القصيدة :
على هذهِ الأرضِ سماءٌ كاملةٌ ومنسيةْ
أكبرُ من السماءِِ التي تحمِلُ بين كفَّيها الغسَقَفي كلِّ صباحْ
تفتحُ شبابيكَ شهوَتِها لِطُيورِ الفِردَوسِ
كي تَمْلأَ الفراغَ بنَغماتِ الحُبِّ
تَعْصرُ بُخورَ المُوسيقى من نهدِها المائِيِّ
غيرَ آبهةٍ بِنزاعِ الحياةِ والموتِفي كلِّ مساءٍ
تسمَحُ لفراشةِ قلبي بأنْ تشرَبَ رحيقَها السماويَّ
يختَرِقُ الستارةَ السريَّةَ
حيثُ تؤدِّي لحَظاتُ الخَلقِ صلواتِها في معبَدِ الماءْ
آهٍ أيَّتُها السماءُ
لماذا يخافُ الأعمى مِن بُكاءِ الفِكرِ
و غِناءِ الجُرحْ ...؟
دعِيني أشرَبُ مِن كأسِ التجلِّي
نبيذَ الإلهامِ قطرةً قطرةْ
في ذاتي المُنتشِيةِ بالسِحرِ
رُوحٌ يُبلِّلُها دَمعُ التراتِيلِ
و حولي يطُوفُ الحُبُّ عارياً
و يسعى بينَ النَهدِ و الزَهرةِ
يُفتِّشُ عن ماءِ القَصيدةْ
من هذه الكأس ، كأس التجلي، تجلى لنا عالما لا يكشفه سوى شاعر مذهل تجاوز الإبداع إلى مرحلة الخلق . عالم فريد مكانه أرض غير الأرض التي نعرف، تعلوها سماء "أكبر من السماء التي ألفنا" يدهشك التقابل بين كمالها و ما تواجهه من نسيان ...زمانه مطلق لكنه في كل الأحوال مساء.
مساء التجلي من سماته انفتاح شبابيك الشهوة لطيور الفردوس و من أبعاده ملء الفراغ من جهة (فراغ النفس المتعطشة للنغم ، للعشق لبخور الموسيقى ) و من جهة أخرى احداث فراغ جديد يبعد بالذات عن التفكير في جدلية الموت و الحياة و ما فيه من تعقيد و ما نكابده أثناء التفكير من معاناة و هم شديد.
فعل التجلي يبدأ برشف الرحيق السماوي بل هو فعل احتساء للثمالة ...الفاعل هو فراشة القلب بما تحمل من رمزية الألوان و الانطلاقة و الجمال و عشق النيران.
فعل التجلي يبدو في شعاع الكلمات غير المرئي و تحويله نورا مرئيا تصبح الكلمة معه واقعا
مقدسا قدسيا يؤدي في" معبد المياه (و الماء عنصر الحياة و الخلق في الرمز ) صلاة لحظة الميلاد.. الجنين هنا أو الوليد اذن مجبول على الصلاة و العبادة فطرة.
فعل التجلي أن تستحيل الذات الشاعرة بل الإنسان في هذه الذات روحا مستغنية عن بقية الأبعاد الإنسانية ،روح تُعمّد في المعبد ب"دمع التراتيل "خشوعا و اسهاما في اضافة قطرات الدمع الفردية لمياه المعبد التي نتكهن انها قُدت جميعها من دموع التراتيل.
يكتمل مفهوم القداسة بهذا الحب الذي عهدناه مع المبدع المذهل قداسة بعينها حب يطوف كالملائكة عار لا يحمل ثوب الحضارة الزائف و لا يخنق نفسه بانتماء للزمن و العري هنا لا يتعارض مع معجم المقدس مطلقا بل انه العري المقدس قوامه النصاعة و الوضوح .. السجية تسير حرة بلا قيد أو شرط تسير مستجدية كأس التجلي استجداء الرضيع لثدي الأم حتى يحقق لنفسه البقاء و الحياة و الرواء.
في القصيدة معاجم متعددة استعملها الشاعر بكثافة منها معجم الماء و القداسة و العشق و الطبيعة و الكتابة ...الفريد اللافت للنظر مدى قدرة الشاعر على التوليف بينها و الحال أنها في الأصل اللغوي متنافرة و مدى احكامه توظيفها لتأسيس كون شعري خاص بالقصيدة يلخص بكون التجلي. إن التجلي يبدو هنا لحظة خلق تصحبها حالة ارتقاء مما حمّل القصيدة قضايا فلسفية وجودية عميقة متناغمة مع نمط الكتابة الشعري ..غير أن اللحظة في القصيدة بدت لحظتين : الاولى تقول لك أنا هنا و أسير وفق هذا المنطق و الثانية تقول "دعيني أشرب من كأس التجلي " و بين اللحظتين علاقة تتضح بالعلاقة بين الواقع و المنشود (اللحظة الأولى كيف يكون التجلي من حيث المفهوم و المراحل و النتائج نظريا أو في الاعتبار الأمثل ) و الثانية لحظة الحلم بالتجلي.. كما تتضح العلاقة اذ اعتبرناها ربط سبب بنتيجة (لأن التجلي على هذا النحو من الروعة و القداسة نتيجته الحتمية و الطبيعية ان نتوسل إلى السماء عساها أن تفتح لنا البصيرة فلا نكون ذلك الأعمى الذي يخشى البكاء و النغم .
الكون الشعري في هذه القصيدة متناغم متناسق متماسك حدا مذهلا لذلك لن أقول للشاعر المتدفق فنيا و وإنسانيا أبدعت لأن في الإبداع إحالة ضمنية على الاتباع لكني أقول يا لقلم يصنع لنا من غير منوال سابق كونا سحريا أسكرتنا فيه كأس التجلي و هذا هو المعنى الحقيقي في عرفي للخلق الفني ...سقاك الله منها دوما لنغنم أثر دوارها و نقاء ما فيها ايها المنير .