على عتبة العنوان :
--------------------
" زرتك قصب .. فلّيت ناي " هو عنوان الديوان الأخير للمبدع " جوزف حرب " ، وهو عنوان يغيّب انتباهة المتلقي بتماسكه الجمالي المحكم .. بحركة المفارقة التي تتشكل على عملية التضاد بين القصبة الجامدة الصماء وآلة الناي الصادحة الناطقة . وكأن عملية " إحياء " جديدة تحصل على يدي المحبوب الذي " نفخ " الروح في جسد الشاعر ما أفتتح به مولانا جلال الدين الرومي عمله الرائع " المثنوي " من حديث فلسفي رائع عن الناي : ( أصغ إلى الناي واسمع ما يحدثك به . ما ذلك الشيء الذي يصدر عن الناي فيستبد بنفسك ، ويتخلل وجدانك ؟ " . ثم يعطينا مثالا : الناي ، تلك القطعة من القصب التي قُطعت من أصلها ، له قصّة يريد أن يحكيها . إنه مجوّف ، قلبه فارغ ، لكنه إلى جانب هذا الفراغ ، صُنعت عدة ثقوب إلى قلبه ، على نحو يكون في مقدوره أن يقدم كل النغمات التي يُراد أن يصدح بها من أدنى النغمات إلى أعلاها . ثم يمضي الرومي قائلا : " ولكن ما هذا الناي وأين مغنّيه ؟ " إن الأول تحت شفتي المعشوق ، والآخر يغني للعالم خارجا .
وفي تلك النقطة يترك للإنسان أن يحل اللغز ، وفي تلك النقطة قدم صورة للإنسان ، الإنسان عود خيزران فُصل عن أرومته : تلك الأرومة كلّ تام ، والعود ناقص . وقد جعلت الحياة ثقوبا لقلبه يمكن أن تعزف كل الأنغام : ومنذ أن تُصنع الثقوب تبدأ في إصدار الموسيقا التي تستحوذ على أرواح الناس . وبالإضافة إلى مثال الناي هذا ، ثمة قصيدة للرومي غاية في الروعة : " كثيرون غدوا أصدقاء لي بوساطة الحب ، لكنهم يجهلون فيّ هذا الذي يجعلني قريبا منهم ، ولو أنهم عرفوا هذا وحده ، لحلوا مشكلة الحياة كلها " . ولكن ماذا يريد بهذا ؟ يريد أن يقول إن ما في القصبة من تجويف وفراغ هو الذي يجعلها أقرب إلى شفتي الحب الإلهي . وتلك هي حال قلب الإنسان : قلب الإنسان هو ناي الله ( جلّ وعز ) ، وهو يلامس شفتي المولى سبحانه حين يكون فارغا . ومادام غير فارغ ، فإنه لن يلامس شفتي الله ) (2) .
لكن ناي جوزف حرب يلامس شفتي الله وهو ممتلىء طافح بالحب .. حب التراب والعصافير والزيتون والبحر والريح والشعر والجسد الأنثوي المبارك .. قلبه ممتلىء دائما بهذه التمظهرات الكونية والطبيعية الباذخة . لا يمكن لشاعر مثله أن يبقى فارغ القلب منتظرا لحظة الإلتحام الصوفي التي تتطلب استعدادا وطقوسا وتخليا عما هو يومي مكرر ومبتذل . في هذا اليومي تختنق روح جوزف بالمحبة الغامرة . بالعشق الأرضي يتخم قلبه .. وقلبه هو نايه .. ناي الشاعر قلبه .. والثقوب التي فيه تصنعها يد الشعر الكريمة .. فيتحول من قطعة عضلية متشنجة إلى ناي كوني .. يصدح بأنشودة الحياة والعشق . هذا العشق هو الذي أحاله من قصب .. جسد مادي عابر .. إلى ناي .. إلى روح تغني رغم الجراح والخيبة . إلى صوت قادر بـ " مؤشره " الحساس على التقاط معاني وإيقاعات اصوات المكونات الحية الأخرى . كم مرة سمعنا صوت العصفورة ولم نكن قادرين ابدا ، بفعل صدأ الرتابة الذي يخيّم على حواسنا ، على اكتشاف ما يكتنزه هذا الصوت من معان سماوية جسيمة . يرى البوذي العالم أحيانا متركزا في حبة رمل .. وجوزف يرى العالم متركزا في صوت العصفورة .. حتى جلال قدرة الخالق يتمظهر في هذا التعبير الجزئي الذي لا نلتفت إليه :
( في صوت عصفوره ْ
عشيي بسمعو
سبحان ألله شو حلو ! متل
الكأنو صوت رحْمِي
بأرض
مهجوره ْ
نغمات أنقى من الصلا ، والعين
نزلِت
دمعتا
والروح مكسوره ْ – قصيدة عصفوره ، ص 43 و44 ) .
هذا الإنفعال المسرف ليس مذموما ولا فائضا .. هو انفعال ضروري للإمساك بما أسميه بـ " اللحظة الفائقة " التي هي اللحظة التي تتركز فيه أقصى قوى النفس للإلتحام بظاهرة جزئية واستخراج أقصى ما فيها من تجليات وإيحاءات حسّية وروحية .. هذه اللحظة الفائقة تحصل مع اليومي العابر لا مع المطلق .. وهي التي تجعل عيني الشاعر تغرورقان بالدموع .. دموع خشوع مهيب في حضرة مخلوق صار خلاصة لروح الخالق وجبروته . أولئك الذين يفرغون قلوبهم كي تلامس نياتهم الداخلية شفاه المولى لا يصلحون أنموذجا يقاس عليه بالنسبة لجوزف حرب .. إنهم يعتزلون العالم كي يصلوا إلى الله .. وهو يصل إلى الله .. بل يراه في كل ما حوله . إنه ليس بحاجة للتطهير الذاتي وفق منهج حرمان متطاول وقاس .. إنه يتطهر بصوت العصفورة ويتخفف من آثامه :
( بتمحي الخطايا السود إنّك تسمعا
بتشفي الصدر من البغض
لا بتضلّ طمّاعه
ولا مغروره ْ
في صوت عصفوره ْ
كأنّا
الأرض
مسحوره ْ – ص 44 ) .
ليست الثقوب التي صنعها الحب في جسد الشاعر – القصبة .. قريبا من قلبه .. هي التي جعلته يشعر بمعان صوت العصفوره وإيحاءاته التي لا نستطيع أن نمسك بها نحن الناس العاديين .. فأحالته إلى ناي يصوّت بالجمال .. على العكس من ذلك .. الحب هو الذي رتق ثقوب روحه .. وخاط تمزقاتها .. لحظة الإحساس .. أو القدرة على الإحساس بأن الله ليس موجودا فوق بل هنا في " الأسفل " .. القدرة على البحث عنه في ما يحيط بنا من جزئيات أهمها حضرة الأنوثة المهيبة التي لا أعلم لماذا يفرّ منها المتصوفة ويستبدلونها بجمال الصبيان حيث يوصي بعضهم بعضا بأن يصطبح بوجه فتى مليح حين يكون راقدا في المسجد !! .. ولا يمكن إدراك سرّ انفعال الشاعر الهائل بصوت العصفوره من دون أن نمسك بالتمظهرات الرمزية للأمومة التي سنتحدث عنها قريبا .. عصفورة جوزف حرب التي شعر أن صوتها أنقى من الصلاة .. أنزلت دموعه وكسرت روحه هي رمز الألوهة المؤنثة .. هذا الصوت فجّر في لاشعوره كل الرغبات المجهضة في الإلتحام بالرمز الفردوسي الأول .. هذا الصوت هو صوت الله :
( ومن كتر ما هوّي سماوي صوتها
بتظنِّ في
آيي
ع َ خيط الصوت
محفوره ْ
وبتحسّ إنّو بهالمسا من كتاب
ألله
واقعه
سوره ْ
وهديِتْ على
منقار عصفوره ْ – ص 45 ) .
التثبيت الصحي على الأمومة المباركة :
------------------------------------
إن هذا التمظهر الرمزي للأنوثة عموما والأمومة خصوصا ، لا يمكن فهمه إلا عن طريق ملاحقة الكيفية التي " ينقل – displace " فيها اللاشعور مواضع رغباته من هدف إلى آخر .. من موضوع حب – love object " إلى موضوع حب بديل . ولنأخذ التعبيرات الرمزية للحضور الأنثوي وأيسرها وأكثرها شيوعا الشجرة .. في قصيدة " صفصافي " يستدعي الشاعر الكيفية التي كانت تعامله بها أمه :
( يبقى
كأني حِسّ إيديها متل
صندل
بإجريي
وأنا حافي – ص 36 ) .
هذا الإتحاد الحسّي المرهف هو نتاج للصلة الرحمية .. للهناءة الفردوسية المنعمة التي عاشها الطفل .. تلك الهناءة التي نفقدها بصرخة الولادة ونضل نفتش عنها بيأس حتى الموت .. حتى يمكننا القول أن كل السعي البشري الوجودي هو محاولة مستميتة لاستعادة ذاك الفردوس المفقود .. وإن حتى تصوراتنا الدينية عن الجنّة التي تخصص للمؤمنين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مشتقة من ذاك الحلم العصي على الفناء .. الفردوس الأول والأخير الذي نتكىء فيه على الأرائك هو أحضان الأم ورحمها :
( وتقعُد
وترسملي صليب ، تشمّ وجّي
تمسحو
تغمض عينيها
متل خبتني فِيُن ، وتحُط مسبحة
الصلا عليّي
أنا وغافي – ص 37 ) .
في تلك الأحضان الدافئة .. وبين تلك اليدين الحانيتين .. اليدين الخالقتين تنمو – حقَاً – مشاعر دفينة في أعماقنا لا يُفصح عنها إلا منسوجة ، في الكبر ، في صورة أسطورة الإله الإبن المضلّلة بفخامتها وما هي إلا مقلوب واقع العجز الطفلي المبهر بين يدي الأم الإلهيتين اللتين تشكلاننا كيف تشاء . هي في الحقيقة مشتق شعري من مشتقات الرابطة الأوديبية والتي أرجو أن لا نتحسس منها ونعدها منجزا فرويديا تأسس على أطروحة سوفوكل الأغريقي فقد وجدنا لها جذورا في ملحمة جلجامش . هي – الأسطورة – استعادة لمقلوب تلك الوقائع التي انحفرت بعيدا في لوح الذاكرة الطفلية الهشة حيث كان الطفل يُعامل كإله صغير : الرضيع ، صاحب السيادة – his excellency , the baby " كما يصفه معلم فيينا :
( ولمّــا
تغيّرلي
تيابي
تمدّ ع َ تيابي صبيعا ، متل ما
بتمدّهن بزيارتا
تا من ملبّس
تاخد ضيافي
وفي عندها قونِة ذهب ، مرسوم
فوقا مريم
العذرا
تصير تحرّكا مثل الفراشي فوق تمّي
ال ْ تقشعو إنّو ورد
وتغِط
ع َ شفافي – ص 37 و38 ) .
وفي الاستعادة الطفلية الذاكراتية ، والشاعر صار راشدا الآن مبعدا عن الفردوس العظيم ، تحضر تلك الأرائك التي نسترخي عليها في تصورنا الحلمي الذي يحاول عبثا الخلاص من قبضة المثكل :
( قدّيش
إمّي
زنودها
مْراجـــيح
بيضا
وصدرها مخدّة يمام
وحضنها دافي – ص 38 ) .
وإذ يشير معلم فيينا في أكثر من موضع إلى أن المبدعين – الشعراء تحديدا – هم اساتذته في اكتشاف مجاهيل غاية النفس البشرية الشائكة ، وأنهم هم الذين اكتشفوا صراعاتها الأساسية التي جاء بعدهم علماء النفس ليقعّدوها على أسس علمية ، فإن بإمكاننا أن نوسّع هذا الدور ليشمل الحقول المعرفية الأخرى .. فأعتقد – تأسيسا على التماعات ذهنية جوزف حرب النافذة – أن الشاعر الأول في تاريخ البشرية كان امرأة .. امرأة أم تركع عند قدمي صغيرها تعد أبياتهما الشعرية العشرة :
( وتقرا جرَيّي ، متل م َ بتقرا الشعر
هِنّي عشر أبيات
آخرهن صبيعي عندها
قوافي – ص 39 ) .
مثلما يمكننا القول إن نزوع النفس نحو الترميز ، وبالتالي نحو الشعر ، مرتبط بمحاولات استرجاع صورة موضوع الحب الأول المحرّم .. استرجاعا تلقائيا يتم بصورة عفوية بتحريك القلم حتى وأنت مغمض العينين .. ليست يدك هي التي تحرّك القلم وأنت تحاول رسم صورة أولية لوجه الحبيبة الأم الغائبة إلى الأبد .. إنه لاشعورك .. بيده الخفية المدرّبة والتي لا تعرف فارقا بين " الموضوع " وتمثيله ، فمن الطبيعي أن تصوّرها برموز تحمل سماتها المركزية الحانية : الحماية والصلابة والرهافة والظل الرحيم والتجدد والنماء ، وفي مقدمتها : الشجرة : وهي هنا " صفصافة " جوزف حرب :
( فكّرت مرّة إرسما
غمّضت عينيّي وحرّكت القلم ، خرتشْتْ
وِجّا ع الورق ، وفتّحت عينيّي لشوفا ، شِفت
وجّا ع َ الورق
مرسوم
صفصافي – ص 39 ) .