عرف المغرب منذ أمد طويل بتراثه الغني الذي كان ولا يزال يشكل بصمة خاصة تميزه عن عدد من دول العالم. وعندما نتحدث عن التراث الشعبي، لابد لنا بداية من أن نحدد الخطوط العريضة التي سنحاول تسليط الضوء عليها في هذا المقال؛ ذلك لأننا سنقوم بتناول الأغنية الشعبية بالدراسة، باعتبار أن هذه الأخيرة تشكل عنصرا مهما من عناصر الأدب الشعبي، ولن نكتفي بالوقوف عند العموميات وإنما سنحاول أن نتعمق أكثر في رصد حضور المعتقد الديني في أغنية “العلوة” على وجه التحديد.
وقبل المضي في هذه الدراسة تجدر الإشارة إلى كون الثقافة الشعبية هي تلك الثقافة التي ينتجها الشعب خارج الضوابط المؤسساتية، ولذلك فأهم خاصية في الثقافة الشعبية هي أنها تتسم بالتداول وأنها غالبا ما تكون مجهولة المؤلف والمصدر، فنقول مثلا “ضرب الحديد ما حدو سخون” من هو قائلها؟ فهو مثل ذو مصدر مجهول لكنه يتسم بالتداول. وذلك في مقابل الثقافة الرسمية التي تعتبر ثقافة مع سبق الإصرار لها قوانينها وضوابطها المؤسساتية.
الأغنية الشعبية الفلكلورية
وتعتبر الأغنية الشعبية الفلكلورية من أهم أشكال التعبير في الأدب الشعبي، يعرفها الأستاذ فوزي العنتيل بأنها “قصيدة غنائية ملحنة مجهولة النشأة"، بمعنى أنها نشأت بين العامة من الناس في أزمنة ماضية وبقيت متداولة أزمانا طويلة. وقد ارتبطت مواضيع الأغنية الشعبية المغربية بالتجارب التي عاشها الإنسان المغربي، كما أنها شكلت رواسب لتجارب طويلة عاناها أجدادنا، وهي مرآة تعكس تلك المعتقدات التي يؤمن بها الإنسان.
وبذلك نجد أن “العلوة” هي أغنية دينية تتغنى بالأولياء الصالحين، وبأهل الصوفية والتصوف؛ فمن بين كل البلدان الإسلامية يعتبر المغرب البلد الذي سجل أكبر عدد من الأولياء فلا وجود لهضاب لا يتوجها مزار، وقليلة هي القرى أو المقابر التي لا يوجد فيها ضريح يمجد وليا أو أكثر. وتعتبر عبارة “بلد الألف ولي” التي تحدث عنها بول باسكون عبارة صحيحة إلى حد بعيد، إذ يعد الضريح مؤسسة دينية مركزية في المجتمع المغربي، لم يلغها سجل ثقافي مغاير ينتصر للتقنية والطرق السريعة للإعلام والمعلومات.
ولا أدل على ذلك من تغني قصيدة العلوة بأحد الأولياء الصالحين المنتمين لمنطقة الشاوية وهو سيدي محمد البهلول. وأرض العلوة كفضاء مبجل تستمد قدسيتها من احتضانها لمرقد الأجداد والصالحين، ولذلك يطلب من كل زائر أن يطهر قلبه ويكف عن الأذى باللسان عند الوصول إليها، حيث تقول القصيدة في بدايتها:
“يا لغادي للعلوة تعالى نوصيك بعدا، إيلا وصلي سلم في العلوة لا تتكلم، العلوة ومواليها والصلاح اللي فيها”.
فمن التصوف بزغت قصيدة العلوة التي تتغنى بالأولياء الصاحين، كما أنها تتغنى ببركاتهم ومناقبهم وذريتهم وحياتهم ونسبهم وغيرها من الأمور.
فأغنية العلوة هي أسمى وأرقى درجات حب وعشق الناس للأولياء الصالحين فبعد أن قدس الناس شيوخ الصوفية وبنوا على قبورهم القباب والأضرحة وقدموا لهم الذبائح وتمسحوا بقبورهم وطلبوا منهم ما يحتاجونه من أغراض وحوائج في جو من الطقوس الخاصة (شموع وسكر وبخور وغيرها)؛ وصل حبهم وعشقهم إلى أن كتبوا عن شيوخهم القصائد ولحنوها.
الأولياء الذين ذكروا في “العلوة”
وقد تمت الإشارة في متن القصيدة إلى أسماء مجموعة من الأولياء الصالحين نذكر منهم: سيدي الحجاج وسيدي بن عيسى و سيدي عبد الله وسيدي بن قاسم وسيدي عمار بن صمصام وسيدي البطاح بالإضافة إلى عزري العلوة. الذي تعددت تسمياته. فلما نبغي تمييزه عن باقي ضمان العلوة وصلحائها يطلق عليه عزري العلوة، وعندما نود إبراز مكانته عند الله يطلق عليه اسم شامخ القدر. وكلما أريد تعيين مقامه وعلو مكانته حتى وهو ميت سمي مول الراكوبة، والمقصود هنا هو الفضاء المدفون فيه.
إن إضافة لفظ سيدي يشير إلى نسبه الشريف، ومن باقي الصفات يتبين بأنه ولي صالح من أولياء الله، الأمر الذي يحيلنا إلى الحضور القوي للمعتقد الديني في أغنية العلوة، واهتمام الأغنية الشعبية المغربية بصفة عامة بهذه الظاهرة. والعزري لغة هو الشاب العازب، وهو أيضا الهيكل البارز في أعلى الصومعة، رمز الذكورة والفحولة (والعزري عينو عليك) جملة تحمل العديد من التأويلات فيخيل لأول وهلة أن المقصود بها شاب عازب يريد سوء بفتاة، لكن سرعان ما يتضح أنه ليس غير نور لبهالة سيدي محمد البهلول، وعند آخرين بويا حجاج المعصوم من الموبقات.
أمور ذكرت في “العلوة”
ثم بعد ذلك نجد في القصيدة الحديث عن الزوار الوافدين على العلوة (جاء عندي حبيبي ما لقيت ما نعطيه نفرش ليه الزرابي الحباب دايرين بيه، يا لغادي نوصيك بعدا إيلا وصلتي تأدب وتوضا)؛ فنلاحظ أنه يجب على هؤلاء الزوار أن يتوضؤوا عند دخولهم العلوة وذلك بغرض الصلاة على الولي، ثم هناك أيضا إشارة إلى نوع الفراش “الزرابي”.
كما أن هنالك دعوة صريحة في القصيدة “يا لغادي عيب عليك وياالجاي عيب عليك، تبعتي صحاب المال ونسيتي واليديك) فهي دعوة صريحة في القصيدة لعدم الاغترار بالمال ونسيان الوالدين.
ثم بعد ذلك نجد في ثنايا الأغنية إشارة إلى تمسك أهل العلوة بضريح سيدي امحمد البهلول “الواد الواد الواد بربيعو، حقي فيك يا فاضل ما نرهنو ما نبيعو”، إذ أنه في الحلاقي كانت تقام اشطيبة بالدار البيضاء وفي كل مكان خاصة في الستينات والسبعينات، لم يكن يشرع المغني وعبيدات الرمى في أداء وجيباتهم إلا بالعلوة، تيمنا وتفاؤلا ب “عزري العلوة” وبها يجلبون الزبائن.
بسم الله باش بديت على النبي صليت
أماتوصليو عليه قد البحر وما فيه
بغايت نمجد “القبة” نذكر عزري العلوة
جيتي في راكوبة باقي قيك النوبة
وهكذا وبعد هذه الجولة التي خضناها في أغنية العلوة، نكون في النهاية قد استطعنا أن نتبين أين يتجلى حضور المعتقد الديني في الأغنية، وكذلك نكون قد تعرفنا على المكانة المهمة التي يتبوؤها الولي الصالح داخل المجتمع المغربي.