شذرة البدء : " إن علماء الاجتماع أشبه ما يكونون بمزعجين يفسدون على الناس حفلاتهم التنكرية " بيير بورديو .
تألمت الفلسفة بتأملها، ووهنت لشدة تفكيرها، وتخلخلت لعقوق أبنائها، فحاولت تهدئة نفسها بالإدمان على التساؤل لتسكين أوجاع جراحها، والبحث عن نشوة تفكير للوصول لحفنة فهم قد تجتث الحزن من أركان قلبها ، حاولت و سعت لكن عانت و تأوهت، و هي الناظرة بعاطفة العقل و المفتقرة للحيلة لضبط نفسها و إعادة جمع شملها، فشلت و انكسر حلم عائلتها و امتدادية شجرتها و تجذر عروقها ، تفرعت و تفرخت أنساق من أحضان معرفتها، لتنزلق السوسيولوجيا هاربة من صرامة تأملها و ميتافيزيقية أسئلتها، لتنحرف باحتراف التساؤل حول منطق الجماعات و ما يخص مناخ المؤسسات، و تراكيب جسد المجتمعات، بحثا عن صيغة أخرى للسؤال، لتخلق افتخارا في عز القلق و هم التفكير و سوداوية الأوضاع ، فبدايتها مخلصة للأزموية ، ارتبطت بالظرفي المتعكر و اللحظي الكارثي، في محاولة منها للإجابة عن أسئلة الضيق و حرج المحنة، و لإستيعاب كذلك عوامل ظهورها و شفرة إعادة إنتاج ظهورها، فولادتها- السوسيولوجيا- لم يكن بالمخاض الهين و اليسير، فأزمة الأزمة من أنتجها و نتيجة للإختلالات تأسست، و في عيوب الواقع حاولت المأزرة و تقديم السند وبرحابة الصدر مدت يد العون و تكلفت، ففي البحث عن مسكنات تفضي إلى التقليص من حدة الألم و ارق السؤال.
يبدأ سؤال الأصل و الأصول، مبسملا بإلإيتيمولوجيا، نابشا لمعرفة الأب الشرعي و المؤسس الفعلي، فبين سجالات تاريخ التحليل، تزف لنا أبحاث جينات ابن خلدون، و أخرى ترسبات مونتسكيو، وبعضها الأخر ملامح روسو أو سان سيمون، أما النزر القليل تطرف لعراقة اليونان، ليقنعنا منطق الكتب و التحليل في أن بداية تربيتها و شريط تنشئتها قص مع النزعة الوضعية، فمعها حصلت على إسمها الحالي، و أخذت من الحقل المجتمعي موضوعا لها و من تنوع شعابه ملاذا لها، لتعبد الطريق بعد ذلك لبسط بساط الشرعنة و روح المصداقية على العلم الاجتماعي و لتأكيد الحاجة لنظراته التفسيرية و لشجاعته التحليلية ، بعدما أصبح الاجتماعي أكثر هشاشة وتضررا، لتجند كل العقول العلمية و المخاييل الفكرية لهندسة علم يؤمن بالفهم و التفسير، و ينتصر للتغيير و التعجيل بالتغيير ، لتلوح بعد ذلك تخصصات زادت من نجاعة خريطة علم الاجتماع، لتتقوى تشكيلة علوم الإنسان، لتطفوا صياغات متباينة البراديغم ، فظهر الاهتمام بالتدين من هذا الوعاء الفكري و الثانية قروية من الوعاء الأخر ، و أخرى سياسية و هكذا دواليك، استجابة معرفية لتجاوز كارثية الأزمة، كفروع تفيد في فهم و تحليل ما يعتمل في الفيزياء الاجتماعي، لتبدأ غيرة السؤال و تظهر ميزاجية التحليل و الاختلاف في التفسير، فتارة تهرع للتفسير المادي و تارة تجد في الوظيفي السند ، وتارة أخرى تنتصر للبنيوي و غيرها ، هذه هي ميزاجية السوسيولوجيا و حساسية رؤيتها فالأصل فيها إزالة لنقاب المألوف و فضح لغطاء التضليل الغير مرغوب، و المضمون فيها بحث عن ما وراء التنكر و القناع، فهو العلم الغيور على روحانية المجتمع و بناءه التناغمي، لا يرتكن للجاهز و اليقيني و لا يقتنع بفتات المعرفة، فالنبش هو عين صوابها، و الأركيولوجيا هي مصدر هبتها، و البحث عن معنى المعنى أساس لها ، وفي إشعال شموع التنوير و مصابيح الإضاءة نصرة للحقيقة و تجاوزا لعثرات الواقع و مخاطر الهوة دليل قهري على بطولية منهاجها ، و ذلك باستنبات حمى التساؤل و السؤال . ليشتد عود السوسيولوجيا لتنغمس عاقة لميتافيزيقية أمها ، فارضة للذات بدءا بأدوات أشقائها، و أملا في الدقة العلمية تفرغت و خصصت كل وقتها، ففي البحث عن سر التحول و عوامل التغيير، اندهشت كافة العلوم ، و عجزت عن تقديم يد عون التحليل، لتنتصر فخامة السوسيولوجيا و تشتد شخصيتها قوة و نجاعة، لتبدأ بالنبش هنا و الحفر في الهناك، بشحذ سلاح النقد أسست للحقيقة و الحق ، لتزهد في نفسها غارزة لمبادئ الكشف و التعرية، بعيدا عن حربائية التحليل، و نفاق العلم و التفكير الذي يسرق منها روح الفاعلية و نبرة العلم و العلمية، فجراح المجتمع موضوع لها ، و الإنصات لأهات الجماعات خاصيتها، و تشريح لخبايا العلاقات ميزتها و التنقيب في جينيالوجية الظواهر نقطة قوتها ، و ميزاجية التحليل أساس لإستمراريتها، كيف لا و هي المنشرحة على طول الدوام لتقديم عقاقير فهم، و أدوية تسكين تهدئ جراح الخلل و رداءة الوضع و الأوضاع، لتتسلح بمشاريط العلاج باختلاف أشكالها، وواقع إستخدامها، و آلية التنوع ميزة لكل مدارسها، و الرغبة في فتات فهم هو هاجسها و سبب أرقها، فما يعتمل في المجتمع يزيد من قوة حضورها، و يدفع إلى تسخيرها لتشخيص و تشريط تمفصلات كل مواضيعها، منتصرة لمبدأ السبر و الخلخلة الرافضة للمحاكمات المسبقة، لتعلن الحياد متسلحة بأدوات الدرس و التحليل و في بحثها عن ميتافيزيقية الظواهر أقرت العفة عن كل نزواتها . فمرورا من الولادة و صولا للنضج الابيستمولوجي و إثبات للذات، و الحاجة للعلم الاجتماعي تزداد، و إلحاحية التفسير و الشرح تتفاقم، أملا في سطور تحليل للخروج من فوهة الرداءة و عشوائية الامعنى، حماية للتقطيع الاجتماعي من غيابات الضياع و قذارة التهميش، و نقد للجاهز مرورا لتفكيك الدوغمائي و الثابت اليقيني، لفك طلاسم و ألغاز الواقع الديناميكي، ليطفوا نقاء التحليل و صفاء فكرة التغيير غيرة على البناء النسقي للجميع . لتأخذ على عاتقها الارتطام بفسيفساء الاجتماعي، و ذلك بإعمال أدواتها و تشغيل نجاعة آلياتها، بحثا عن عين الخطأ، وأصل الخلل الثابت في قلب الواقع الاجتماعي، فغيرة عن الأخير تدافع بالتكشير عن مناهجها غير أبهة بالبنى الفوقية، والمحتكرين لآليات الإنتاج، فهي وفية لنفسها، و للمجتمع تستنفد كل جهدها، و بعراقة تفكيرها أفرزت جيشا من عشاقها و مدمني السؤال مثلها، و استلهاما من و صايا أبائها، شق طريق الفضح و حرج التعرية كل أبنائها أو بالأدب العلمي جل مفكريها، فلاحت لنا أسماء من هنا و هناك ، وحتى لا أثير زوبعة غيرة في قلبها تفضيلا لأحد أبنائها ، اكتفي بالقاسم الجامع لهم حولها، وهو إخلاصهم للاجتماعي و إعمالهم للنظر لصالح المجتمعي، لهذا يجب أن نستأنف اجتهادات مفكريها بأن نعزز إنصاتنا لرأي العلم الاجتماعي لمعالجة جراح الاجتماعي ، حفاظا على النسق العلائقي، فالجرح يقود للأخر، و الأول و الثاني يزيد من حدة الثالث، لذى من اجل حبيبات فهم سنواصل نحت نفس المشوار، و برسالة السوسيولوجيا الغيورة سنكمل امتدادها التاريخي، بالانتصار لنزعة الكفاح الفكري، و وشوشة النضال السوسيولوجي، هوسا بأسئلة المجتمعي، لا لشيء لإعلاء الاجتماعي و روحانية الاجتماعي.