عندما يخفي الإنسان آلامه ويتجاهلها، تُصبح كبتاً : فتظهر في شكل تصرفات غريبة.. لهذا تبدو لك تصرفات الناس غريبة، إنها الآلام تعبر عن نفسها بصور أخرى بعد عودتها كرغبات بلباس القمع. فالرغبة غير قابلة للقمع (ترجع بأي شكل لتتحرّر).
كل رغبة مقموعة : ألم. كل ألم مخفي : كبت. وكل كبت يرسم لوحته على سلوك الإنسان برغبات مشوّهة، فيتشوّه سلوكه وكلامه وحياته : كنوع من الزيّف ! في التحليل النفسي ـ بتعبير جاك لاكان : "الإنسان موضوع أُخِذ وشُوِّه من خلال اللغة". واللغة هي كلام (ثقافة) المجتمع ونظراتهم.
في ثقافة المجتمع "الحب" اندفاع مراهقين، ووسيلة لملأ فراغ أوقات الشباب.. لذلك نظراتهم للحب نظرة سخف وتفاهة، فالحب غير مهم، أمر طفولي ! متناسين أن الحب رغبة، والرغبة تعود !
"الحب ليس هو المهم"، جملة يقولها الجوعان : لاعتقاده بأنه الأكل (أكثر أهمية)؛ يقولها الجشع لاعتقاده بأنه المال؛ يقولها "ميكي" لاعتقاده بأن الحب يتعلّق بأمه : التي تزوجه وتطلقه كما تريد ! "الحُب للشجعان، الجُبناء تُزوجهم أمهاتهم" كما يقول نزار قباني.. إنها تطلّقهم كذلك، لتزويجهم مرة أخرى كالدمى !
في علم النفس والطب النفسي، الحب هو أساس الصحة النفسية، إنسان مريض نفسيا ووجدانيا، هو إنسان غير قادر على الحب، لم يعد يحب شيئا.. دون حب، الإنسان عرضة للاكتئاب أو اليأس.. و"لا أحذركم إلا من عدو واحد هو اليأس" كما يقول نجيب حفوظ.
عندما تحب، ليس فقط أن العالم يبدو لك أجمل، أنت نفسك تصير أجمل. عندما يحب الإنسان، يجمّل نفسه لأجل الحب ولأجل من يحب.. أحيانا لا يهم ما تفعل، ما يهم هو من تحب، فمن تحب سيغيّرك كلّك.
لولا الحب هل كان للعطر معنى ؟! للموسيقى وللأشعار وللابتسامات بالأعين الشبه مغمضة معنى ؟ في الحب معنى، دون الحب ـ مهما قلّ ـ ليس الجنس سوى عنف.. برؤية باولو كويلو وفضيلة الفاروق، التي تضيف أن حيواتنا الزوجية مليئة بالعنف، طالما أنها تخلو من الحب !
يسألني العديد، كيف نحب أشخاصا معقدّين غير مفهومين ـ فالحب تبادل ـ والنساء عقيمات عاطفيا، أكثر من ذلك ينجذبن نحو مظاهر الثورة، ضاربين بالمشاعر والحب عرض الحائط، والأشد وطأة هو السخرية من تلك المشاعر.
يا سيدي، نفترض أن زرت دولة، وسألت أحدهم، شتمك أو لم يرد عليك واستمر بالنظر إليك شزراً، ستعتقد أنه شخص مريض نفسيا، معقّد، ستتجاوزه ولن تعيره اهتمامك. لكن ماذا لو أنك سألت عشرة أشخاص بهذه الدولة وقاموا بنفس السلوك نحوك، مباشرة ستعتبر نفسك بأنك متواجد بدولة عنصرية "زفت"، سكانها سيئون ولا يرحبون بالضيف والغريب، ستغضب، ستنزعج جدا ولن تفكر بالعودة إذا كنت سائحا. مع العلم أنهم مجرد 10 أشخاص : كانوا كافين بالنسبة لك لاستنتاج سلوك ونمط دولة يتجاوز عدد سكانها عشرات الملايين من البشر، والحكم عليها !
لكن ماذا لو أفترضنا أنك أنثى، تستيقظ كل صباح، تعتني بنفسك ومظهرك، ترتدي ملابسا بثمن ثلاجة، تخرج لتداعب وجهك رياح الصباح، وتقبّل خديّك أشعة الشمس الدافئة، ولما لا تجد الحب.. بدل ذلك تصطدم بأكثر من عشرة أشخاص في طريقك، هذا يناديك ب"العاهرة"، الآخر ب"الوسخة"، "بنت الذين"، "المنكر"، وما سواه من مفردات التحقير الجنسي عند عقلية "المرأة الناقصة عقلا ودينا" التي تضغط على تاريخ ووجود الأنثى (خاصة العربية). الكتلة الجاهلة بكينونة الأنثى، جسدها، تفكيرها، مشاعرها، وحتى حزنها. مع العلم أنك هنا، لم تقم بسؤال أحدهم، لم تنظر بالأصل لأي وجه من أوجه الخراب هؤلاء حتى يتفضل بالكلام، يقفز هكذا كالنمس ! لأنه تربّى بحديقة حيوانات غير منظمة.
في كتابات حالية وسابقة، أطارد الكليشيه الذي يقول بأن النساء يعشقن فقط مظاهر الثروة والسيارات (والحب للأغبياء عندهن). لكن من منا لا يعشق ذلك؟ كل كائن بشري في العالم يرغب بتحصيل ثروة وسيارات، جاءت على الأنثى فقط ؟!! معتوه الحي يحبك إذا كنت تمنحه دراهم كل مرة ! وهذا معتوه لا يمتلك صلاحية عقلية !
عند الأنثى الأمر لا يتعلق بالمال والسيارات، إنما ب"الأمان". الثروة لاشعوريا تحفز في دماغها (رجل) "مؤدب"، "توفر على تربية وتعليم"، غير "جوعان" أو "جشع"، وقادر على "الاهتمام بها وجدانيا وحتى ماديا". قبائل القحط بالمقابل تحفز بدماغها "التحقير الجنسي" الذي تتعرض له وهي تمر بالأحياء الشعبية والفقيرة وأسواق المدينة المكتظة بالناس والسلع الرخيصة. حتى حينما تكون شخصا طيبا (رغم نقصك الاقتصادي) : دماغها يصنفك مباشرة ضمن الشريحة الثانية كرقم 11، بعد ال10 الأشخاص الذين أهانوها بالافتراض السابق !
نزار قباني في سؤال حول ماهية الشعر، قال بالحرف : "هل أصارحك بسر، باللغة أكسب (ود) أي امرأة، وباللغة أخسر (ود) أي امرأة". فقط باللغة (هل رأيت هنا أي سيارة؟!). بالنسبة لي الجملة ناقصة ظاهريا، فاللغة بما تحتويه من اهتمام، احترام، إضفاء قيمة، شاعرية توقظ أنوثة الأنثى، هي رهان الاكتساب. لغة حقيرة، ستظل هناك، تنتظر حتى تحصل على سيارة فيراري ! أو الانتقام بمفردات "العفن" الشبية والعاكسة لبيئتك.
المتدينات جيّدا، يقلن بأن على المرأة احترام نفسها ولباسها، حتى لا يهينها الرجال. لما لا تموت ؟ سيكون ذلك أفضل ....! إني أتحدث عن الإنسان وليس عن نوع من الجراد ـ فللأنثى حق تفجير أنوثتها واستعراضها، مثلما من حق الرجل استعراض ذكورته : التي بالأصل استعراض حرب (كصدمة نفسية) لإخفاء جبن المحارب من ساحة المعركة، تصرفات الرجل تاريخيا وأنثروبولوجيا طرق للتغلب على رعبه من مواجهة العدو، لهذا يرى المرأة كعدو ! صدمته تصوّر له باستمرار أن حرباً على الأبواب؛ وأخلاقنا أخلاق حرب : نُبل رجال المعركة التي تغيب فيها النساء. ذلك بالنسبة لي لا يعدو أثر من حفل بهلواني كالذي يتواجد باستمرار في ساحة الفنا بمدينة مراكش (أقصد التاريخ والأخلاقيات والنظام الذكوري بالمجمل).
الحب هو ما ينقذ العالم، برأي أدونيس دون حب وشعر وصداقة ليس للعالم سوى التجارة، والموت برداً. عند فرويد الطب لم يصل بعد لصنع دواء بتأثير كلمات رقيقة. إن ما لا يعرفه الناس عن الحب، هو أنه طفلٌ يكفيه القليل، وعلى حد قول المتنبي "قليل منك يكفيني، ولكن قليلك لا يقال له قليل"، "إني لَيُغنيني قليلك عن كثيرِ الأُخريات" بشِعر يحيى السماوي.. بالنسبة للأنوثة، تأتي فاطمة الزهراء رياض لتخبر بأن "المرأة خلقت لتُحَب هكذا تكون قد أدركت كنه فهمها، أحبها كثيرا وأرح عقلك"، وهي رؤية مشابهة لأوسكار وايلد حيث "المرأة تُعنى بأن تكون محبوبة، وليس مفهومة".. غير أن فطوم أوضحت أكثر من أوسكار، بأن فهم المرأة يكمن في الحب ! إفهمها بالحب.
قد تُحب، ولا تُبادَل الحب. فأحيانا كما عند نزار "الحب ذباحُ". لكن تذكر بأنك أجمل وأنت في الحب، وتستحق الحب، أقل تقدير تستحق حبّي ! ف"هات قلبك إني ولدت لكي أحبك"، بتصرّف مع محمود درويش. وأحيانا قد يُتطلّب من الحب أن يصل لمرحلة التحسيس ب"الأمان".
إن البعض من شدة توقهم للحب، يفرّون ويهربون عندما يأتيهم الحب هكذا ودون ترتيب أو سابق إنذار. فيقمعون رغبتهم للحب ويتمنّعون ـ كدفاع متوارث لغويا واجتماعيا ضد هذا الأمر ـ لكن رغبتهم تعود بألمها كتصرف غريب نحوك.. أحبّ، أنت في الحب أحلى، أحلى من الكل !