يعد مفهوم العائلة من المواضيع الاجتماعية التي اهتم بها البحث السوسيولوجي بالمغرب، وذلك نظرا لما تشكله "العائلة كمؤسسة أجتماعية تكتسي أهمية وظيفية وبعد أساسي داخل النظام الاجتماعي، وإضطلاعها بأدوار متعددة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، فالعائلة هي النواة الاولى للمجتمع ، فتطور العائلة أو الاسرة هو تطور للمجتمع بأكمله، ونظر لهذا العمق الذي يكتسيه موضوع العائلة من حيث بنيتها وشكلها ومضمونها وقيمها ووعيها و تكوينها، فقد انصب العديد من الباحثين المغاربة على دراسة بنية العائلة وتشكلها ونشأتها وأنماطها، وذلك من خلال تحليلات سوسيوتاريخية تتجه نحو فهم وتفسير نسق الاسرة وعلاقتها السببية بالنظام الاجتماعي. وأمام هذا التعدد الذي تعرفه بنية العائلة، فإن طرح السؤال يبقى ضرورة ملحة لتوسيع مجال الفهم، فكيف تتحدد بنية العائلة بالمغرب؟ ما هي مظاهرها وتجلياتها وأنماطها وتفاعلاتها مع النظام الاجتماعي؟
إن فهم العائلة من منظور سوسيوتاريخي تخترقه أربعة ظواهر أساسية بتعبير الباحث السوسيولوجي "محمد شقرون" وهي: الديموغرافيا، الصعود نحو الشمال، التطور نحو الاستقرار، والخضوع للسلطة المركزية. ومن هنا يتجه هذا الباحث الى بلورة العلاقة السببية أو التطابق القائم بين النظام الاجتماعي المغربي ونمط البنية العائلية فيه، ولمحاولة فهم بنية العائلة في المجتمع المغربي فإنه يمكن الانفتاح على الحقل التاريخي ومعطياته التي تحدد الغنى المعرفي الذي يعرفه موضوع العائلة.
بالعودة الى المعطيات التاريخية والاجتماعية حول العائلة في المغرب، فإن الملاحظة الاولى التي يمكن تسجيلها هي أن العائلة المغربية ارتبطت بنموذجين في التنظيم العائلي، النموذج الاول ارتبط بنقل الميراث (المادي والرمزي) واتخذت العائلة فيه نموذجا نسبيا ميراثيا أبويا ، يقوم على أساس توريث الملكيات لأفراد العائلة من جيل لآخر، وهذا ما فسح المجال الى نشأة الاليات الحديثة للاقتصاد الرأسمالي في المجتمع المغربي والذي يقوم على التمييز بين الانتاج والملكية. وهذا ما تجلت معالمه الاولى منذ نهاية القرن التاسع عشر. أما النموذج الثاني الذي ظهر بمقابل النموذج الاول هو النموذج العائلي النووي الذي هو الآخر سيسود في المجتمع المغربي في أوائل القرن العشرين، ليعبر ويرتبط بمجموعة من العلاقات الأجرية وتراجع السخرة أو الكلفة بتعبير محمد شقرون، بحيث سيتم الحديث عن أدوار سيلعبها النموذجين بكيفية متباينة ومختلفة.
إن مجاولة التعرف والإمساك بمختلف التمظهرات والوظائف المتعلقة بكل من العائلة ذي النموذج النسبي الابوي والنموذج العائلي النووي تستدعي بتعبير الباحث محمد شقرون الوقوف على المصادر التاريخية والمؤثرات والدراسات الانثروبولوجية والمونوغرافيات التاريخية بالمغرب، والتي تشرح بكل جلاء هذين النموذجين من العائلة وتشكلهما. ومن هنا نلمس ان الباحث بتحليله لهذه المعطيات، أنه يعتمد على المنهج التاريخي والبنيوي والوصفي في مقاربته،التي تفيد تحليل بنية العائلة والتمييز بين أنماطها وتحديد وظائفها وعلاقتها السببية بالنظام الاجتماعي.
ينطلق الباحث من تعريف نموذج العائلة النسبية الممتدة وهي التي تتكون من عائلة الشرفاء والأعيان (الصلحاء والمرابطين وشيوخ الطرق والزوايا والتجار الكبار والقضاة والفقهاء والقواد والباشوات وشيوخ القبائل)، فهذه العائلة كانت في تلك الفترة تقيم في القصر أو القصبة أو "الدار الكبيرة" وتجمع الاخوة والأصهار والأبناء والنساء والخدم والأقارب الذين يعيشون تحت وصاية الزعيم.
يعتبر الباحث المغربي محمد شقرون، ان العائلة النسبية الابوية كانت تكتسي حمولة سياسية من حيث انفتاحها على الحقل السياسي، حيث ستقوم السلطة المركزية منذ القرن السادس عشر الميلادي بأدوار متعددة لحماية هذه العائلة والتي ساهمت في الدفع بالنزعة النسبية التي عرفها وذلك عن طريق العديد من المظاهر الرسمية، كظهير "التوقير والاحترام" و"الهبات" التي كانت على شكل عقار والتي استفادت منها عائلة الزوايا والطرق. يلي ذلك إصدار "ظهير الخدمة والرئاسة" الذي كان يؤسس لعائلات نسبية تهم القيادة أو الباشوية أو نظارة الاحباس أو أمامة المسجد... إلخ.
ويعتبر الباحث في مقاربته، أن نموذج العائلة النسبية الابوية يتسم بالغنى من حيث مظاهره وخصائصه، لعل من أبرزها أن النمط العائلي النسبي الابوي قد تميز بوجود تعدد في الزوجات يفوق العدد الشرعي (أربعة زوجات) وإماء وجواري وخدام أحرار أو تابعين، كما عرف هذا النموذج العائلي تطورا لاسيما في الفترات الحرجة المتميزة بضعف الدولة المركزية. وأكثر من ذلك فقد أصبحت العائلة النسبية الابوية تعرف معايير جديدة قائمة على وضع مكانة مغايرة للمرأة، حيث كان يتم حجب المرأة الحرة في المدن المهمة كفاس ومراكش، وكذا عدم توريث الاناث التي ستصبح من العادات التي استمرت الى حدود القرن العشرين.
إن هذا الواقع يشرح بكل جلاء أن هذا النموذج عرف تغيرا من داخل بنيته، وذلك من حيث تراجع بعض الادوار والعادات ونشوء أشكال واختيارات جديدة أخرى. وهذا ما تم لمسه في مسألة عدم تقسيم الميراث وعلاقته بالدم، فلكي يستمر نمط هذه العائلة، فقد تم الاتجاه نحو تكثيف روابط الدم وذلك بهدف الحفاظ وحماية النسب كما هو الحال مع أنماط العلاقات الاجتماعية الولاء للأشراف والمرابطين والصلحاء، فاستمرار النسب كان أولى من مسألة تقسيم الميراث. ولقد ساهم النموذج العائلي النسبي في التأثير على المستوى الديموغرافي، تجلى ذلك في تعدد الزوجات والاماء والجواري الامر الذي سوف يؤثر بشكل كبير على موارد المخزن والزوايا والطرق.
أما النموذج الثاني، وهوالعائلة النووية البسيطة أوالمركبة، فلم يضطلع بأدوار كثيرة مثل النموذج الاول وذلك بحكم مكانته وخصائصه المحدودة. فهذه العائلة كانت تسمى بعائلة العوام، فهي لم تكن تملك مستوى قيادي يؤهلها لتضطلع بوظائف كبيرة، فهذا النموذج كان يتميز بكونه مسخرا وتابعا اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا وعرفيا للعائلة النسبية الابوية للأعيان والأشراف وذلك عبر مجموعة من الالتزامات المتعلقة باقتصاد وأخلاق العرض والشرف.
في ختام هذا المقدمة، يمكن القول أن موضوع العائلة وسيرورتها الاجتماعية عرف تغيرا في بنيته من حيث تفاعلها مع عوامل متعددة لعل من أبرزها، المخزن والزوايا وتقسيم الإرث، هذا بالإضافة الى أن العائلة سوف تنفتح على قيم جديدة بفعل تلاقح ثقافات ومعايير جديدة متنوعة في المجتمع المغربي في مجطات تاريخية متزامنة.
منير برقاد
المراجع المعتمدة:
- محمد شقرون، العائلة بالمغرب، مجلة معلمة المغرب، المجلد 17، سنة 2003.
- محمد شقرون، نظام القرابة والعائلة في المجتمع المغربي، مجلة كلية الاداب والعلوم الانسانية الرباط، جامعة محمد الخامس، العدد 13.