تحتل مسألة نمط الإنتاج مكانة أساسية في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، ولا يمكن اليوم لأي نشاط فكري أو أي علم من العلوم الإنسانية والاجتماعية احتكار مسألة نمط الإنتاج لسبب من الأسباب أو بطريقة من الطرق، ذلك أن كل علم يقارب إشكالية نمط الإنتاج من زاوية خاصة به، وبمناهج مختلفة ولغايات عديدة، ولم تعد اليوم مسألة نمط الإنتاج من اختصاص الاقتصاديين والمفكرين بل ارتبطت كذلك بالمؤرخين والسوسيولوجيين والانثروبولوجين ...إلخ، وهنا يحصل بالضرورة التكامل والاختلاف بين العلوم والمناهج من اجل رؤية واحدة في صياغة موضوع واحد.
وفي السنوات الأخيرة، حاولت العديد من الدراسات التاريخية والسوسيولوجية والانثروبولوجية والاقتصادية والجغرافية التي أنجزت حول بلدان المغارب تقديم نمط إنتاج مقبول وملائم لهذه المجتمعات قبل أن تتعرض لمنعرج الرأسمالية.
وخلفت هذه الدراسات مجموعة من الأعمال والتي تناولت في غالبيتها القرن التاسع عشر، فما هي أنماط إنتاج المجتمعات المغاربية الماقبل الرأسمالية؟ وكيف حاولت البحوث المونوغرافية المغاربية أن تنبث أو تنفي هذا النمط أو ذاك، وما هي البدائل التي اقترحتها في التعريف ببنيات المغارب قبل قبضة الاستعمار.
إن مقاربة مسألة أنماط الإنتاج في بلدان المغارب اختلفت حسب المدارس والمناهج والرؤى والمراحل التاريخية، وهكذا اختلفت وتراكمت حوله المعارف والطروحات، لا نهدف مناقشة كل أنماط الإنتاج التي كتبت حول بلدان المغارب، لأنه يحتاج إلى دراسة مستقلة أو عدة دراسات، وإنما نهدف إلى إبراز أهم أنماط الإنتاج حول هذه المجتمعات واهم الباحثين الذين تبنوها، وسنركز على نمط الإنتاج العتيق الذي توصلت له الباحثة لوسيت فالنسي قبل أن نتعرض للمونوغرافيات المغاربية التي عالجت أنماط الإنتاج.
وإذا حاولنا مراجعة أهم أنماط الإنتاج التي أنجزت حول بلدان المغارب نجدها تتوزع بين القائل، بنمط الإنتاج الآسيوي ([1]) ، وبين القائل بنمط الفيودالي ([2]) ، والقائل بنمط الإنتاج القايدوي ([3]) ، والقائل بنمط الإنتاج الخراجي ([4]) ...الخ، واهم هذه الأنماط والتي طبقت على المجتمع المغاربي هو نمط الإنتاج العتيق « l’archaïsme » للباحثة لوسيت فالنسي، حيث نقرأ عند الباحثة ما يلي:
" هذا هو نمط الإنتاج التقليدي في بلاد المغارب، بعض الأمور تذكر بنمط الإنتاج الأكثر بدائية، من حيث التنظيم القبلي للمجتمع، والدور الكبير الذي تلعبه الممارسات الجماعية، وهناك أمور أخرى تقترب من الأسلوب القديم حيث تهيمن الملكية الصغيرة، كما هو الحال في منطقة القبايل بالجزائر في الساحل التونسي، ثم إن التطور الضعيف لقوى الإنتاج، وتوجه النشاط نحو الاستهلاك وليس نحو الإنتاج يجعلان من هذه التشكيلة الاجتماعية غير قابلة للتطور، لكن وحتى نقدم تشخيصا نهائيا لنمط الإنتاج هذا علينا أن نرى انطلاقا مما أشرنا إليه إلى أي مستوى وصل مسار التمايز الاجتماعي، ولذلك يبقى البحث مفتوحا، وعلى كل حال فإن فرضية نمط الإنتاج التقليدي لها ما يبررها، ويظهر هذا الأمر في الخاصيات الآتية، أولا من حيث تجانس مستويات النشاط الاجتماعي، وثانيا من حيث سكونية هذا النسق الاجتماعي، وأخيرا ليس من المستبعد أن يطبق هذا النسق على مجتمعات أخرى، على الأقل في باقي الحوض المتوسط، وعلى العكس من ذلك، لا يبدو لي صحيحا، من الوجهة المنهجية، أن نلقي في قائمة الموروثات الأشكال الاجتماعية التي كان لها دور حيوي "([5]).
لقد حاولت الباحثة تقديم نوع من التشخيص لنمط الإنتاج السائد في المجتمعات المغاربية الماقبل الرأسمالية، ومن بينها المغرب وتونس، وتوصلت إلى نتائج مفادها أن بلدان المغارب لم تشهد تطور قوة الإنتاج والتقنية إلا مع المرحلة الاستعمارية، لقد أنتجت عملا متراصا ومتناسقا وذلك بتبنيها النظرية الانقسامية، لتفسير نمط الإنتاج التقليدي واستطاعت أن تقدم تشخيص لواقع معقد ([6])، والمغرب هو أكثر تعقيدا من الجزائر وتونس.
لقد كانت الصورة التي قدمتها لوسيت فالنسي لنمط الإنتاج المغاربي عامة صورة متماسكة كيف حاولت البحوث المونوغرافية المغاربية أن ترد على هذه الأنماط وكيف جاء خطاب نمط الإنتاج في مثونها.
في المغرب، حاولت المونوغرافيات تلمس طبيعة نمط الإنتاج السائدة وذلك من خلال اتخاذ نماذج دراسات مجهرية، فأحمد التوفيق وبعد دراسته المجهرية حول حوض إينولتان، وبعد إشارة أولية لتحديد طبيعة نمط الإنتاج نقرا عنده ما يلي:
" ... رغم التحفظ من استعمال عدد من أدوات التحليل التاريخي، مثل مفهوم "الطبقة الاجتماعية" أو "نمط الإنتاج" اقتناعا بان وصف الواقع التاريخي عن كتب، سيجلي عناصر خاصة بتطور المغرب، وساهم في وضع إشكاليات هذا التطور ووضع المفاهيم المناسبة لتحليله… "([7]).
أما الاستنتاج المركزي لبحثه حول نمط الإنتاج فنقرأ مايلي:
"إن اقتصاد إينولتان كان في القرن التاسع عشر، اقتصادا زراعيا بصفة أساسي والزراعة كانت عتيقة، في أدواتها وتقنياتها لذلك كان إنتاجها ضعيفا ومتوقفا على الأزمات المناخية الدورية، ...، هذه هي سمة نمط الإنتاج في المغرب قبل منتصف القرن التاسع عشر، توازن بين إنتاج زراعي ورواج تجاري، وكلاهما مظهر لاقتصاد يمكن أن نسميه "اقتصاد القلة" لأنه كان دوما على حافة الجماعة، لكن نمط الإنتاج هذا كانت له سيرورة دورية، وهذا التطور الدائري كان أمدا مطردا لا يقتصر على الاقتصاد وحده، فكل شيء يدور دورة لها بداية واو ونهاية، من الأسرة إلى الدولة، وعلى ضوئها يمكن فهم الدينامية الاجتماعية للمغرب ...، وإلى جانب كون هذا الاقتصاد اقتصاد قلة فهو "اقتصاد عدم التراكم" فكل شيء يصير فيه إلى الاختلاف لا على المستوى الاقتصادي فحسب بل حتى في المستوى الاجتماعي "([8])
لعل الاستنتاجات التي توصل إليها أحمد التوفيق في تحديده لطبيعة نمط الإنتاج، قد توصلت إليه بعض الدراسات المجهرية أخرى، فهذا محمد أمين البزاز نقرأ عنده ما يلي:
" وفيما كانت أوربا تعيش ثورة سياسية واقتصادية عاصفة، وتتحرك بسرعة نحو التراكم المدد لرأس المال، ففي المغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بلد يعيش على أنماط الإنتاج والتجارة القائمة على التراث القروسطي، تستهلك الأوبئة والجماعات رأسماله البشري، لذلك لم يكن له مفر من الوقوع لقمة سائغة للرأسمال الأجنبي" ([9]).
وهذا عمر أفا الذي يشير إلى نوعية نمط الإنتاج السائد في المغرب حيث يقول:
" لقد تبين مدى ارتباط الجانب النقدي بالجانب المالي، في إطار إنتاج معاشي أو إنتاج لا يتعدى المعاشي إلا بنسبة قليلة" ([10]).
لقد حاولت البحوث المونوغرافية المنجزة حول المغرب من إنتاج خطاب تجاوب مع إحدى النظريات المنجزة حول طبيعة نمط الإنتاج المهيمن حول المجتمع المغربي، واهم هذه النظريات نجد أطروحة نمط الإنتاج العتيق أو نمط الإنتاج التقليدي المستندة للنظرية الانقسامية، فقد حاولت هذه البحوث المونوغرافية وخاصة الرائدة كأطروحة أحمد التوفيق وعبد الرحمن المودن من أن تتخذ إزاءها موقف الحوار الإيجابي إذ اعترفوا بفائدتها الجزئية، على الأقل فيما يخص الدراسات المحلية ([11]).
كيف إذن حاولت البحوث المونوغرافية التونسية أن تقدم نمط الإنتاج الخاص بها، وكيف حاولت أن ترد على أنماط الإنتاج المنجزة حول هذا المجتمع.
لقد حاولت البحوث المونوغرافية التونسية تلمس طبيعة نمط الإنتاج السائد في هذا المجتمع وانتبهوا بعد بحوث مجهرية حول تونس إلى نتائج معايدة ومتباينة، فهذا الهادي التيمومي يميز بين نوعين من أنماط الإنتاج في تونس قبل الاستعمار الفرنسي، نمط إنتاج إقطاعي وآخر شبه مشاعي حيث يقول:
" لقد كانت تونس قبل 1881 تابعة للإمبراطورية العثمانية، إلا أن تبعيتها كانت محدودة بداء بحيث يمكن القول إن تونس كانت قبيل 1881 بلدا شبه مستقل، وكان نمط الإنتاج الرئيسي بها إقطاعيا، لقد كان نمط الإنتاج القطاعي مهيمنا في تونس شمال الظهيرة التونسية وفي المناطق الساحلية وفي واحات الجريد وبعض مناطق الوسط والجنوب، أما أنماط الإنتاج الثانوية فهي نمط الإنتاج العبودي فيخترق بتفاوت الكثير من قطاعات المجتمع ولا يمكن بالتالي تحديد حيزه الجغرافي" ([12]).
وهذا محمد نجيب بوطالب الذي يشير إلى أن:
الأرياف التونسية عرفت قبل التدخل الاستعماري تبدلا في الأنماط الإنتاجية السائدة، لقد كان النمط الفلاحي المعاشي والحرفي البسيط هما النمطان المهيمنان على الاقتصاد التقليدي الريفي، مما يجعلهما يتميزان من ضعف تقسيم العمل وشبه الانغلاق على الذات([13]).
[1] = Lacoste (Y.), Ibn Khaldoun , Naissance de l’histoire passé du Tiers-Monde, Paris, 1985.
حول هذه الدراسة راجع انتقادات عبد الكبير الخطيب :
Khatibi (A.), « Hiérarchies précoloniales, les Théories », BESM., n° 120-121, 1971, pp. 40-50. ;
Sur le mode production asiatique, publications du CERM, Editions Sociales, Paris, 1969 ; Vatin (J-C),
« Appréhensions et compréhensions du Maghreb précolonial et colonial »,in Revue de l’Occident Musulman et de la Méditerranée, n° 133, 1982, pp. 7-32.
[2] = انظر خاصة الأعمال الجماعية:
Sur le féodalisme, publications du CERM., Editions Sociales, Paris, 1971. ;
Benali (D.), Le Maroc précapitaliste, Rabat, 1983. ; Kraiem (M.), la Tunisie précoloniale, La régence de Tunis1815-1857, Tunis, 1984. ; Poncet (J.), La colonisation et l’agriculture européenne en Tunisie depuis 1887, Paris, 1962.
المنوبي (خالد)، " ابن خلدون والتشكيلة الاجتماعية والاقتصادية المغربية في عهد ما قبل الاستعمار"، ضمن مجلة الفكر ، العدد 1، 1981، ص 24-31.
[3] = Pascon (P.), Le Haouz de Marrakech, Rabat, 1983, 2 tomes.
[4] = Amin (S.), Le développement inégal, Essai sur les formations sociales du capitalisme périphérique, Paris, 1973.
[5] = Valensi (L.), « Archaisme de la société maghribine », in Sur le feodalisme, publications du CERM., Editions Sociales, Paris, 1978, p. 232.
[6] = Houbbaida (M.), « L’histoire rurale au Maroc : Etat de la recherche », in Hespéris-Tamuda , vol. XL, 2005 , p. 51.
[7] = التوفيق (أحمد)، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (اينولتان 1850-1912) ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط ، 1983 ، ص 13.
[8] = نفس المرجع ، ص 615 – 620.
[9] = البزاز (محمد الأمين)، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، منشورات كلية الآداب و العوم الإنسانية بالرباط ، 1992 ، ص 410.
[10] = أفا (عمر) ، مسألة النقود في تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر (سوس 1822-1906)، منشورات كلية الآداب و العوم الإنسانية بأكادير ، 1988 ، ص 385 .
[11] = مقدمة كتابالانتروبولوجيا والتاريخ : حالة المغرب العربي ، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق ، دار توبقال ، الدار البيضاء ، 1988، ص 8.
[12] = التيمومي (الهادي) ، انتفاضات الفلاحين في تاريخ تونس المعاصر مثال 1906، بيت الحكمة ، قرطاح ، 1993 ، ص 23-24.
[13] = بوطالب (محمد نجيب) ، "التحولات الاجتماعية والاقتصادية في الريف التونسي في النصف الثاني من القرن العشرين" ،ضمن الكراسات التونسية ، العدد 177 ، 1997 ، ص 172.