار" والكتاب وتقوية لأواصر المحبة وصداقة الفضيلة مع الخيرات الرمزية. لكن، مع ذلك يظل المعرض محلالا لكشف ضعف السياسة الثقافية بالبلاد، والوضع الهش للمؤلف، باعتباره العنصر الفاعل في سلسلة الصناعة الثقافية أمام هيمنة دور النشر والتوزيع والمطابع وفرض شروط عقود مجحفة في حقه. كما أن المعرض تعبير عن الموسمية في التعاطي مع الكتاب وتكريس للمركزية الثقافية دون تغيير لزمان المعرض ومكانه ورهاناته الاقتصادية والسلعية في أفق تحقيق سياسة للقرب الثقافي والعدالة المجالية والتنمية المأمولة.
رشيد المشهور
باحث اجتماعي