تأتي هذه المقالة في إطار الاستمرار في البحث ومتابعة مقالتي السابقة: نبوءة الشاعر، تلك التي بنيت طرحها على ثلاثة أسطر من شعر السياب والنواب. وسأحاول في هذه المقالة تتبع خيط الفكر الثوري وملامحه عند شاعر يعتبر بإجماع أهل الأدب أعمق جدر لدوحة الأدب في تربة الثقافة العربية. إنه كما اتفق على تسميته "الملك الضليل" الذي أضاع ملك أبيه، بل وذهب البعض إلى اعتباره واحدا من صعاليك الشعراء في العصر الذي سبق ظهور الإسلام. ولكنه في الحقيقة الخفية ـ كما سنرى ـ قد كان ثائرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لقد كان جيفارا عصره إن شئنا القول. وسأتتبع في هذه المقالة ملامح التوجه الثوري عند الشاعر الكبير امرئ القيس، وذلك من خلال أبيات قليلة فقط، ولكن طبعا مع إسقاطها على ظروف حياته والوضع العام ـ اجتماعيا وسياسيا ـ الذي طبع تلك المرحلة .
يحمل لفظ "ثورة" مدلولات مكثفة ارتبطت أغلبها بالحركات الاجتماعية والسياسية التي ميزت القرون الأخيرة، لعل آخرها تلك الثورات التي حركت العالم في القرن العشرين، نتحدث هنا عن الثورات ذات المرجعية اليسارية، الماركسية ـ اللينينية، ابتداء من ثورة أكتوبر ومرورا بثورة ماو تسي تونغ فكوبا إلى أن اكتسح المد الأحمر أجزاء من العالم قبل أن يتقلص ويتخلى عن مواقعه منذ سقوط جدار برلين. وحتى مفهوم الثورة عند كارل ماركس قد ارتبط بثورة باريس سنة 1848 أكثر، وإذن فالثورة لا يمكن فهمها أو مجرد الحديث عنها إلا وسط حراك فعال، وإنها بالضرورة ترتبط بالتنظير (العمق الإيديولوجي) والفاعلية (حركية الشارع). من هذا المنطلق واحتكاما لظروف المرحلة والعصر حيث عاش امرؤ القيس يمكننا القول بأنه كان منظرا ثوريا بقدر ماركس وإنجلز من جهة، كما كان فاعلا مثقفا بقدر غرامشي من ناحية أخرى. وإليكم السبب الذي جعلني أرتاح لمثل هذا الحكم.
جاء على لسان ماركس في رأس المال:" أن كل ثورة تلغي المجتمع القديم هي ثورة اجتماعية , وكل ثورة تلغي السلطة القديمة هي ثورة سياسية" هذا وقد ارتبط مفهوم الثورة بالتغيير العقدي أيضا، كالثورة البروتيستانتية في الكنيسة المسيحية الغربية، لأنها وإن لم تلغ الكاثوليكية كلية، فقد اقترحت، بل وضعت بديلا لها. وهكذا فكل حركة اجتماعية أو سياسية لا تبتغي تغيير بنية المجتمع ببنية بديلة أخرى لا يمكن اعتبارها ثورة، بل مجرد حركة ثورية، ومن هذا المنطلق فإنه وإن لم يكن بوسعنا اعتبار توجه الشاعر امرئ القيس الديني المستهتر بعقيدة مجتمعه الوثنية ثورة دينية، فإنها تسمو لتكون عصيانا وتمردا يمهد لثورة دينية سيقودها محمد بن عبد الله بعده بمائة سنة ونيف، والحديث هنا عن تلك الحادثة التي جمعت الشاعر بصنم يدعى ذي الخصلة حين كان ذاهبا في طلب الثأر لوالده فاستقسم بقداحه وهي ثلاثة (الآمر والناهي، والمتربص)، ولما خرج الناهي ثلاثا جمع القداح وكسرها على وجه الصنم فقال لو كان أبوك قتل ما عقتني. إن فعل ضرب الصنم يحمل رمزية كبرى تحمل بوادر ثورة دينية، ودعني أسألك: ما الذي فعله محمد عليه السلام في بداية دعوته؟ لقد كسر الأصنام، وإذن يمكننا القول بارتياح إن امرئ القيس وإن لم يدون نظريته الثورية في كتاب(لأنه ابن ثقافة شفهية) فإنه قد سطر في سيرته وشعره خطوطها الكبرى ومهد الطريق للثورة الدينية. وبعد ذلك يمكن أن نفهم كيف تبلورت من بعد فكرة:
أرب يبول الثعلبان برأسه؟ * * * لقد ذل من بالت عليه الثعالب.
ربما يقول البعض إن الاستهتار بالوثنية كان معروفا عند العرب، وأنا أوافقه على ذلك، ولكن لا يجب أن ننسى أن الشاعر ليس ككل الناس، إنه مثقف عصره وترجمان أفكاره، بل وصائغ قيمه، ولتعرف قيمة امرئ القيس الثقافية لا تنظر إلى رفعة شأن معلقته، أو مرتبته بين فحول الشعراء، بل إليك ـ أكثر من ذلك ـ اعتراف من النبي عليه السلام، إذ إنه لما ذُكِر عنده امرؤ القيس قال: ذلك حامل لواء الشعراء إلى جهنم، ولا يهمني هنا وِجهة حامل اللواء هذا بقدر الاعتراف بزعامته للشعراء، ولأن الشاعر مثقف عصره خاصة آنذاك، فهذا اعتراف بأن امرأ القيس قد خط النهج (مُنَظِّر) الذي سار على دربه بعده الشعراء(المثقفون) والناس جميعا، ومن ذلك اتباع منهجه الديني البديل (الإلحاد).
وبعيدا عن العقيدة والدين، إن الشاعر قد عبر مرارا عن رفضه للواقع الذي رسمه في صورة ليل جاثم على الصدور:
وليل كموج البحر أرخى سدوله.... علي بأنواع الهموم ليبتلي
وحتى ولو أن المستقبل القريب يتبدى له غير مُطَمْئِن، فإنه استعجل قدومه في:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وهذا الواقع أقلق الشاعر/الأمير، فتاه بفكره لا يتسقر على حال:
مكر مفر مقبل مدبر معا.... كجلمود صخر حطه السيل من عل.
لقد ذهب النقاد إلى ان الشاعر يعبر عن تجربة ذاتية في الليل، وأنه لاقى ذئبا في واد قفر ( ومن هنا يأتي تصنيفه ضمن الصعاليك)، وأن صوره الشعرية بسيطة بساطة الحياة البدوية، وأن بيته الأخير لا يعدو أن يصف الفرس في طراده للصيد، ولكن ـ في رأيي ـ ما هذا إلا نتاج قصور نظر. إنما العير والذئب والفرس والصيد وسائل اعتمدها الشاعر لتقديم لمحة عن نظريته الثورية. فالليل المظلم ما هو إلا واقع العرب ورمز إليهم بجوف العير، وما الذئب إلا الأعداء المتربصين من الشرق (الفرس) والغرب (الروم). وهو يمازحهم بديبلوماسية ليخبرهم أن ليس في الجزيرة ما يُغنم
فقلت له لما عوى إن شأننا.... قليل الغنى إن كنت لم تزود
أليس هذا هو الناطق باسم الجماعة؟... إن هذا التداعي سيقودنا إلى كون امرئ القيس قد سئم واقعه وامتلكته رغبة التغيير، وإذن فقد نظَّر لثورة اجتماعية وسياسية، ولا يجب فهم معنى هذا الكلام بعقلية القرن الحادي والعشرين. ثم إنه يجب الأخذ بعين الاعتبار كونه شاعرا لا فيلسوفا، ولغة الشعر تعتمد على الكثافة والإيحائية، ولذلك يجب رصد معالم الثورة بإعمال الخيال الأدبي. ولأن الثورة هي عملية تغيير جذري تقوم على إزالة كلية وشاملة لكل رواسب الماضي، فإنها تحضر عند شاعرنا في صورة سيل عارم يجرف كل شيء ويطهر كل شيء، سيل/ثورة تتضح معالمه من شرارات البرق/الفكر الثوري اللامع من بعيد، وهو يدعو أقرانه لتلمس الروح الثورية التي تتفتق عنها تربة المجتمع العربي:
أصاح ترى برقا أريك وميضه.... كلمع اليدين في حبيي مكلل
ويستمر في توقعه لنزول المطر العنيف، الثورة الذي سيطهر الواقع متنبئا بذلك متخذا صورة راهب يوقد مصابيحه لاستنزال الوحي"
يضيئ سناه أو مصابيح راهب.... أمال السليط بالذبال المفتل.
وحتى عمل الراهب المقدس يقوم على صب الزيت وفعل الحرق، وفي عصرنا سنسمع الثائر يقول: إن لم تحترق انت ولم أحترق أنا فمن أين سيطلع النور؟
يقف الشاعر عند واقع مظلم حجبت السحب أفقه غير يائس بل منتظرا بيقين مجيئ المطر المطهر، فيقف متفرجا على المنظر:
قعدت له وصحبي بين ضارج وبين العذيب بعد ما متأملي.
أرأيت؟ إنه يمارس عمل الفيلسوف، إنه يتأمل رؤيا انفرجت لبصيرته الحادة، يرى بلاد العرب وقد جاءتها سيول التغيير التي لا تبقي ولا تدع من النظام القديم إلا المتين منه:
فأضحى يسح الماء حول كتيفة.... يكب على الأذقان دوح الكنهبل.
وهذه الثورة / السيل، إذ تأتي فإنها لا تستثني شيئا ولا أحدا، حتى كبار القوم/ القنان.
ومر على القنان من نفيانه.... فأنزل منه العصم من كل منزل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة.....ولا أطما غلا مشيدا بجندل
بهذا يمكننا أن نخلص مرتاحين إلى أن الشاعر امرأ القيس لم يكن يعبر عن تجربته الشخصية، ولكنه كان مهووسا بواقعه الاجتماعي، ولأنه كان أميرا ضاع منه عرشه، فقد كانت له رؤية ثاقبة في السياسة، ولما لم يستطع استرجاع مجده، فقد دعا إلى تغيير النظام تغييرا جذريا لا يقوم فيه التليد البالي.