يستدعي مفهوم الدولة سيادة الاعتقاد القائل، بأن العنف هو الوسيلة الفعالة لانتزاع السلطة داخل مجتمع مكون من طبقات. فغياب هذه الأخيرة، يفضي إلى غياب كل أشكال العنف، بالتالي اندثار مفهوم الدولة الذي يخلع عن المجتمع كل حالات الاستقرار و الوحدة، و يؤدي إلى حالة نزاع و فوضى.
فالدولة هي الإطار القوي الذي يحتكر حق ممارسة العنف بشكل شرعي يضمن استمراريتها و سيادتها على جل الأفراد.
في هذا الصدد يحدد ماكس فيبر ثلاث مرجعيات أساسية لسيادة الدولة و أسسها الشرعية. هناك، أولا، الإرث المشترك من تقاليد مقدسة بفعل صلاحيتها المنقولة و المتوارثة بشكل جعلها تترسخ في الذاكرة، تعكس مجموع العادات و الطقوس التي تضرب بجدورها عميقا في نفس الإنسان . ثانيا، هناك، سلطة الشخصية الكاريزمية كنشاط زعيم سياسي - الديماغوجي- . وهناك، أخيرا، سلطة مدعومة بقبول شرعيتها باعتبارها، أداة تمكن من تنفيذ فعاليات العقل . حيث يعتبر هذا الأخير هو المشرع للمبادئ و القوانين باعتباره معيارا كونيا مقبولا .
يمكن القول بأن المرجعيات الثلاث المحددة لسيادة نظام الجماعة و أسسها الشرعية، بمثابة إجراءات توليدية، لبنى رمزية كإطار لتفسيرات و معان تتخذ شكل قيم، و معتقدات، و تشريعات، و قوانين، تنظم العلاقات بين الأفراد، تشمل التنازل عن الحرية الطبيعية، و الخضوع لقوانين تكرس التفاوت الاجتماعي، و الفوارق بين الطبقات - بين الحاكمين و المحكومين - داخل فضاء تمارس فيه السلطة ويتم تداولها و تدبيرها دون التحكم فيها .
تتعين هذه البنى بالتنظيم الضروري للحياة السياسية، تتجلى في أشكال عدة : الأفكار، و الآراء، و السلوكات، و التعبيرات الخلاقة . كلها تغذي ٳرث الجماعة ووحدتها، و لغتها، باعتبارها ثقافة تتجسد في مؤسسات، بشكل يضمن البقاء لجميع الأفراد بالتحديد الصريح أو الضمني للعنف و بحق ممارسته.
إن التحديد الصريح لحق ممارسة العنف بطلب السيطرة الاجتماعية، يعتبر سمة مقبولة و مصادق عليها قصد ضبط كل السلوكات و الممارسات العنيفة . لكن الأمور تتخذ شكلا آخر، عندما تتقرر الفوارق بين الأفراد بشكل دائم، حيث يشعر المرء بأنه مندرج منذ الولادة و إلى آخر رمق في حياته ضمن طبقة معينة . حيث يلغى و بشكل مقدم كل حرية للاختيار تسمح له بالاندماج في طبقة أو أخرى . ٳنه حاجز لا يستطيع المرء أن يعلو عليه ، ويضعه تحت رحمة طبقة تشغل مراتب عليا في السلم الاجتماعي، اغتصبت لنفسها السلطة، و طوقت باقي الأفراد بممارسات تخولها لها البنى الرمزية من أجل مصلحتها، علما أنها تمارس السلطة على حساب الأفراد التي من خلالهم تستمد مشروعيتها عبر قبول كل هؤلاء الإيمان بشرعيتها ضمن إطار الخطاب الرمزي الثقافي.
يتضمن الخطاب الرمزي أنماطا مختلفة تنحصر قي ضروب من السلوك، و التفكير، و القيم، يستطيع عبرها تقديم ذاته كسلطة شرعية تستطيع التأثير في الأفراد بشكل تعسفي. فهو خطاب مزود بقوة تمكنه من الردع و السيطرة تستدعي ضرورة تحديد معايير و تشريعات مبنية وفق نسق استدلالي منطقي، يفيد إنتاج الإقرار و الاعتراف به كثقافة شرعية.
فنظام العنف، نظام عام، ينخرط في اتباعه و الوقوع تحت تأثيره مجموعة من الأفراد و الجماعات وفق مجموعة من القواعد و المعايير. ٳذ يعبر عن المصالح الموضوعية الناتجة عن علاقات القوة بين الطبقات داخل بنية اجتماعية، التي تسعى إلى تحقيقها الطبقات المسيطرة. فتنتهك البنى الاجتماعية عبر عمليات الإقصاء و التهميش و كذا الانتقاءات المحددة من طرف ثقافة الطبقة المسيطرة . تعمل هذه الأخيرة على صياغة قوانين و تشريعات تدعي الشرعية و المصداقية، تتعزز بالإيمان و الاعتراف من لدن الأفراد، بشكل يحجب عنهم فهم أصل علاقات القوة التي تحكمهم . تمكن هذه الصياغة من رعاية بيئة اجتماعية معينة، ذات مصالح محددة، تبيح احتقار خصومها بشكل مضمر و مستتر في بنية حقوقية، ذات قول منظم و ممنطق ذو نزعة عقلانية تستطيع عبره النفاذ إلى واقع الحياة الاجتماعية، التي يتم اختزالها و تعديلها قصد الاستحواذ على الثروات و سلب إرادة المجتمع و تسخيره لمصلحتها الخاصة . لأن الشروط الواقعية للأفراد لا تخضع مطلقا لإرادتهم ، بل هي في يد طبقة من طبقات المجتمع نصبت نفسها فوقه .
لم يكن من الممكن تحقيق ذلك دون غطاء نظري صانع لحقيقة من درجة ثانية ، تعمل على إخفاء أو إنكار حقيقة موضوعية،ذات سبق أنطولوجي. مما يبرز النية المبيتة والقصدية من تزييف و تشويه الحقيقة لتضليل الشعب ، و إيقاع الاطمئنان في نفسه . و يتحقق هذا بتعبئة النفوس ، و تحريك العواطف ، و استمالة الوجدان ، بأحلام فاتنة وأوهام و خيالات ، كبدائل تطمس معالم الحقيقة داخل كهف أفلاطوني، تستلذ فيه أشباح و تسعد بقبول الوضع كما لو كان عين الحقيقة.
يتضح ذلك حينما يعمد السياسي انتحال الوقائع بإخفائها و إنكارها عن قصد، أو حجبها عن الأنظار على اعتبار الآخرين غير مؤهلين لمعرفتها . إلا أن الكذب الذي يتذرع به ليس سوى وسيلة للمحافظة على السلطة و الحكم من جهة ، و تعديل موازين القوى لتحقيق طموحات و مآرب شخصية من جهة أخرى .
فالنزوع نحو السيطرة بقوة مهيمنة ، تلزم المحكومين استبطان أنماط حياتها و تفكيرها عبر عمليات إعادة الإنتاج ، والاستفادة من الإقصاء و التهميش لتأمين شروط استمراريتها على السلطة. و يولد ذلك حركة و قوة مضادة تتخذ شكل أفعال و سلوكات مختلفة من العنف والتطرف .
ولعل الأشرطة السوداء التي تطوق المدن الحضرية ، تجسد مظهرا من مظاهر البؤس و الغبن لتلك الجماهير المفقرة و المهمشة في مواجهة ظروف معيشية ضنكة و قاسية . فهذه الفئات العريضة التي تم إغراقها و الزج بها في دهاليز العالم السفلي مثوى الأموات الأحياء ،هي القطب المغرق في الفقر و التخلف ، مقابل قطب يضم حفنة من الأثرياء اغتصبت لنفسها السلطة ، و كرست وضعية التخلف ، و عمقت الهوة بينها و بين الجماهير المفقرة .
لكن الفئات الهامشية المستضعفة (القوى المهيمن عليها ) بدأت تنشأ قوى مضادة تسارع في سبيل فرض تصور مخالف للتصور القائم باعتباره رد فعل آن ضد الظروف المتردية التي تعيشها . ولعل بؤر التوتر في الأوساط المأزومة أدت إلى تطور الجريمة ، وانتعاش تجارة المخدرات ، إلى جانب خطر الإرهاب ، حيث تعد هذه المناطق من المعاقل المهمة ، والروافد الأساسية التي تستعين بها مجموعة من الجماعات المتطرفة ، و تسخرها لبث الرعب و الذعر داخل المجتمع. فالقوى المقصية ، تشكل بؤر توتر حقييقية ، و مصدرا للانفلات الأمني ، يرادف ردود أفعالها تجاه الإقصاء الممنهج ضدها . علما أن ردود أفعالها توجهها أهواء و نزوات مصدرها أفراد استشعروا حالات من الحرمان تتخطى مطالبهم الأطر القانونية المفروضة عليهم ، كما لا ترقى إلى مستوى وعي جماعي يطمح إلى التغيير ، بتطوير فعل هادف و منظم ، أي فعل نضالي و حركة مجتمعية.
ويرى علماء الاجتماع ، أن ظهور مشاعر القلق و العدوانية السلبية ، تتولد حينما يتم فرض الفضاء بكل أشياءه و تنظيمه الداخلي على الأفراد المتواجدين فيه . يغدو عندها فضاء لإنتاج علاقات عنيفة تعكس حالة من التأزم ، أفرزتها فئة مهيمنة تحتكر الفعل الاجتماعي في ظل ضعف و انعدام مؤسسات المجتمع المدني .
تبقى إذن ، الفئات المقصية على الإطار الهامشي للمجتمع . فبقدر ما يتم غزوها و استغلالها ، بقدر ما يتم تهميشها و إقصاؤها . فإذا لم ترق هذه الجماعات إلى مستوى الوعي الذاتي و الموضوعي بالوضعية المحددة المفروضة عليها ، التي تفرز مجموعة من الضغوط : من استفحال بطالة ، وغلاء معيشة ، و غياب أبسط شروط التغطية الإجتماعية ... ستظل أفعالها هشة ، تفرز حركات مقاومة فوضوية و آراء مخالفة بالعصيان و التمرد و أشكال من أشكال التطرف...
لكن الضغوط و طبيعة الوضعية التي تعيشها يمكن أن تخلق وعيا بوحدة المصير ، تستدعي خلق أطر مؤسساتية تكفل لها الدفاع عن مصالحها و تقوم عن طريق قيادة حركات اجتماعية تنظيمية - جمعيات و منظمات حقوقية - بخلق نظام تحالفات و المحافظة عليها عبر الفعل النضالي . و يبقى هذا الأخير هو العامل الذي يمكن لمجمل القوى الاجتماعية المسحوقة ، والتي تتطلع إلى عالم جديد أن تتكئ عليه . و يقتضي تحقيق ذلك أن تمتلك قوى التغيير المفترضة وعيا جديدا قادرا على ٳنجاز التغيير بفهم أسباب الخضوع ، و أسباب و آليات التمرد.
و الحديث عن قيادة حركات اجتماعية يقودنا حتما للحديث عن المثقف. بالطبع لا نقصد بهذا الأخير حارس المعبد المؤيد من طرف الدولة ، الذي يكتفي بأن ينسق على نحو زائف ٳجابات يخدم بها مصالحه ، باعتباره مثقفا ، بمبرر خدمة قضايا عمومية أو كلية و التي تبدو في الأخير على أنها ليست سوى مشكلات تلاقيها نخبة معينة . و هو بلا شك ، على حد قول بيير بورديو ؛ من بين أسوأ الناس تموقعا فيما يتعلق بوعي العنف ، لأنه تلقاه هو بنفسه أكثر من شدة الناس و لأنه يستمر في الإسهام من أجل ممارسته . كما لا نستجدي التفاتا من مثقف (سانت بوف) الذي يعيش في برجه العاجي منعزلا و متعاليا عن معرفة ما يجري في المجتمع من صغيرة و كبيرة . ٳذ تبقى خطاباته غير نابضة ، و ميتة ، و فوقية ، و منعزلة يعوقها لمس هموم الحياة اليومية و معرفة الواقع .
أعرف أن هذا الحكم لا يخلو من قسوة مادام هؤلاء ، يفكرون في أنفسهم على صورة مخالفة اصطنعوها لأنفسهم بما هم كذلك ، خاصة حينما يتعلق الأمر بتغريب المألوف و تقنيع مصالحهم الخاصة .
إلا أن المثقف الذي نقصد هو مثقف حر ، مقصي بمفاعيل السيطرة ، جعلته خارج اللعبة ؛ لأسباب ذاتية مرتبطة برفض الوضع القائم من جهة ، ولأسباب موضوعية من جهة أخرى . تتجلى في أشكال الرقابة الفظيعة الممارسة عليه ، و التي تبقى مانعة من إنتاج كم من القضايا الجديدة التي يترك أمر تصديقها للآخرين .
فمثقفنا داخل الشعب ، و الشعب داخل المثقف . لأن هذا الأخير ولد وعاش في الأنقاض و خطاباته ضد الانعزال و التعالي ، وضد الانتهازية و الخطابات المجانية التي تستدرج للتصديق و التلفيق و ضد فبركة استراتيجيات وفق الطلب . إنها محاولة للفهم و البحث عن قوانين جديدة للحياة لا تنفصل عن المجتمع و التاريخ . أي رؤية جديدة ، مستقبلية للعالم تجسد الطموحات القصوى التي تهدف إليها الجماعة، تتخذ شكل خطابات وعاها مثقفنا ، من مشاعر و أفكار و طموحات توحدت على حد تعبير لوسيان جولدمان . إنها تعرية للواقع من طابعه الوثوقي الدغمائي الساذج ، و تكسير لبنية وحيدة ملتئمة ، ارتبطت بوحدانية منظور مجموعة مغلقة ، و منظور طبقة ومثلها العليا . إنها إرغام لقيام علائق اجتماعية جديدة متولدة عن ضغط ، ونفاذ عميق إلى المعنى الاجتماعي . إنها إعلاء لأصوات مستلبة ، مبعدة اجتماعيا و إيديولوجيا . بل هي نفي لكل خطاب نعترف به بشكل مفروض بغض النظر عن درجة إقناعه الداخلي لنا ،و بغض النظر عن درجة استيعابه و تمثله بحرية ، علما أن استيقاظ الوعي يفترض مسبقا (عند باختين ) وجود خطاب سلطوي خارجي مفروض ليس بدرجة الإقناع كما الشأن بالنسبة للخطاب الداخلي . إن هذا التمايز يؤدي إلى انتعاشة الوعي عن طريق عمل انتقائي يحدث قطيعة بين الخطاب الآمر و خطابنا المقنع المدمج ضمن سياقات جديدة . فصياغة الجماعة لخطاب خاص بها يستلزم الدخول في علاقة حوارية مع الخطاب المنتج (بفتح التاء ) الآمر ،الذي يولد عن طريق الحوار خطابا جديدا.