ازدواجية الفني والوجع الإنساني
أو حين يحاصرنا الرحيل
" تريث قليلا أيها الموت .. إنني أكتب "
مفتتح ..
عند منعطفات السرد ـ ونحن نجوب دروب رواية " الحق في الرحيل " لفاتحة مرشيد، يترصدنا الألم والرحيل ليدفع بنا إلى الانخراط في لعبة الحكي للتماهي مع الآخر الذي يسير جنبا إلى جنب الألم والوجع، الألم الذي ينفتح على الجرح الإنساني حين يقف البطل حائرا ضعيفا تائها لا يدري أمام " الحق " ما هو فاعل، وأي الطرق يسلك مع عنف الحب، واندفاع الأسئلة التي تعصره لعلها تفتح له بابا نحو الجواب .. الجواب الذي ينفلت ويزيد درجة الألم ..
على حافة الكتابة..
وحدها الكتابة ـ تأخذ منا ـ لتسير بنا إلى اكتشاف مجاهل الذات ومواطن القبح والجمال فينا، في الوجود والموجودات ..
وحدها الكتابة ـ تأخذ منا ـ لتسير بنا إلى المجهول الثاوي فينا ترغمه على الظهور حين نحاول بكل الجهد تخبئته فيطفو على الكلمات حبا أو كرها .. وجعا أو فرحا ليولد المعنى مُلغزا مرة منبلجا مرات يجر وراءه أسرار الكلام وفتنة الكلمات..
وحدها الكتابة ـ تأخذ منا ـ لتسير بنا في منعطفات الذات والواقع والفضاءات وئيدة تتجاذبها ازدواجية الفني والألم .. اللذة والوجع .. الحياة والموت .. الضحك والبكاء ..
وحدها الكتابة في رواية " الحق في الرحيل " للكاتبة فاتحة مرشيد، تأخذ منا ثمن لذة القراءة أن نشارك أبطالها الألم والرحيل .. والموت ..
هي رواية لم تُكتب بالكلمات ولكنها تنكتب بالألم والسفر والرحيل ..
" لم تعد الكتابة اختيارا، أصبحت هواء يملأ الفضاء.. " (ص: 47).
ازدواجية الفني والألم ..
" الحق في الرحيل " نص ينفتح على الألم ويسير مساوقا للوجع الإنساني والهجرة والرحيل والموت..كما ينفتح على لحظات العشق والحب ..
الحق اختيار.. مطلب في طياته إلحاح وإصرار.. والرحيل يأتي في أحايين كثيرة بعد يأس أو نهاية..
عبر مراحل الرواية يظل " الحق " مُعلقا متأرجحا بين الإقدام والتراجع، والتذكر والنسيان.. ليفتح للرواية مجالا للأحداث أن تتوالى وتتواشج رغم أنف أبطالها الذين وجدوا في حكاياتهم عزاء لتذليل ألم الهجرة والرحيل ويظهر " الحق " في الرحيل في الفصل الأخير من الرواية قويا مؤلما صادما فاتحا ذراع الألم " لإسلان " أن تذوب فيه ولفؤاد الزموري أن ينشطر بين الصدمة والحب والنداء المؤلم هادما ما بنته الأحلام وشيده الحب ..
الرحيل ..منذ صيحة الخروج/الولادة إلى الموت، والإنسان يعيش رحيلا دائما.. لا ينقطع، رحيلا كأنه السفر بين الحياة والموت، تتقلّبه المواجع والأفراح وتتجاذبه المسافات قرُبت أو بعُدت لتجعل منه كائنا يستوطن الألم والرحيل؛ لأن الرحيل ـ بصيغة الجمع ـ حالة/ حالات تتعدد صوره : رحيل بالذاكرة إلى ما انسحب إلى ذاكرة النسيان..رحيل بالبكاء والألم حين نشيع عزيزا.. رحيل يومي جريا وراء لقمة العيش ورحيل آخر المطاف حين نسند الرأس على حجر بارد أصم داخل حفرة مخيفة وباردة..
قد نرحل ولا نترك أثرا، وقد يكون الرحيل صمتا وهروبا، وقد يكون انهزاما أو بحثا عن " حياة " في ظل مسار لا يعرف الاستقرار..
هل نحمل حقائبنا حين نرحل ؟ هل نحمل ذواتنا وأفكارنا وعشقنا ؟ أم حين نرحل نحمل آلامنا وقسوة الحياة؟ أم حين نرحل، نموت وتموت الحياة من حولنا ؟
الرحيل ينسحب بين سطور النص كأفعى تجيد فخ التختُّل، مرة هادئا ومرة قويا ومرات مؤلما ينشر الوجع وبشاعة الفراق، كما ينشر الألم والبكاء والضحك حين يكون الرحيل لحظة حكي بين أصدقاء جمعتهم الغربة في مكان ما .. في زمان ما ..
الموت في " الحق في الرحيل " ليس لغزا .. لكنه يُسفر عن وجهه من أولى عتباته إلى الفصل الرابع والأخير من الرواية والذي يجعل من الموت / الرحيل حقا تطالب به " إسلان " وبإلحاح ..
الرواية جعلت من تيمة الرحيل مبتدأ ومنتهى، داخل دائرة تتسع وتضيق، تقترب وتبتعد لتحكم خناقها على شخوصها الذين حكمت عليهم بالسفر والهجرة والاجتثاث والموت لتعمق إحساسهم بالألم والذين يقفون على حافته منكسرين أو منتصرين .. يحاصرهم الانهزام عند منعطفات الحكي اللذيذ كما يحاصرنا ـ كقارئين ـ يتأرجحون بين فضاءات النص ـ لندن ـ أزمور ـ أكادير ـ اليابان ـ التي رغم تباعدها يؤلف بينها الألم والرحيل ..
الهجرة بداية الرحيل/ الرواية ـ 30 سنة هجرة ـ والهجرة هجرات متعددة، والرحيل غالبا ما يأتي في صيغة الجمع،وهو هنا يلاصق القارئ وكأنه ظله ويسافر به على امتداد النص، فالإعدام والكتابة بأسماء الآخرين ..وموت الصغير " موسى " و " يامنة " وسفر " إسلان " عبر العالم وموت الشاف " هيروكي ".. كلها مؤشرات تؤكد تيمة الهجرة والرحيل سواء عبر الحلم أو السفر أو الكتابة .. أليست الكتابة موت ؟
السفر كما الكتابة، عبور مسكون بالغياب، ومتاهة تأخذ منك الجهد والعرق لتسير بك وأنت تكتشف ذاتك والآخر وتتكشّفُ لك أعماق ودهاليز الذوات التي تؤسس خطوات الرواية والتي كُتب عليها السير مرغمة نحو الألم والفرح تفصح عنه الكلمات المخضبة بالبوح والحكي الممزوج بالألم والحب والحيرة ..
لعل في بعض الرحيل فرح وراحة كالرحيل إلى أعماق الذاكرة، إلى المجهول لاستحضار ماض ينفلت من بين دروب التيه والسنين (ربيعة رمز للسفر البعيد والمنفلت) تاركا أثرا عميقا لا يمحوه السفر أو إعادة الحياة عبر الحكي خلال جلسات البوح والسمر . غير أن السفر الأخير جاء قويا، صادما في الفصل الأخير من الرواية، جاء ملازما للحق كمفارقة موجعة تُوقف الزمن ليبحر " فؤاد " داخل دوامة لا ترحم، لا تترك له الخيار..
هل الحق/الاختيار صادم إلى هذا الحد ؟
الحق في الرحيل .. حق يُصادر أو يُلبى؟ وكلاهما ـ المصادرة والتلبية ـ مر يحتاج لكثير من التوقف والتفكير والنقاش والخصام .. والألم.. موقف صعب هذا الذي وُضع فيه فؤاد يأكل دواخله ويدفعه إلى الاختيار الصعب عبر لغة رصينة هادئة محفزة تدفع القارئ إلى الانخراط في الألم الذي يستشعره " فؤاد " وإلى الوقوف أكثر من مرة أمام " إسلان " والنظر إلى ملامح وجهها الهادئة، متسائلا.. منهزما.. متوسلا.. هل لها الحق في الرحيل ؟
هذا الفصل من الرواية يُجبر القارئ على الوقوف لطرح السؤال والنظر في لفظة " الحق "، معناها ومغزاها، عمقها وظاهرها، ومتى تكون حقا نأخذه بالقوة ومتى يُعطى لنا دون طلب ؟.. وإن كان الحق يُؤخذ ولا يُعطى.. لأنها أوقفت الحق في الرحيل معلقا فاتحا للسؤال الكبير المقلق والمحرج والمؤلم الذي طرحته الكاتبة بذكاء، منافذ تطل على الألم والجرح وكثير من التردد ..
فهل لنا الحق في الرحيل ؟
" تحرر من إرثك، من يقينك.. ونقّ السبيلَ من حصى الآخرين. ولو تهت بعد حين، لا تسأل العائدين من الجحيم..
سل الطيور المهاجرة .. "