إن مفهوم "الثقافة" من المفاهيم المعقدة التي يصعب تقديم تعريف جامع مانع لها، ويظهر جليا أن مفهوم الثقافة قد اتسع في أيامنا هذه اتساعا كبيرا، بحيث أصبح يدل على الجانب النظري في أي نشاط بشري، وهكذا نسمعهم يقولون: ثقافة الرياضة، ثقافة الطبخ، الثقافة السياسية، ثقافة اللباس، وهم يقصدون بذلك جميع المعارف النظرية السائدة حول الرياضة والطبخ..، هذا فيما يتعلق بمفهوم الثقافة أما "الثقافة الشعبية" فهي مرادفة لمفهوم "الفلكلور" وإن كان بعض الدارسين يستشعرون الخلاف اليسير بين المجالين، وبهذا يستوعب التراث الشعبي أو الثقافة الشعبية القوام الثقافي الجماعي الذي تصدر الجماعة فيه عن الشخصية الجماعية أكثر من صدورها عن الشخصية الفردية.
ويرمي هذا المقال إلى استكناه مكانة الثقافة الشعبية من المنظور الحداثي وما بعد الحداثي، ذلك أن هذين الاتجاهين نظرا إلى الثقافة الشعبية بطريقتين مختلفتين تماما، فإذا كانت الحداثة نمطا حضاريا متميزا يتعارض مع نمط التقليد، بمعنى أنها تتعارض مع كل الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية بما فيها الثقافة الشعبية، فإن ما بعد الحداثة على العكس من ذلك تميزت بتآكل الفاصل القديم بين الثقافة العليا وبين ما يسمى بالثقافة الجماهيرية أوالشعبية. .
- الثقافة الشعبية من المنظور الحداثي:
اختلف الباحثون في تحديد معنى الحداثة وما يتصل بها من مفاهيم مشابهة، ذلك أن الحداثة كمفهوم قد انفصلت تماما عن مفهوم التجديد أو المعاصرة، وقد نشأ مصطلح الحداثة ضمن حقل النقد الأدبي وقد وظف واستخدم في حقول معرفية أخرى كعلم الاجتماع والسياسة والتحليل النفسي والألسنية.. ليشير إلى فترة زمنية مر بها الغرب.
بنيت مرحلة الحداثة بالأساس على استعمال العقل من حيث أنه إقرار للشك المنطقي ورفض لكل حكم مسبق. وقد تلازم نشوء الحداثة مع تعاقب تطورات وأحداث تاريخية كبرى مترابطة، من ضمنها بداية الاكتشافات العلمية وانتقال مفاعيلها إلى الحياة الاجتماعية في منتصف القرن 15، اكتشاف جاليلو لمركزية الشمس واختراع الألماني جوتنبرغ لآلة الطباعة، وتزامنها مع حركة الإصلاح الديني مع مارتن لوثر، ومن أساسيات فكر الحداثة نذكر:
- مقومات التصدي لظلام العصور الوسطى.
- تحرير العقل من سلطة المقدس وعبودية رجال الإكليروس والإقطاع.
- قيام المجتمع الصناعي على أنقاض الإقطاع، خصوصا بعد الثورة الفرنسية في 1789 التي مهدت الطريق أمام نشوء الدولة البرجوازية.
يبدو من خلال ما سبق أن المجتمع الحديث هو نظام قادر على الانعكاسية على حد تعبير جيدنز، من خلال تعارضه مع كل المجتمعات الطبيعية التي كانت تجعل من الأشخاص قادرين على التواصل مع المقدس بصورة مباشرة من خلال التراث. هكذا إذن نظرت الحداثة إلى الثقافة الشعبية بنظرة استعلاء، فمنذ عصر الأنوار، ثم عزل وتهميش الثقافة الجماهيرية أو الشعبية بوصفها ثقافة هابطة وهمجية. ففي كتابه الثقافة والفوضى الصادر عام 1869، شن الشاعر والناقد الثقافي البريطاني الفيكتوري (ماثيو آرنولد) هجوما عنيفا على المجتمع البريطاني في نهايات القرن التاسع عشر، وذلك لافتقاره إلى قيم الكمال والسمو والثقافة العليا التي تنمي الذوق العام والأخلاق. وظهرت نفس الأفكار والنزعة تجاه الثقافة الشعبية في كتاب الشاعر والناقد الأمريكي المولد والبريطاني الجنسية ت. إس. إليوت (ملاحظات نحو تعريف الحضارة) والصادر عام 1948. الأمر الذي لا نجده في اتجاه ما بعد الحداثة حيث أن هذه الأخيرة أعادت الاعتبار للثقافة الشعبية وهو ما سنوضحه في العنصر القادم.
وفي ظل هذا التهميش الذي مارسته فترة الحداثة على الثقافة الشعبية، كان الأغنياء والطبقة البرجوازية هم من يرجع لهم الفضل في تمكين الأفراد ليصيروا موسيقيين محترفين أو رسامين أو عازفين، ثم بعد ذلك أنشئت المؤسسات المتخصصة مثل مدارس الفن لتتولى تدريب أجيال المستقبل على التخصص الثقافي، أما المؤسسات الأخرى مثل المسارح والقاعات الفنية وصالات الاحتفالات فقد صُممت لتزيد من كمية المنتجات الثقافية المتوفرة. ولذلك فان الثقافة فُصلت عن مظاهر الحياة الأخرى، حيث أنتجت من قبل المتخصصين الذين تدربوا في مؤسسات خاصة، ثم استُهلكت في أماكن معينة وهذا أدى بالنتيجة إلى وضع أساس للتمييز بين ثقافة العامة (السائدة بين صفوف الناس العاديين) والثقافة العالية التي هي إنتاج المتخصصين من الأفراد والمؤسسات. هكذا إذن يتبين لنا كيف تم إقصاء ثقافة الشعب وجعلها مدفونة.
- الثقافة الشعبية من منظور ما بعد الحداثة:
إن كلمة ما بعد الحداثة تشير عموما إلى نوع من الثقافة المعاصرة، يرى معظم نقاد ما بعد الحداثة أن أواخر الخمسينات وبداية الستينات هي بداية حقبة ما بعد الحداثة وقد "ورد تعبير ما بعد الحداثة أولا بالذات على لسان المهندسين المعماريين في السبعينات من القرن الماضي، عندما أدخلوا على بناياتهم عناصر متفرقة ومتنوعة، قد اقتبسوها من جل فترات التاريخ فن الهندسة المعمارية، وذلك لوضع حد للوظيفة الضيقة التي اتصفت بها المعمارية الحديثة" أي أن أغلب المهندسين كانوا يبحثون عن المتفرد والعجيب، وقد عم هذا التوجه كل الفنون والمجالات المعرفية تقريبا من فن ونقد وفلسفة.. وأصبح تصور "ما بعد الحداثة" يعني قترة زمنية جديدة جاءت على أنقاض فترة الحداثة، وقد لاحظ الفيلسوف الفرنسي جان فرنسو ليوتار في كتابه المشهور (شرط ما بعد الحداثة) أن هذه الفترة التاريخية الأخيرة أي ما نسميه فترة مابعد الحداثة، لا تعدو وأن تكون الصبغة الأخيرة للحداثة التي يزعم أنها عوضتها.
إذن من خلال هذا التعريف يتضح لنا أن فترة ما بعد الحداثة هي مجرد استمرارية لما يسمى بالحداثة لكنها قامت على أنقاضها وعارضتها في كل اتجاهاتها، وكذلك اختلفت معها في طريقة رؤيتها ونظرها للثقافة الشعبية، وهو ما سنعمل على توضيحه بعد قليل، لقد قامت حركية ما بعد الحداثة على تدمير قواعد ثلاث كانت تتأسس عليها الحداثة، من حيث هي فكر وتوجه إيديولوجي تنويري:
- الذات.
- الحقيقة.
- الوحدة.
ترى مارجريت روز أن مفاهيم مابعد الحداثة تنتمي إلى ثلاث تيارات: التفكيكي والمزاوج والمثالي.
وقد تميزت فترة مابعد الحداثة برد الاعتبار للثقافة الشعبية إذ اعتبرت أنجيلا مكروبي أن تناول ما بعد الحداثة للثقافة الشعبية يعتبر إثراءً كبيراً لهذه الحركة الثقافية لما تنطوي عليه الثقافة الشعبية من تحرير للطاقات وكشف عن إمكانيات واسعة كامنة في وسائل وتقنيات التعبير التي كانت الحداثة المتعالية تخرجها من دائرة العناصر التي تشكل الهوية الثقافية. وبرز فن الرسم الشعبي (Pop Art) كأحد الاتجاهات البارزة في مجال فن الرسم في ما بعد الحداثة. يذكر الناقد هيربرت غريبز "لقد تغيرت وجهة نظر الفنان في فترة ما بعد الحداثة عن ما كان يعتبره من المسلمات، سواء على مستوى المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي. هناك تناقض عظيم بين اللوحات الأنيقة لمدرسة التعبيرية التجريدية في أواخر مدرسة الحداثة، وبين العرض الجديد للأجسام المبتذلة اليومية الاستخدام بخلفية توضح طبيعة هذه الأشياء منتجات ضخمة لثقافة استهلاكية. لقد أطلق على هذا الفن "فن الفرقعة" أو "البوب آرت "، وتضمن تكامل الصور المثيرة للإعلان كما في رسومات توم ويزلمان، والمحاكاة المؤسلبة واسعة النطاق لشخصيات وأشياء وكلام الرسوم الهزلية أو الشريط الكارتوني أو بالونات الأفكار كما عرضت في الإنتاجات التشكيلية الضخمة لروي ليشتنستين وكليس أولدنبيرغ التي تضمنت تضمينا للثقافة اليومية الاستهلاكية أو المنفعية ".
ومن أوائل الذين تحدثوا عن أهمية الثقافة الشعبية في ما بعد الحداثة الناقدة الثقافية سوزان سونتاغ، فقد أشارت إلى أن بدايات ما بعد الحداثة ارتبطت بظهور حساسية جديدة تجاه الثقافة الشعبية تجاوزت النظرة التقليدية وتحديداتها القسرية للثقافة والفن والأدب بالأنماط العليا، وطرد وتهميش مجال واسع وحيوي من مجالات النشاط البشري بحجة أنه ينتمي إلى ثقافة العوام ولا يعبر عن ذوق أو أسلوب أو ابتكار. وتؤكد سونتاغ على أن الفصل بين الثقافة العليا والشعبية أصبح مع ما بعد الحداثة غير ذي أهمية. ترتب على ذلك إصدار المئات من الكتب والدراسات التي تتناول بالتأويل الثقافي والتحليل الفلسفي الجاد مواضيع شعبية مختلفة مثل الرياضات الشعبية وأبعادها الثقافية والنكات الدارجة المحلية والكتابات والرسوم التي على الحائط وملابس الشباب والمراهقين والأغاني والأفلام والمجلات الشعبية الهابطة. وتسعى تلك الدراسات إلى تأكيد القدرات الإبداعية الخلاقة للثقافة الشعبية ومدى ما تكشف عنه تلك النشاطات اليومية من جوانب الهوية المحلية والإثنية والعرقية عند الجماعات قيد الدرس والتحليل. وظهرت إشارات متكررة إلى تلك النشاطات الشعبية في أعمال روائية وشعرية ومسرحية وفنية عديدة، في محاولة لكسر النظرة التقليدية الجمالية لما يجب على تلك الفنون الإبداعية تناوله والتعبير عنه.