يظل علمُ الجمال فرعا من فروع نظرية الأدب ، فلا حديث عن الأدب بمعزل عن الجمال ، بما هو فصيل فلسفي وترعرع تحت فيئه وتحت عريشه الضليل . ففي منتصف القرن الثامن عشر استقل علم الجمال بمنهاجه و مصطلحاته وعناصره عن باقي العلوم الأخرى . في مقابل ذلك ، فالجمال موجود في الطبيعة الحية و الجامدة ؛ في الإنسان و تصرفاته . ففي مستهل القرن التاسع عشر استطاع علم الجمال أن يحلق فوق باقي العلوم ، منشدا الحرية التي كان يتوق إليها ؛ بذلك حقق جزءا هاما من طموح القائمين بالشأن الأدبي والثقافي . علاوة على ذلك ، فنظرية الفن تضم ثلاثة أبواب كبيرة هي : الأدب و الرسم والموسيقى . إن علم الجمال كامن في الأدب ، وذلك عندما يربط الفن و بالواقع . أو عندما يصبح جمالُ الأدب صورة للواقع . ونتيجة لذلك ، أصبح لعلم الجمال تعريفٌ ذائع الصيت ؛ " هو علم جوهره الفن يتم عبره استيعاب وإدراك العالم بواسطة الإنسان" ؛ وبالتالي قد ألف ـ أي التعريف ـ بين مختلف التوجهات ، التي تهتم بعلم الأدب .
يغدو مدخلـُنا ، في ذلك ، فكرُ طه حسين . لا ضير أن نشير إلى الكيفية التي يتمظهر بها الجمال في فكر عميد الأدب ، حيث يقول هذا الأخير في " خصام و نقد " : " إن اللغة هي صورة الأدب، وأن المعاني هي مادته وإن صورة الأدب و مادته لا يفترقان ، أو هما شيء واحد ، إن شئت ، وأضف إليهما عنصرا ثالثا ، إن صح أن يستعمل العدد في مثل هذا الموضع ، هذا العنصر يلزمهما لزوما لا فكاك منه وهو عنصر الجمال " . وتأسيسا على ذلك تربع علم الجمال في الخطاب الأدبي ، بل لا تقوم قائمة الأدب من دون هذا الغطاء الجمالي ، الذي يلف مكوناته الإبداعية. فالجمال ، حسب طه حسين ، لا يكمن فقط في اختيار المعاني المناسبة والألفاظ الرنانة ، بل التوليف بينهما في انسجام تام . علاوة على ذلك ، فمن بين أهم مقومات الخطاب الأدبي ، عند عميد الأدب، هو عندما تـُلف كلٌ من المعاني والألفاظ في ثوب الجمال الفني ، حينئذ نتحدث عن الإبداع الحقيقي .
وفي سبيل ذلك فالجمال الفني ، إذن ، شأن داخلي في الخطاب الأدبي ، يتوسل اللفظة المناسبة والمعنى الأنجع داخل تصوير مميز؛ وهذا كله يسعى نحو تحقيق الهدف الأسمى من الأدب، ألا وهو : بلاغة الإمتاع . فمسار الجمال الفني في الخطاب القصصي يكتسي طابعا تشعُّّبيا ؛ بمعنى أنه يمتح ويتلون بمختلف التيارات الفكرية و النفسية و الأيديولوجية و التاريخيّة أيضا . لهذا السبب نجد تدرجا في الوعي بأهمية المقاربة الفكرية للواقع ، وفيها يسكن الجمال الفني ، كمقاربة تهدف نحو تحقيق الانسجام و التكامل في بناء المجتمع الواحد .
إن النسق الداخلي للقصة المغربية بالخصوص ، من حيث إنه موطن جمالها ، قد عرف تحولات جوهرية هامة ، خصوصا ما تعلق بالشكل و النسق الخارجي ؛ ففي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي ركزت جماليات القصة المغربية على ما هو خارج الذات الكاتبة ؛ ظروف اجتماعية ، سياسية ، نفسية ... إلخ . ومع حصول المغرب على الاستقلال تبوصِل الجمالُ الفنيُّ في القصة في اتجاه اقتناص هموم و مشاكل الذات المبدعة للحكي من الداخل . إن هذه الالتفاتة جاءت على شكل تسونامي حقيقي اجتاح العالم بأسره ، وكان للأدب المغربي نصيب منه . في هذا المسعى نجد أن القصة المغربية بدأت تفيد من العلوم الإنسانيَّة بمختلف مشاربها المعرفيَّة ، التي اقتحمت الخطاب الإبداعي عموما وجنس القصة بالخصوص . ومهدت لسمت واضح نحو اجتراح مواضيع ذات علاقة بجوِّانية الإنسان الحديث . فما كان للحلم و الرؤيا واللاشعور و الهو و الليبيدو ، إلا أن تطفوا كجزر عائمة و أرخبيلات فوق سطوح الإبداع .
إن هذا الصعودَ الصَّاروخيَّ للذات ، وهيمنتها على المحكي له مبرراته و مسوغاته . في مقدمتها صعودُ نجم الرومانسية في الأدب العالمي ، بما هي تبغي الكمالَ و الجمالَ في جوهر الإنسان وتخاطبه من الداخل . وتمحي صورته السلبية ، التي ألفقتها له الحربان الكونيان في القرن الماضي . فضلا عن تصوير جوهره ذي المنابع الطُّاهرة التي تصفوا عند الأشـُنَّة والغياض ، متعاليا بذلك عن جوهر الشر الكامن فيه . ونتيجة لذلك بدأ الإحساسُ و الشعورُ بثقل المسؤولية الملقاة على عاتق كاتب القصة القصيرة بالظهور . فما كان للتخطيط والتفكير و بلورة الإحساس ، كمكونات أساسية ، إلا أن تصبح جميعُها من صنعة الكتابة القصصية . فضلا عن ربط جسور الأدب عموما بالحياة و بالعالم و بالناس ؛ وتماشيا مع ذلك يظل البعدُ الرومانسي حاضرا في القصة القصيرة المغربية من خلال أعمال روادها . فالاحتفاء بالذات يكون نابعا من خلال بنية تلفظية تـُعنى بالضمير أكثر مما تـُعنى بالبناء ككل . ومنه يتم التداخل على مستوى الذات و الأخر ، إلى حد التواشج و التلاحم و الانسجام .
لكن الاهتمام بالذات لا يصفو معينه ، عندما نريد أن نعطي تعريفا جامعا مانعا للذات المتحكمة في وعي الحكي القصصي . فضلا عن أن مفهوم الذات ، فلسفيا ، ينحو نحو التقلب اللانهائي ؛ وبالتالي فهي عصية عن الاختزال و عن التنميط . في هذا الاتجاه سنجد أحمد بوزفور يخاطب الذات كما يخاطب الآخر في سيرورة تفاعلية ترمي بظلالها على القارئ . يقول في قصة " اللوح المحفوظ " من ديوان السندباد : ... ونزل من الباب الخلفي للكار ، وفي يده الحقيبة الجلدية الحمراء ... " إن الآخر ما هو إلا الذات الفاعلة بإسقاطاتها المعرفية و الثقافية والتاريخيّة والسيكولوجية . بهذا التداخل التلفظي بين الذات و الآخر تارة أو بين الذات و النحن أو بين الذات و الهُم ضمير الجمع الغائب تارة أخرى ، يزرع فتنة المحكي في سِدْرة المنتهى ، وتكتسي معه الحكاية جمالياتها الفنية و الدلاليَّة .
مما سبق يمكننا أن نقول : إن للحكي بؤرا متعددة ً ، بمعنى أن توصيفات الحكي تستقي فعاليتها ونجاعتها من عدة حقول معرفية ، تتراصف أمام الكاتب ، و يختار بعد ذلك المنهج المناسب والمعجم الشائق اللائق . ولكي لا يتشتت الخيط الناظم ، لا ضير أن نشير إلى عناصرَ إضافية تتوهج معها جمالية القصة ، وهي ذاهبة نحو بناء عالمها الخاص . يشير في هذا الصدد الكاتب المغربي محمد معتصم إلى ثمة مكونات ، لابد للقاص أن يتناولها ويدمغَ بها حكيهُ ، نقف عند أهمها و تمفصلاته ، التي تؤثر في البناء الجمالي العام للقصة القصيرة :
أـ بناء المحتوى ، و أثره في الصياغة الجماليَّة للقصة القصيرة :
إن الانتاج القصصي هو بناء و استراتيجية متفاعلة العناصر و المكونات . فلا يستقيم عودُ القصة القصيرة من دون الحوافز ، بما هي الوسيلة و الأداة التي تساعد على تنامي الأحداث ، وتسارعها نحو تأزيم جميع عناصر الحكي من شخوص و مكان و زمان . وفي هذا الإطار يشير الباحث و الدكتور حميد لحمداني في كتابه " بنية النص السردي " ، إلى أن الحوافز تقتضي الخضوع لمبدأ السببية ، و للنظام الداخلي ؛ وهذا من أكبر الروافد الجماليّة ، التي تضخ الحيوية والرشاقة في جسد القصة بصفة عامة . علاوة على ذلك فالحكي هو مجموع الأحداث المتداخلة التي تشكل الحكاية ، فالحوافز لا تزيغ عن اللغة و وظائفها . كما أن للزمن يد طولى في التأثير المباشر على تسلسل الأحداث في نسق و ناموس معين و خاص .
وفي هذا الإطار، فالتقيد بالزمن ، في الدراسات الحديثة ، أصبح غير مجد و غير ملزم للقاص. فأسطورة الزمن التصاعدي في الحكي أصبحت متجاوزة في التاريخ ، وتنأى عن الواقع الذي يفرض التعاقب فرضا طبيعيا. فكما أشار الباحث الشكلاني الروسي الكبير توماتشفسكي أن ثمة علاقة جوانيَّة بين تعدد الحوافز أو الحوافز المشتركة ، في المتن الحكائي ، و الرؤية الفنية ، التي يسعى إليها الإبداع عموما .
وفي المقابل نجد عند عالم البنيوية الفرنسي رولان بارث ارتباط الحوافز بالألفاظ و العبارات . وذلك من خلال البحث عن المعنى الثاوي في الخطاب القصصي . فالحوافز ، عند بارث ، تـُخلق من اللغة ومن الدلالات. فالتبئير ، حسب سعيد يقطين ، ينصب على المفردات لاستخراج الوظائف ، التي تقوم بها والحوافز التي يسعى إليها الكاتبُ .
ب ـ البناءات المساعدة لانفتاح جنس القصة القصيرة على الظاهرة الانسانيّة :
في ظل هذا التجاذب المعرفي ، حول بناء محتوى الإبداع القصصي بين مختلف المدارس والتيارات ، إلا أن هناك اتفاقا حول شيء مهم ، اعتبر كجسرٍ يوحد مختلف الروافد المعرفية ، التي تغذي الفكر الإنساني بعامة . فالجماليّة أو بلاغة الإمتاع تكون حاضرة و متحققة من خلال إقحام مكونات ذات صلة بالواقع ، تدخل في تناغم و باقي المكونات الأخرى . غير أن البناء لا يكتمل له صرحٌ إلا بالوقوق على البناءات العامة ، التي تسيج محتويات القصة القصيرة ، وترمي بها في أتون إثبات وجود الذات ، كجنس أدبي قادر على احتواء الظاهرة الإنسانيَّة . وفي هذا الصدد نشير إلى بعض هذه الأنواع في عُجالة ، ومن بين هذه البناءات التي تفيد المحتوى ، نجد :
1ـ البناء المنغلق : وفيه يكون القاص شديد الحرص على الاختزال و تقليص الهوامش المولدة للحكي و الفعل السردي ؛
2 ـ البناء المتفجر : ومنه ينطلق الكاتب لينسج عوالمه الخاصة ، و يتيه في دروب الإبداع . مفجرا العلاقات ، حيث تغدو القصة مشتلا للعديد من الاحساسات المتدفقة في سرد الحكاية ؛
3 ـ البناء المتشظي : وفي هذا الضرب تصبح القصة تعرف التشتت و التلاشي وعدم الانسجام بين مكوناتها ؛ وبالتالي تختزل على شكل لوحات فنية ، ينعدم فيها الترابط ، الذي يحفظ ماء النص القصصي.
إن لهذه البناءات الخارجية للنصوص القصصية لفعلا سحريّا في التأثير المباشر على تلقي القصة القصيرة بالمغرب. إذن ، فبلاغة الإمتاع لا تقف عند حدود الحوافز و الوظائف ، بل تتعدى ذلك لتصل إلى ما له صلة بالبناء الخارجي ككل . كما أن ربط المنتوج الإبداعي، بما هو واقعي شيء تثمنه التوجهات الحديثة في الإبداع القصصي، شريطة أن يتحقق الانسجامُ و التوافقُ بين مختلف المكونات الأخرى .
ومن الطبيعي أن يعي الإنسان دورَه في الوجود ، ومن الطبيعي أيضا أن يحتل الحكي جزءا كبيرا من تواصلاته اليومية . فإلى جوار ذلك فكل الأجناس الأدبية تجعل من الحكاية عمودها الأسنى ، وعليها تبني صرحها الوجودي . فلا تقوم قائمة الجنس الأدبي من دون هذا الملفوظ ، الذي يخيط لـُحمة السرد . فالحكاية تخترق القصة و الرواية و المسرح و السينما و الفن التشكيلي ... إلخ ، غير أن علاقتها بالسرد تظل ملتبسة . وبشكل مماثل ، فالحكاية تغتني بالرموز والإشارات ، و تجعل من الإبداع وصيدا مثاليا نحو تشكيل الواقع عن طريق الحكي . بالمقابل فالبناء السردي للمواضيع القصصية ، شديدة الترابط و الارتباط بالمتغيرات التي تطرأ داخل المجتمع ، وإذا كنا نتحدث عن المجتمع المغربي مثلا ؛ فإن مواضيع القصة راصفت التحولات التي مر منها المجتمع بُعيد الاستقلال . فهناك مواضيع تخص التاريخ (محمد الزنيبر ) في مجموعته " الهواءُ الجديد " ، وهناك مواضيعُ لها ارتباط بالرومانسية الذاتية (عبد المجيد بن جلون ) في باكورته القصصية " وادي الدماء " ، وهناك مواضيعُ ذات البعد الاجتماعي (محمد زفزاف) في مجموعته " بائعة الورد " و الشق السياسي كان للمرحوم (محمد غرناط ) في " داء الذئب " ...إلخ . هذه الفسيفسائية اغتنت بفعل الدراسات الغربيَّة ، وانفتاحها الدائم على تشكيل وعي جديد و مسجور بالتغيير نحو ما هو أفضلُ وأنجعُ