مقدمة :
أن تقتفي أثر نمط حياة البداوة الرعوية الذي لطالما كان سائدا بتونس، فعليك اليوم الاتجاه إلى الظاهر التونسي لتقف هناك على ما تبقى من آثار لذلك النمط الحياتي . هنالك ستجد رعاة يتنقلون وراء قطعانهم بحثا عن الكلأ والمرعى. غير أن هذه الخاصية لا تخفي التغيّر الذي عرفته حياة هؤلاء على المستويات المختلفة ولاسيما على مستوى البنية التنظيمية ونظام التعاقد والتأجير. لقد أحدثت عوامل التغيّر الاجتماعي التي عرفها المجتمع التونسي منذ دخول الاستعمار الفرنسي سنة1881 تحوّلا في أنماط العيش ودفعت بالبدو الرعاة إلى التخلي عن قطعانهم والاتجاه إلى الاستقرار في القرى أوفي المدن.
لقد حدث تحوّل مهمّ في طريقة عيش سكان الجنوب التونسي فتخلوا عن الترحال وراء حيواناتهم بحثا عن الماء والكلإ وآثروا الاستقرار في القرى والمدن ومع ذلك ظلت بعض الفضاءات القليلة والمحدودة تحتضن الوجه الأخير لنمط حياة هيمن لفترات طويلة على أغلب أراضي تونس. لقد ساهمت عوامل عديدة في دفع الرحل إلى الاستقرار منها ما يتصل بالعوامل الطبيعية (تقلبات المناخ التي لم تعد تناسب حياة الترحال) ومنها ما يتعلق بعوامل بشرية ( تأتي في مقدمتها الخيارات السياسية التي رأت في القضاء على نمط الحياة الرعوي سبيلا للقضاء على النسيج الاجتماعي الذي احتضنه ألا وهو القبيلة والتي قد تكون عائقا لبناء وحدة وطنية على النمط الذي اختارته النخب السياسية لما بعد الاستقلال).
1 : الرعي كنمط حياة
لقد مثل الرعي ولفترات طويلة نمط حياة، تميز بارتكازه على الرعي كأسلوب حضاري وطراز اقتصادي يقوم على كسب العيش من تربية الحيوان. وقد انتشر نمط العيش هذا في المناطق الجافة وشبه الجافة من آسيا وإفريقيا وفي الصحاري الثلجية والقطبية حيث لا تسمح الأرض بمزاولة الزراعة.
وكان البدو الرعاة يعتمدون في حياتهم اليومية كليا على الحيوان، فيحصلون منه على اللبن واللحم والجلد والصوف والوبر والشعر إضافة إلى استخدام بعض الحيوانات كوسائل نقل وحمل الأمتعة والأثاث البسيط من مكان إلى آخر كلما اقتضت الحاجة إلى المرعى ذلك. ويتم التنقل بناء على حاجات الحيوان وبناء على تغيرات المناخ.
والبداوة الرعوية " تتسم بجمعها بين ظاهرتين هما البداوة والرعي ونمت في الألف الثاني قبل ميلاد المسيح" وهي تقوم على ثلاثة أسس حددتها الباحثة فرانسواز أوبانAUBIN (F) على النحو الآتي :
§ الجماعة البدوية : مجموعة بشرية تنتمي إلى قبيلة واحدة، تربط بينها القرابة الدموية وعلاقاتها قرابية تلاحمية وهذا العامل هو العامل البشري
§ الحيوان : يرتبط وجود المجموعة البشرية بوجود القطيع وتتجه جهود كل أفراد المجموعة إلى توفير الكلأ والمرعى للحيوان. ولذلك كان الحيوان هو المحدد الأساسي لنشاطات هذه المجموعة . وهذا هو العامل الاقتصادي.
§ التنقل : حتى تتمكن المجموعة البدوية من توفير الكلأ والمرعى للحيوانات كان لزاما عليها التنقل، ويكون التنقل على فضاء شاسع على ملك المجموعة وهو تنقل دوري حسب الفصول من ناحية وحسب المناخ (الخصب والجدب) من ناحية أخرى . وهذا العامل هو وسيلة نمو أعداد المواشي. و"لنأخذ هذه العناصر الثلاثة بالرجوع إلى بدو تونس السابقين: فالفريق المتنقل يشكل مجتمعا صغيرا متجانسا نسبيا فإما أنه يشكل قبيلة بكاملها وإما فرعا أو فروعا لها، وتربية الماشية أو نقص المراعي على الأقل هي التي تفرض التنقل. فالقطيع هو المورد الرئيسي لأنه يسمح بإنتاج اللحوم والصوف والجلد ويسمح بالتالي بشكل غير مباشر، بالحصول على الحبوب الضرورية بواسطة التبادل. لذلك يحتل القطيع مكانة أساسية في حياة البدو. ونظرا لغياب العلف الاصطناعي فإن التنقل يوفر للقطيع الغذاء الضروري لاستمراره" والأكيد أن التنقل "لا يعني ان البدو يهيمون على وجوههم في الصحراء بل يتوجهون دوريا نحو مراع تتجدد ونحو ينابيع مياه يعرفونها. فالبدو لا يتنقلون بشكل عشوائي بل يتبعون مسالك محددة بوضوح". لقد كانت تحركات البدو محكومة بحاجة الحيوان للمراعي والمياه.
وعلى ضوء تلك الحاجة نشأت علاقة بين البدو وحيواناتهم فقد ولع بدو تونس – شأنهم في ذلك شأن البدو في المنطقة العربية وفي العالم – بتربية الأغنام" وولعوا بعنايتها ورعايتها وأولوها اهتماما يفوق أحيانا الاهتمام بفلذات الأكباد. فترى الراعي يهيم بقطيعه هياما يبلغ درجات العشق" . وفي ذلك يقول أحد الشعراء .........
انظر تتمة المقال ..............
تحميل كل المقال من هنا ..................