يضعنا القاص عبد الله بنعتو من خلال مجموعته القصصية" فاكهة للفم العجيب "[1] أمام مجموعة من التيمات والمواضيع المتنوعة التي تناولها بنوع من العمق والنضج النظريين. تَنَاوُلٌ يستفز القارئ ويجعله مستعدا لسبر أغوار هذه القصص شرحا وتفسيرا وتأويلا، وفَكِّ شفراتها وما تضمه من تيمات تعكس رؤية صاحبها وموقفه من القضايا المطروحة.
1- مقامات/ تَدَرُّجٌ في البحث عن الراحة والاطمئنان القلبي
يبدو من القسم الأول الذي عنوانه "مقامات" أن القاص يستعين بالتصوف في إبداعه، فهو يستثمر تخصصه باعتباره باحثا أكاديميا في هذا المجال. هذا التأثر يتجلى انطلاقا من التسميات التي أعطاها لقصصه من جهة، ومضمونها وطبيعة شخوصها (مقام النوم، مقام الفز ، مقام القفز، مقام الهز، مقام التلفة) من جهة ثانية. تسميات تحملنا على الحذر في التفسير والتأويل، فالقارئ عليه أن يكون مشاركا ويقظا إن هو أراد المسك بخيوط القصص والاستمتاع بما تطرحه وتتناوله.
لقد ظهر وكأن القاص يعيش حالة "جذبه" غايته فيها إشباع حاجاته، وتحقيق غاياته. يتدرج في مراحل كتابته؛ فغرضه هو البحث للوصول إلى الراحة، ودرجة الاطمئنان القلبي، مثل المتصوف الذي " يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة"[2]. لذلك نجده يغوص من خلال بعض شخوصه بحثا عن درجة الحلول الذاتي بكل الوسائل الممكنة:" – يا طيفي العزيز.. ها أنا أسرد سيرتك العطرة على مسامع أهلك من أحبابنا فوق دكانة بوطوبة.. يا سادتي، سواء كان الواحد منكم رجلا أو كان أنثى، أنتم تستطيعون العيش على الأرض الدنيا.. وهناك حيث يحتمل أن تعيشوا.. اعلموا أن عيني لم تعودا تريان لكثرة شوقهما إلى رؤية الطيف.. فولدته من جديد من حروفي وكلماتي.. ووضعته على ورقات كتيب عظيم الشأن"[3].
إن حاجة الذات إلى الهدوء والراحة ظهر انطلاقا من القصة الأولى المعنونة ب"مقام النوم" حينما ارتمت شخصية "اللاوي" بحثا عن الهدوء والراحة في حضن الضريح رمز الحنان والأمن والأمان: " خيم الظلام على دروب الحي. همَّ اللاوي بالعودة إلى الضريح للمبيت فيه، عودته إلى حضن أمه الحنون. نزع خفيه ووضع جلبابه تحت خده الأيمن وتمدد في هيأ نائم غير صامت فوق المحمل"[4]. هذه الحَاجَةُ أقلقت الشخصيات، ودفعتها إلى اتخاذ قرار ضرورة إحداث التغيير، وعدم التقوقع بحثا عن الصفاء والراحة إن بطريقة أو بأخرى. وهو ما عَبَّرَتْ عنه إحداها في قصة " مقام الفز": " أنا شخصيا قررت أن أغير بعض قناعاتي، وأن أراجع بعض أفكاري، وبالمناسبة سأقدم درسا افتتاحيا حول تاريخ الأرض وتاريخ المخطوطات العربية بين النادر والغابر، فور مجيء العام الدراسي الجديد"[5]. هذا البحث عن التغيير لدى شخصيات القاص عبد لله بنعتو له ما يُبَرِّرُهُ؛ فهي تظل تعيش انشطارا وقلقا داخليا يظهران لها حتى في أحلامها، مثل ما هو عليه الحال في قصة 'مقام القفز': " على غير العادة تكرر غياب المعايزي، وأصبح موضوع أسئلة أقلقت بال زوجته.. هرعت إلى غرفة نومه.. طرقت الباب.. لم يسمعها.. لكنها سمعته يغني..(..) آش داك تمشي للزين.. والزمن يغلبك في الحين.. آلمعايزي تأخرت عن السوق.. " المعايزي مندهشا من عرقه وكأنه انتهى للتو من معركة " "[6]. كما أن هناك من الشخصيات من اختارت أن تَتَحَامَقَ، وَتَدَّعِيَ الجنون والخروج عن الإرادة في ظل وجود عالم مشوه فيه الكثير من الضجيج والإزعاج. وهذا ما يعبر عنه المقطع الحواري المأخوذ من قصة 'مقام الهز':
"- معلوم، السيد ما فيه والو ! كانوا يقولون إنه أحمق وأنه يضرب الناس بالحجر.
قال أخي:
أبدا أنا يبدو لي أنه يتحامق لينجو بنفسه من تلك الدار(...)
- دخلوا سوق راسكم أنا مجنون ومعي الأوراق"[7].
ويظهر حسب هذا المقطع، أن ادعاء الجنون غايته تحقيق الهدوء والصفاء وعدم الإزعاج، حيث اختارت الشخصية الصمت قهرا وفرارا من عَالَمٍ مُدَنَّسٍ تُزَوَّرُ فيه الحقائق.
ومن الشخصيات من ذاق بها الحال من شدة المعاناة فَصَدَّقَتْ بأن الأحلام والطموحات يمكن أن تُسَاهِمَ في وجود تغيير ونفع عليها. فتضيع في زحمة الأفكار، وتختلط عليها الأمور والمواقف، فتحس بنوع من "التلف" كما في قصة 'مقام التلفة' :" ربما نولد جميعا بوجه واحد، ثم نجد أنفسنا بعد ذلك نضحك ونبكي، كلما كبرنا وكلما تقدمت بنا السن.. ويبقى بعد ذلك السؤال: متى نضحك؟ ومتى نبكي؟ وهل نفكر قبل أن نطلق ضحكة أو نذرف دمعة؟ كثير من المواقف المبكية يضحك لها الناس، وكثير من المواقف المضحكة تبكيهم.. وهذا هو الفرق بيني وبينك.. وبين الناس."[8]
لقد أَصَرَّ الكاتب في قسمه الأول "مقامات " على أن تعبر الشخصيات عن نفسها بنفسها، وتتحدث إلى بعضها البعض في شكل حوار عبرت من خلاله كل شخصية عن نفسها، وهو ما أعطى نوعا من الجذبة والتفاعل والتناظر والتبادل والتجاذب، وجعلها وكأنها تمارس نقدا خفيا لسلوكات بعضها وتصرفاتها وأفعالها. فأسهم كل ذلك في تصريف وجهة نظر القاص من القضايا المجتمعية المطروحة بطريقته وأسلوبه الخاصين.
2-تنويعات/ تشظي وخوف وفراغ وعدم استقرار
حاول الكاتب في القسم الثاني المعنون ب "تنويعات" التعمق في تناول تيمات ومواضيع أخرى تطرق لها بنوع من التفرد؛ بلغة إبداعية تخييلية خرج فيها عن الواقعي الصرف، فزاوج بين ما هو واقعي وعجيب وغريب خدمة للإبداع: " فلا يمكن إنجاز عمل مفصول عما هو واقعي، كما لا يمكن للكتابة أن تكون إبداعية، وتحقق درجة من الأدبية، إلا بمدى تورطها في التخييل والوصف والخلق الأدبي"[9] .
بدأ في هذا القسم بقصة تحمل عنوانا مثيرا يميل إلى الرمزية والإيحائية هو "فاكهة للفم العجيب". فَتَحَوَّلَت بموجبه شخصية المرأة إلى فَاكِهَةٍ يَعْسُرُ هَضْمُهَا في اللحظة التي لم يتم تقديرها وإعارتها الانتباه، وهو ما يتسبب في شعورها بالإحباط والمعاناة: " يا صديقتي ما قيمة الجمال والشباب، إذا انحبس بين جدران متهالكة.. يكتفي.. بالغسل والطبخ وتبليغ ما وقر في القلب.. ولا يتنفس إلا ما يشاع حوله من قتامة واختناق؟؟"[10].
ورغم أن الرغبة في التغيير والتنقل وعدم الاستقرار في المكان الواحد كان بارزا عند الكثير من الشخصيات هربا من الواقع المرير المليء بالإزعاج والفوضى، إلا أن منها من تحاشى الاغتراب: " أنا لا أريد الفر من هذه البلدة.. لا أبحث عن الاغتراب لكرهي فكرة الذهاب إلى مكان آخر لتجزية الوقت برؤية من لا أعرف.. أشعر بالأحرى أني امرؤ يريد الاستقرار في مكان ما، من عين الشمس، لكني لا أصل إليه بالفعل..أحب غرس الأشجار في هذه العرسة ولي غرس نفسي في كذا مكان"[11]. هكذا، حاولت الشخصية المحافظة على جذورها بغرسِ أشجارٍ مُعَبِّرَةٍ عنْ وجودها وكيانها. غَرْسٌ معنوي غايته في إظهار التشبث بالمكان وبالحياة رغم قسوة الظروف التي تحول دون تحقيق أمانيها وطموحاتها.
ويحدث أن تعيش الشخصية نوعا من اللاستقرار؛ ذلك أنها الذكريات لِتَخْتَلِيَ بنفسها، وتدخل في حالة من التذكر والاسترجاع، فتعيش الْقَلَقَ والْخَوْفَ والاِنْقِبَاضَ بسبب هاجس تحقيق النزوات والأحلام والطموحات " منقبض النفس منكمشا، أسند رأسه بكفيه، ورحل في جولة استرجاع تفاصيل مضت واستحضار أخرى قادمة.. الحياة مدهشة، صحراء مخيفة دون خرائط للروح والجسد؛ كان صعبا أن يعيشها دهشة بدهشة.. فقرر أن يملأ خلاءها بالحكي.... فحكى"[12] . ولعب الحكي بذلك دورا في خروج الشخصية من مأزقها ، وما يعتمل صدرها من غضب وانقباض.
واستمر هذا الفراغ المهول في قصة "نفث الثعبان"، فبرز الإحساس المخيب للآمال وعدم الراحة: " كانت لا تنام.. يدركها الفجر فتشعل التلفاز لتؤنس السمع والبال ولتخلق ألفتها الفقيدة.. مندهشة في ذهول حضاري، وتكرر على مسمعيها: ' إن أكثر ما يؤرقني أن أشعر أن الأشياء هنا رمادية وبياضها القليل مشوب بكل الألوان الداكنة.. تلك النوافذ المغلقة دائما لا ينبعث منها النور، فقدت دورها جراء العيون المتلصصة خلفها' "[13]. الشيء الذي يعني أن الشخصية تعاني من وحدة قاتلة، وأرق، وضيق، وفراغ، وظلام دامس الذي لا ينقشع منه النور.
وفي قصة " النوم تحت الماء " تُطِلُّ علينا شخصية الشارعي التي تُجِيدُ الغطس في الماء، شخصية تُفَضِّلُ العيش في الماء: " لا سيروا أنتم.. أنا سأبقى هنا، داخل الماء، الماء دافئ حنون ولذيذ.. لم أشعر بلذة الغطس العارمة قط مثل هذا الوقت، اتركوني الآن سألحق بكم.."[14]
وهذا الغطس يبدو رمزيا، ذلك أن الشخصية تغوص في الماء بحثا عن ذاتها، وعن الأمن والأمان، والدفء المفقود في اليابسة إلى درجة أنها ترفض الخروج من الماء الذي يذكرها بالواقع المدنس، فتصير بذلك مختلفة عن الآخرين.
3- ثنائية الكاتب/ الناقد
يُصْبِحُ الإلمام الجيد بقواعد الكتابة الأدبية، وامتلاك المقومات الفنية والمعرفية والمنهجية النقدية عائقا عند الكاتب/ الناقد في بعض الأحيان. فكل الميكانيزمات التي يمتلكها هذا الناقد الذي يتحول إلى كاتب -كما هو الحال بالنسبة لعبد الله بنعتو- تظل تطارده، إذ يجد نفسه بين نارين: نار الكتابة، ونار انتقاد ونقد الكتابة التي يكتب في نفس الآن . تخنق هذه الازدواجية -في نظرنا- العمل الإبداعي، فتحجب عنه أهم ميزة في الكتابة، والمتمثلة في الانسيابية وترك المجال للإلهام كي يَفْعَلَ فِعْلَهُ، لنجد أنفسنا أمام مولود طبيعي خرج دون عملية قيصرية. وعلى ما يدو من المجموعة القصصية فإن الكاتب حاول استثمار هذا المعطى لصالحه بأن جعل السارد والشخصيات تمارس نقدا؛ فتفسر وتشرح وتحلل وتؤول إن بطريقة أو بأخرى، وتمارس نقدا لسلوك الذات وتصرفاتها كما هو الحال في المقطع السردي " ستهرب بنفسك إلى نفسك.. مع أنه لا أحد يستطيع الانفلات من مثل هذه المشخصات.. ومع ذلك، لقد بدأ يخامرني في ما يقع لنا في النزل.. فقبل مجيئي إليك أردت أن أقيد بعض الحوادث التي بدت لي شاردة في حرية غامضة.. فرفض القلم الكتابة، وكأنه لم يكتب من قبل وفق سجيتي التاريخية.. فكسرته وحين عدت إلى وريقات الأمس أقلبها لأنقح ما كتبت لم أفهم شيئا، وكأني لم اكتبها بيمناي".[15] وتنتقد الآخرين بغية إيجاد إيجاد تفسيرات ممكنة: " طيب لنطبق أولا ما اتفقنا عليه منذ اللحظات الأولى لتعارفنا، نحن معا وجهان لحالة مدنية واحدة، وأنا شخصيا عندي اسم طويل جدا، لاحظت أنه يصعب على الناس مناداتي به، وإن اختصروه لا ألتفت أو يلتفت معي شخص آخر، هو أنت.. لذا فقد رضيت لنفسي أن اسمي في كل المحافل " سلام الدغولي" "[16]
هكذا، اتضح أن الكاتب يشرع في تأويل كل صغيرة وكبيرة من حركات وتصرفات وأفعال الشخصيات التي يخلقها، والأماكن التي ترتادها؛ وكأنه يوجه القارئ المتلقي، ويحدد له مسارا يريده هو . وزاد عن ذلك بأن نَهَجَ غُمُوضاً غايته جعل المتلقي الواعي يتعب في التفسير والتأويل وبذل الكثير الجهد حَتَّى يَفُكَّ شفرة كلمات كان بالأحرى التعبير عنها بمثيلاتها البسيطة والعميقة المعنى. كما أنه على الكاتب أن ينسى في مرات كثيرة ما يملكه نقديا، وأن يغوص في كتابة إبداعية، يَسْتَسْلِمُ فيها للحظة الإبداع دون خَوْفٍ أو وَجَلٍ نازعا لباسه النقدي. وهو بذلك، سيترك الفرصة لشخصياته كي تتصرف على سجيتها بما تحمله من رؤية صاحبها. وسيخفف عن ذاته الإبداعية الكاتبة فتقول ما تشاء بأي أسلوب تشاء. حرة في انزياحاتها ومجازاتها وألغازها دون أي تدخل من ذاته الناقدة.
الهوامش:
([1]) بنعتو عبد الله، فاكهة للفم العجيب، دار أبي الرقراق للطباعة والنشر، ط:1، 2016
([2])عبد الرحمن بن خلدون: مقدمة ابن خلدون - دار ابن خلدون بالإسكندرية. ص 328
([3]) فاكهة للفم العجيب، ص 64.
([4]) نفس المصدر، ص 29 .
([5]) نفس المصدر، ص 40 .
([6]) نفس المصدر ، ص 47.
([7]) نفس المصدر، ص 53
([8]) نفس المصدر، ص 61.
([9]) حليفي بوشعيب، مكونات الخطاب الفانتاستيكي، دبلوم مرقون، كلية الآداب، الرباط، ص30 . نقلا عن بنعتو عبد الله، مقدمة للخطاب الصوفي المغربي الحديث قضايا في المنهج والرؤية، مطبعة الأمنية، الرباط، 2008، ص 63.
([10]) نفس المصدر ، ص 80
([11])نفس المصدر ، ص 91
([12]) نفس المصدر، ص 104.
([13]) نفس المصدر، ص 107-.108
([14]) نفس المصدر، ص 118
([15]) المصدر نفسه، ص 38.
([16]) المصدر نفسه، ص 34.