علي الجندي: الشاعر الساخط على انهيار الزمن العربي الرديء يكتبه وصيته الأخيرة - د. امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيقدم الجندي نفسه بقوله:
"كانت عائلتي إسماعيلية أغاخانية، ثم تمرد والدي ظانا أنه يقوم بثورة، ونال في سبيل ذلك اضطهادا اجتماعيا وفرنسيا وفقرا"(1).
لقد نشأ علي الجندي في "سلمية" وهي مسقط رأسه تقع على أطراف البادية في سورية، عاش بها ظروفا قاسية من الاضطهاد والفقر، وهو ما جعله يتمرد تمردا فرديا خاصا ضد هذا الواقع منذ مطلع شبابه ـ شأنه في ذلك شأن أبيه ـ ومن ثم راح يمارس تمرده الرواقي العبثي بصورة علنية في الجامعة السورية في مطلع الخمسينيات.
يقول عنه سعيد حوارنية: "وكان علي الجندي المفتون ببايرون الجميل جدا والمتحدث دوما، الضاحك أبدا والملتهب شبقا إلى الحياة الفريدة... لم يكتشف أن الشعر قضيته إلا في وقت متأخر، وبعد أن استهلك نفسه وجسده كرواقي خرافي، وبعد أن امتدت إليه يد الحياة التي ذللته بخنجر رمادي يلمع ويحاذي لحمه"(2).
هذا هو علي الجندي إذن سيصحو فجأة على السقطة المروعة التي تلقاها جيله في حرب حزيران 1967، فانهارت أحلامه السياسية، وأحس بالخراب يحاصره من الجهات كلها وبالوحدة القاتلة المدمرة، فلم يكن له من حل سوى أن يجعل من الشعر عالما موازيا للواقع المزري، ومعوضا له. ومن ثم انتشر إحساسه بالقلق المدمر والبؤس النفسي والحزن المرضي، فراح يدين كل شيء، ويجزم بصورة قطعية أن كل ما كان وسوف يكون، عقيم لا جدوى منه.
وفي هذا المعنى يقول:
"إنني أعرف أني صرت وحدي.
إنني أفردت إفراد البعير
صرت كالمجذوم في أهلي
فمن دنياي غوري"(3).
ويقول في مقطع آخر عن المعنى نفسه:
" كل ما كان وما سوف يكون
صار صحنا من رماد بارد صار وجها طحلبيا
فوق ماء جامد"(4).
وديوانه "الشمس وأصابع الموتى "تعبير بالغ الدلالة على هذه المرحلة التي طبعت أعمال الشاعر بجو جنائزي ذي إيقاع حزين.
لقد سقطنا وهزمنا وعجزنا، هكذا يقرر الشاعر في أكثر من قصيدة، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يقرر ـ وهو ابن التراث الشرقي الذي يكرس الفهم (البطرياركي) للذكورة ـ أن فحولته وجفت، وأنه أصيب بالعنة والعادة السرية، ومن ثم قابل الهزيمة بالعقم الجنسي. يقول عن هذا المعنى:
"هربنا مع الريح، صرنا خصاة
ولا حقنا الصوت، صار ثعابين تزحف حول فحولتنا الواجفة
لجأنا إلى الأرض، صرنا نغطي مخاوفنا بالتراب
وهل البكاء شآبيب صحو علينا.
نشجنا بحرقة مليون عام
بكينا، بكينا، بكينا"(5).
بهذه الطريقة الطفولية يبكي الشاعر بحرقة واقع الهزيمة (هزيمة 1967)، ومن هنا ينطلق ليبتكر عالما بديلا عن عالم الهزيمة فيلجأ للخمرة والجنس والتسكع، وهي ملاجئ الشاعر ومناطق الأمان التي يفر إليها من عالم الهزيمة هذا، وعن هذا يفصح الشاعر في إحدى استجواباته:
"ليست لي مطامح بالمعنى المعروف، كل ما لدي رغبتان وبعض أحلام صغيرة، أشرب وأسهر وأمارس الجنس بضراوة مرضية ربما واكتب فقط"(6).
وهو نفس الموقف العدمي لطرفة بن العبد البكري الجاهلي الذي يتقمص علي الجندي شخصيته بذكاء في ديوانه: "طرفة في مدار السرطان"، فكلاهما عاش وحدة قاتلة، الأول عاش منبوذا من طرف عشيرته، والثاني صار منبوذا من طرف جيله وأهله، وكلاهما انغمس في الخمرة والجنس، وكلاهما يترقب الموت للتخلص من الواقع فراح سجين التعلق المرضي بلذات الحياة.
وعلي الجندي شاعر اللذة بامتياز، ولذلك يكتب وصيته الشعرية يرسم من خلالها تفاصيل الطقوس المرجوة عندما يأوي إلى آخرته التي ينتظرها كي يتخلص من أوجاع الواقع:
"عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة
امنحوني شكل موتي
رحلتي المنكسرة
ودعوني أحتفي بالميتة المنفجرة
شيعوني أنا والنغمة في موكب صمت
شيعوها لغتي المنتصرة
امنحوني قينة ماجدة وحشية الإيماء
رحبا جسمها "محطوطة المتنين غير مفاضة"
محلولة الخصلات أنثى نمرة
واجعلوها حول منفاي النهائي تغني
وتغاوي الريح والليل برقص همجي
وخطى مستنفرة
ودعوا جنبي دنا عبقريا
فائر الروح عظيم الثرثرة"(7).
هكذا يختار علي الجندي شكل موت طرفة بن العبد، فهو مؤمن بأن نار الحياة انطفات، وفقدان الإحساس بالحياة في لا شعور الشاعر جاء نتيجة لهزيمة حزيران المريرة.
"إنني شاهد هذا الزمان العجيب، أسجل مخازيه،"
"أنا العربي القديم الجديد والحزين الطعين،
الشهير العريق التوحد، سيف الألوهة، خنجر
فتح صديء" (8).
وإذا استثنيا بعض الرؤى المتفائلة بغد أفضل، والتي تعد القارئ بمستقبل مشرق وضاء ـ على قلتها ـ جاز لنا أن نعتبر أن بقية الرؤى الغالبة على شعر علي الجندي هي رؤى سوداء، إلا أنها تختلف ضيقا واتساعا من ديوان إلى آخر.
يقول وفيق خنسة: "صحا علي الجندي على السقطة المروعة التي تلقاها جيله في حرب حزيران 1967، وانهارت أحلامه اليسارية، وأحس بالخراب والتداعي يحاصرانه من الجهات كلها، وشعر بالوحدة القاتلة المدمرة، تجاه ذلك حاول أن يجعل من الشعر عالما موازيا للواقع ومعوضا وبديلا عن العالم المعطي، ولكن شبح الموت انتشر في القصيدة وصبغها باللهجة الحزينة التي تقطر فجيعة وذعرا"(9).
 ولعل ديوانه "الشمس وأصابع الموتى" صيحة ذعر ونشيد جنائزي. إنه "رؤيا" في فاجعة الموت، كما هو رؤيا في فاجعة الحياة التي تنتهي به. إنه يسائل البحر عن العاشقة" الطفلة" المدفونة في أعماقه، وقد كانت" تولم للفجر الخمري "في عينيها الضاحكتين، وتزرع "الفل" في ليل غدائرها فإلى أي مصير آلت إليه اليوم:
"حدثنا كيف تنام الآن قريبا من نبع الأحداق
متجلدة تنبت بين أصابعها الأعشاب بلا أوراق
تمرق من عينيها الأسماك الذهبية
هل مازالت تنتظر هناك مواعيد العشاق."(10).
وكما ينطلق في فكرته من قاع الموت إلى سطح الحياة، يقف في حال بين الحالين، فيرى في الماضي" ظلا" وفي المستقبل "شبحا" وفي نهاية الطريق حفرة عميقة تبتلعه، إنها نظرة أخرى مختلفة، ينطلق فيها من سطح الحياة إلى قاع الموت ليكمل الصورة الجدلية بين طرفي الوجود:
"صارت لي عينان أرى بهما مالا يمكن رؤيته
ألمح في "البلورة" ظل الماضي، شبح المستقبل، جرح القلب،
أنين الزهرة!
وأرى في القاع الرحماني لكأس الخمرة
أشباح طريقي المتلوي
الذاهب صوب... الحفرة!"(11).
ويعلق أحمد بسام ساعي على هذه الأبيات بقوله:
وهذه النظرة الكلية " للوجود تبتعد بظاهرة الموت عند الشاعر عن الشكل المرضي أو الرومانسي، وتقترب بها من الرؤية الإنسانية. وربما كانت القصيدة الحديثة أو "الكلية" أجدر القصائد بهذه "الشمولية" الإنسانية، فإحساس شعراء هذا النوع من القصائد بالغربة أو النفي ليس إحساسا ماديا ضيقا يمس عواطفهم، فيولد فيهم الشعور باليأس أو الموت أو بالانتحار، بل هو، في رأي غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين" ص 29 (إحساس كوني مصيري بالغ الرهافة والعمق. وهو شعور لم يتولد عن العتمة التي يتيه الرومانسي في ظلامها، ولكنه نتاج الوضوح الكامل، مصدر الرعب الحقيقي، هذا التيار هو احتجاج مذعور على حضارتنا، وليس معايشة لها (12).
وعلى كل فإن علي الجندي يدين كل شيء، ويؤمن باللاجدوى وبالعقم، لذلك فهو يرى الحل في العودة إلى الصحراء:
"كل ما كان وسوف يكون
صار صحنا من رماد بارد
صار وجها طحلبيا
فوق ماء جامد
فامنحيه العفو ورديه إلى الصحراء.
فلكم رد إلى نعمائه
مدنف تحييه ذكرى دائه" (13).
وقد يختبئ علي الجندي ـ يقول حنا عبود ـ "معتمدا على القصص الشعبية وراء حادثة السيل الذي اجتاح "سلمية" ليبث رؤيته القاتمة هنا وهناك، وهي مع كل ذلك واضحة حيث ترفع الرموز أستارها وتهتك الإشارات. ويشعر المرء أن هذه الحادثة هي الرواية ـ المأساة لعصر التحلل وخيبة الأمل. وفي مثل هذا النوع من الشعر تتجمع الرؤيا في نهاية القصيدة، بعد سرد الأحداث، فتكون أشبه بالحكم بعد طول الحيثيات. فبعد أن ينتهي الطوفان يتجمع الناس في الساحة ليتطلع إليهم شيخ وقور ليقول ـ من جملة ما يقول:
"كسرتنا الفواجع والخوف منها
وقلب المدينة يستصرخ الأوفياء
وممتلئ فمها بالدماء
وبالماء والقهر...
مذعورة من تخيلكم هاجريها
فهل من مغيث؟
وران سكون مريب هنيهة
وبعد قليل تفرق جمع الرجال
ولاحت شرارات أعينهم تتصالب في الجو...
... كان على كل وجه تعاسة عصر بأكمله...
وخيبة مرحلة مقبلة"(14).
وهكذا، سيرتبط صوت علي الجندي بخيبة الأمل والمرارة والاحتراق في أكثر من قصيدة. وبالإضافة إلى ديوانه: "الشمس وأصابع الموتى "نضرب على ذلك أمثلة من ديوانه: "طرفة في مدار السرطان" إذ يقول:
"لا شيء سوى قفر وظلام منتشر في أرض مضطربة
نبذتني الضبع اللاتي تعلمت على أصواتها
الوحشية الإيماء في كل البلاد
كل ذؤبان الصحاري
غربوا تحت الرماد
كل أصحابي يا قاتلة العينين راحوا
كلهم ألقى علي العبء يوم انتبذ الفرسان
أقصى مطرح صعب و... ناحوا"(15).
إن اليأس جو غامر طاغ على روح الشاعر، هذا اليأس الذي ينفي الحياة ويتهمها بالبوار ماضيا ومستقبلا:
"غير أني يا "ابنة الأمطار" لم أظفر من الرحلات بالمأمول
لم أعثر على تمثالي الماثل في فكري
وجافتني أحلامي فطلقت جنوني"(16).
وتتخذ الغربة والانطواء عند شعراء سورية أثوابا عدة، قد تخدع الدارس عن حقيقتها الرومانسية أو السلبية، وتظهر انطوائية علي الجندي وهروبه في محاولاته العديدة: وهذه نماذج منها:
"وفي مرآة ماء الصحو المح عيني اليسرى بلا إنسان
وتبدو كل أسناني مخلعة
وتبدو عيني اليمنى بلا أجفان
وتبدو في تجاويف الرؤى في وجنتي
حروف أغنية بلا أوزان"(17).
إن خيبة الشاعر وإحساسه الحاد بالغربة والتشرد والضياع نابع من تبدل حال الوطن، وهو ما يغذي لديه هذا الإفراط في التعبير عن حزنه الموجع وعن همه القاتل:
و"عدت إليك يا بلدا، تشرد تحت أجفاني
وكنت يشدني الترحال من حان إلى حان
وها أنذا بلا زاد، لديك أحط ترحالي!
أقيم على الطوى ما بين ذكرى الحب والآل،
أهيم على دروب ضبابك المنسي في نشوه
وأشعر أن وجهي ضائع بين الوجوه، موله الخطوة...
...ويتعبني السير والذكريات وهمس الحجارة
فأحمل ساعاتي المطفآت، أعود لصمت المغارة
أحدث نفسي، أنكر أني ربيب حضارة
وأني لم يبق لي من حصاد التشرد والحب
والنوم... غير الخسارة!"(18).
إن عودة الشاعر إلى وطنه قد فجرت آلامه وألبت عليه مشاعر الإحباط واليأس، ومن ثم فهو لا يقوى إلا على إعلان غربته وعجزه وتعبه:
"وها أنذا أجيء إليك يا بلدي من الصمت
محملة غصون شبابي المضنى
وأحمل أوعيتي وأحلامي الغرابية
وقد أولمت للأشباح في داري السرابية...
... أعود إليك يا بلد الخرافات الحقيقية!
وقد أنهكني التسيار والتيه،
وحب الشوك، والريح الغبارية...
... وجئت على جناح الموت محملا،
أتمتم باسمك الموزون، أحمل
للخيول البيض،
أشواقي الصحارية
و... لكني أجيء إليك، جئت إليك
مغلوبا على أمري".(19)
إن الشاعر لا يجد غضاضة في إعلان عجزه التام، وإقراره بتخليه عن أحلامه التي ناضل من أجل تحقيقها أيام شبابه:
"وتوارت زقزقات السنوات الشقر، خلف الجيل الأسود
من عمري الغوي
فأقمت اليوم أبياتي على أرض السلو الرحب
في جسم خلي...
وهجرت السين والسوف وأحلامي النبي..."(20)
وهكذا تتسرب مشاعر خيبة الشاعر وقلقه التي غذت عنده صور الاغتراب عن الواقع، والانطواء على الذات المتعبة، وهذا ما يفسر هيمنة الرؤى السوداء المبثوثة في ديوانه: "الحمى الترابية"، والنزف تحت الجلد".
إذ يقول:
"متعب بالبلاد التي طال فيها حنيني إليها،
مرهف من ترابها الذي صار في العين شوكا
وتحت اللسان حليبا وخبزا مريرا!
آه أيها البلد المترسب في القلب،
إني أموت اشتياقا لوجه الحبيب البعيد
المسافر عبر الضباب،
المولي خلال جبالك دون التفات إلى الخلف
يا... بلدي!
متعب بالبلاد التي أشتكيها،
بالبلاد التي جسدي صارها خارطه!"(21).
وتتضخم عنده هذه الرؤى السوداء لتبلغ مداها في ما يشبه إدانة "مازوخية" للذات العاجزة عن رد الفعل، وللإرادة المشلولة عن القيام بشيء يذكر حين يقول:
"ثدي أمي كان مسموم الحليب
وأبي باع إلى الله تهاويل الذنوب
فأنا من نطفة سيئة التكوين....والموت صليبي!
صوروني يا رفاق الليل، والحمى ويا أبناء أيام الجنون
واحملوا جثمان أيامي السكارى بالحنين.
شوهوا جثة أحلام شبابي وفتوني
وانبشوا قبر ليالي الثكالى والعنوني!
... تاه في غاب نجوم الليل... نجمي
وتولت ذكرياتي الذعر لم ترحم رياح الصيف والنوم." (22)
هكذا إذن أصبح الشاعر يستعجل موته بعدما أدان ذاته واتهم أصله ولم يعد يلوح له بريق أمل في المستقبل، ولذلك نراه كثير الارتداد إلى تعرية ذاته وانتقادها:
"يا سنو نوات أيامي في العصر الجبان
يا بروقا تتخطف الأبصار في لون الزمان
ها أنا أقبل من أقصى جحوري
حاملا للشعر هذا الصولجان،
دون أن أمحو عن جبهتي السمراء.... آثار الهوان
جبهتي قد دمغتها العتمة الرطبة في الأنفاق خطت فوقها
بعض السطور
... إنني أقبل كي أثأر من "جور الزمان"
حاملا تاريخي المر وجغرافيتي الشمطاء من دار لدار.
وغدا أحفرها في صفحة الأفق على كل جدار
... إنني أقبل موتورا وبي حقد على المريخ والزهرة والشوك
على أرجوحة الشمس على أنوارها الفاجرة الشقراء...
بي خوف من الليل... وبي شوق إلى الصبح المهان.
أنا ما جردت أوزاني ولا سيفي على التنين إذ هاجم
راوحت مكاني، غرقت في الأرض إلى الأعماق أستجدي الأمان!
... إنني أقبل من عصر مدان،
حاملا آثاره السوداء للعصر الجبان،
... وأنا، ها إنني أقعد مقهورا، فلم أثأر لأصحابي.
من غزو التتار
لم أزل عن أرضي السوداء آثار الدمار."(23).
إن إحساس الشاعر بالمرارة والمهانة كبير جدا، ومن ثم نجده كثير الاحتفاء برسم ملامح هذا الشعور في كثير من قصائده.
وهذا الإحساس هو ما يدفعه في النهاية إلى إعلان عجزه واستشراف موته:
"تتقصف أجنحتي الشمطاء
والعقد الرابع من عمري الوضاء
قد فاجأني،
وتسرب ما بين الأضلاع العجفاء
فتفتحت الأبواب الموصودة لمقبرتي... السوداء
... فلا جدوى من الإبحار خلف قوافل الطير على الأمواج،
فأقيا نوسها يمتد حتى آخر الدنيا،
وصوت الريح مبحوح وما من لمحة تعلن
نصر الفجر للحجاج..."(24).
إن الفرد المأزوم هو حالة طبيعية لمجتمع مأزوم، يعيش حالة استيلاب واستغلال وتفكك. وربما كان الإحساس الدائم بالخوف والتوجس من المستقبل هو المسوغ المباشر لكثرة الكوابيس التي طبعت رؤى علي الجندي، فهو يبدو مأزوما، متمردا، قلقا لا يرى بارقة أمل تلوح في أفقه المنظور.
ومما صعد الأزمة عند الشاعر وزادها اشتعالا، القهر الاجتماعي الذي يواجهه، وهو ما أفقده توازنه وثقته بقدراته على التحول والتطور. وفي هذا يقول:
"يا أهلي، يا زراع الزمن الملعون
لم يبق لنا في هذه الأرض العاقر مأمل
جفت أضرعها، هذي الأرض يا أهلي... غار الجدول
غاض الجدول
لم يبق لنا في هذه الأرض سوى الموت"(25).
إنه يبدو في هذا المقطع الشعري أشبه بالمريض الذي أصيب بداء خبيث، لا يشعر بجدوى المقاومة، بل ينتظر النهاية بين لحظة وأخرى، وهو ما يولد هذا الشعور باليأس أو الموت أو الانتحار.
ونجد هذه الرؤيا القاتمة عند علي الجندي نابعة من المعاناة والتوجس والشعور بالضياع وخيبة الأمل. وهذا ما يتضح في النموذج التالي:
"أيها الصوت الذي أسمعه في صمتي البدري ماذا حل بالليل القديم
أعشب الحزن على أرماس أحبابي، ولم يبق لحلقي من تخوم
وصبايا شعري الموتور تحيى حفلها بين النجوم
آه من حزني ما عاد إلاها... وجافتني همومي"(26).
وفي النشيد الثامن عشر يقول:
و"لي عينان تخترقان سر الليل... أحيانا،
وأحيانا أحس بأنني أعمى
وأن العالم الأرضي محتجب ويخفي الصبح عن عيني ألوانا
... ولي سمع يطال تهامس الأموات، يشعر نأمة الصمت
وأحيانا أكاد أحس أني ضائع بين الوجوه؟ وأن كياني
الإنسي مهترئ، وأن النار تأكله، وتلفظه، وأني
مائع أنثال تحت لسان عملاق ضبابي
وأن معالم الأشياء ضائعة،
وأن أحب أحبابي، ما كانوا سوى حلم سرابي
وأن تمردي الماضي على الأشباح... ما كان سوى تيه غرابي"(27)
هنا اعتراف صريح باللاجدوى، وتنكر لالتزاماته الماضية ولرفاق الأمس.
والمتصفح لديوان علي الجندي "الشمس وأصابيح الموتى" يلاحظ مدى سيطرة الجو الجنائزي المتعلق بالموت والرعب، والمتمثل في صور الجثت والجماجم والثابوت والقبر والأفعى والتنين والمخالب الصفراء... إلخ.
يقول:
"لا أعرف كيف أوزان جسمي في الحيز
والعنكب يقبع في آخر جمجمتي،
يغرز أرجله الشوكية في قاعدة الرأس
يشل تلفتي الصعب،
ويسكب سما في ظهري،
لا أدري، لا أدري..." (28).
يحس الشاعر أن العنكب ـ وهو ذكر العنكبوت ـ يستقر في الجزء الخلفي من مخه، وقد مدد أعضاءه إلى أسفل الرأس ثم الرقبة فالعمود الفقري. إنه شبكة من الأرجل الدقيقة، تبدأ من آخر الجمجمة وتسرح على الظهر وهي تغرز أرجلها في الأعصاب والشرايين لتفرز السم وتمتص الدماء، دون أن يقوى الشاعر على فعل أي شيء سوى إعلان عجزه التام:
" يا أمي الليلية ما أفعل
والريح غبار يتخلل جسدي،
يخترق تسكعي المهتوك،
وأجفل من ظلي في كل هنيهة!!
من أين أجيء بألفاظ نادبة غضة؟؟(29).
ولاشك ـ يقول أحمد بسام ساعي ـ " أن الحركات الأدبية المعاصرة في الغرب، ولاسيما الحركة السريالية، قد غذت عند شعرائنا ـ أو عند بعضهم ـ عنصر الاغتراب هذا، الاغتراب عن الواقع إلى الذات، كما غذت "عزلة" الشاعر وقلقه إزاء عصر المادة والعلم، إلى جانب السلبية الحادة التي يمارسها ضد المجتمع حينا، وضد نفسه حينا آخر."(30).
بذلك يكون علي الجندي قد ألقى بصوته الشعري داخل انهيار الزمن العربي الرديء ليكتب مرثية له، ويلتقط صور الفجائع والهزائم بكل تفاصيلها الغائرة في ضميره، وهذا ما قاده إلى محاكمة "مازوخية" للذات، ومن ثم بدأت تتمطى دائرة اليأس والألم والسخط العارم والشعور بالإحباط، حتى غدت موالا حزينا ينساب كالسيل في كل ما كتب من شعر.
 
 د. امحمد برغوت، أستاذ باحث في الأدب الحديث (المغرب)

الهواش

وفيق خنسة: دراسات في الشعر الحديث، دار الحقائق، ط 1، آب 1980، ص 85.
سعيد حورانية: من مقال له بعنوان "مرحلة الخمسينات والبحث عن زهرة في دغل الشوك" ملحق الثورة الثقافي، عدد 17، 1976، ص 13.
علي الجندي: "طرفة في مدار السرطان" منشورات تحاد كتاب العرب، دمشق 1975، "كان يا ما كان" ص 15.
علي الجندي: نفسه ص 19.
علي الجندي: نفسه ص 22.
من شهادة لمؤلفي كتاب: "الأدب والإيديولوجيا في سوريا" ص 231.
علي الجندي: "طرفة في مدار السرطان" ص 33.
علي الجندي: "النزف تحت الجلد" منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق 1978 ص 63.
وفيق خنسة: دراسات في الشعر الحديث، دار الحقائق، ط 1، آب 1980، ص 87.
علي الجندي: "الشمس وأصابع الموتى" منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق 1978، من قصيدة الحجر والماء، ص 19.
علي الجندي: نفسه، من قصيدة "نخب البشرى" ص 123-124.
أحمد بسام ساعي: حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه" دار المأمون للتراث دمشق 1972، ص 450.
علي الجندي: "طرفة في مدار السرطان" ص 19.
حنا عبود: "الرؤى السوداء في الشعر السوري المعاصر" مجلة المعرفة" السنة التاسعة عشرة، مارس 1980 ص 100.
علي الجندي: "طرفة في مدار السرطان" ص 15-16.
علي الجندي: نفسه ص 36.
علي الجندي: نفسه ص 12.
علي الجندي: الحمى الترابية" منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، بدون تاريخ، من قصيدة "النشيد الثالث" ص 16-17.
علي الجندي: نفسه من قصيدة" النشيد الأخير" ص 72-73.
علي الجندي: الحمى الترابية من قصيدة" النشيد السابع والعشرون" ص 68.
علي الجندي: "النزف تحت الجلد" من قصيدة له بنفس العنوان ص 7-8.
علي الجندي: "الحمى التراتبية" من قصيدة" النشيد التاسع" ص 29.
علي الجندي: نفسه ص 24-25.
علي الجندي: "الحمى الترابية" من قصيدة" النشيد السادس والعشرون" ص 65
علي الجندي: "الشمس وأصابع الموتى" ص 38.
علي الجندي: الحمى الترابية من قصيدة "النشيد السابع عشر" ص 45.
علي الجندي: نفسه ص 47.
علي الجندي: "الشمس وأصابع الموتى" ص 118.
علي الجندي: نفسه ص 120.
أحمد بسام ساعي: "حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه" دار المأمون للتراث دمشق 1978، ص 458.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟