هذه المادة بثلاثة أجزاء تحت سقف العنوان أعلاه وسترد تباعا، وهي:
1. حول النقد ومظلته السايكلوجية.
2. حول الشعر والتأويل، وثنائية الشكل والمضمون.
3. توطئة حول نقد النقد، ومثالين عن مادتين نقديتين.حول النقد ومظلته السايكولوجية:
1. النقد: رؤية شخصية للناقد منبثقة عن دراسته للمنجز الأدبي ومُبررة به. وكلما أتسمت بالموضوعية أكتسبت مصداقية وقيمة في الساحة الأدبية. هذا الإكتساب يمنح النقد سلطة وإلاّ فلا سلطة له بل ضرر. والنقد الرصين يقف على ركيزتين: الحرص والأمانة الأدبية / والمعرفة العامة لضرورتها، والخاصة في مجال النقد. وتوظيفهما بنزاهة عالية وبالقدر الذي يحتمله المُنجز الأدبي أو النص شكلا ومضمونا. للتقريب، فأن إعادة إنتاج النص من قبل الناقد المؤوّل تشبه إعادة إنتاج فلم سينمائي لرواية بتقنيات فنية أفضل. فعلى سبيل المثال، إعادة إنتاج فلم "زوربا" وهو رواية للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس،لا يجوز أن يحيلها المنتج أو المخرج الى رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي. أو أن يَصدم المشاهد بشخصية "زوربا" وقد تحولت فجأة الى شخصية "جان فالجان" المعروفة في رواية "البؤساء" أو "البائسون" لكاتبها الفرنسي فيكتور هوغو، فهذا تشويه ونسخ بمنجز هجين لا يمت بصلة لأصله.
2. أغراض النقد: يمكن أن نختزلها بجملة : التفاعل الحيويّ البنّاء مع الزخم الأدبي في المجتمع. وتحت هذا المفهوم تنحصر وظيفة الناقد ومهامه.
3. هوية المنجز الأدبي: لا هوية لما أنتجه الإنسان منذ بدء الخليقة في مجال الأدب باختلاف مشاربه وأزمنته غير الهوية الأدبية، ولا يجوز إضفاء هوية أيديولوجية أو عقائدية أو زمنكانية وخلافها، أو التصنيف على أساسها إلاّ إذا كان من باب التوصيف الشكلي للإخبار مثلا عن حقبة زمنية/ رقعة جغرافية / أو الطابع السائد في المضامين الأدبية وما إليه. والقراءة النقدية الصحيحة تتبنى ذات المنجز الأدبي وتعتق هوية الكاتب، إقحام الهويات سيُربك قيمة المنجز الفعلية بإقحام تأويلات سلبية أو إيجابية.
ورد عن الأخطل (ويعد من أشعر شعراء العصر الأموي) في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، بأنه قال يوما لأحد محدّثيه: "إن العالِم بالشعر لا يبالي.. إذا مر به البيت المُعايَر، السائر الجيد، أمسلم قاله أم نصراني ".
4. علاقة الكاتب بمنجزه الأدبي: إلتصاق حميمي، كل منجز وليد جديد للكاتب يفهمه قبل غيره، يعي مقاصده ويدرك سر ولادته ونطفته الأولى وإن كانت وليدة اللاشعور، وعند تقديمه يصبح كيانا مستقلا بالنسبة للجمهور المتلقي، وعالما مكتفيا بذاته لا يستدعي النقد، بل الناقد يستدعيه (أي يستدعي المنجز) للخوض في رحابه بثيمة التفاعل الخلاّق.
5. الفرق بين الكاتب والناقد بصفته كاتبا: يختلق الكاتب مادته الأدبية متأثرا بالبيئة والتراث وعوامل شتى لا مجال لها أو حصر، أما الناقد فلا يختلق مادته إنما يقتني مادة الكاتب متأثرا بها، ومتوغلا في بواطنها متجاوزاً القراءة السطحية أو الظاهرة. بمعنى آخر، الناقد يربط الباطن بالظاهر، والشجرة التأويلية بجذرها داخل تربة النص أو مادة الكاتب، وإلاّ فهي أما مُختلقة لإضفاء قيمة، أو تخيَّلها الناقد لما تركه نص الكاتب من أثر إنزياحيّ "خاص جدا" في مخيلته لا يدري أسبابه أو يعيها، ولا يجوز تقديمها بدلالة هذا الأثر "الخاص" كمادة نقدية مالم يتمكن من تبريره من داخل المنجز وربطه موضوعيا. يمكن بشكل عام لكل متلق ناقدا كان أم لا، تقديم ما يتركه المنجز الأدبي من إنطباع وآثر في نفسه، بشكل خاطرة أو مادة شعرية أو سردية..الخ ، وحسب إمكانياته الكتابية. فالأدب ينتج الأدب كونه ثقافة، والكاتب يتأثر بآداب وفنون عصور مختلفة وأزمنة موغلة، ويتناول الفلكلور الشعبي والأسطورة والملحمة في أعمال إبداعية وشعرية مخصبة بالخيال والتجلي مثلما يتأثر بآداب وفنون حاضره، والناقد بصفته كاتبا، له أن يتناول ما يريد ويختلق عملا إبداعيا، ومن المثمر أن لا يقدم كل ما يختلقه كنقد.
6. إنتقاء الناقد للمنجز الأدبي: لا بد أن يكون إنتقاءً ذاتيا نظيفا يخضع للمؤثر الأدبي فقط، وليس إنتقاءً للشخوص، ومجردا عن هواجس الإنتماءات العقائدية والفكرية والإنطباعات الشخصية. ولا تحكم الناقد في هذا المقام غير ركيزة النقد الأولى التي أسلفت، وهي الحرص والأمانة الأدبية، وبها يخلص الناقد الى الحيادية في الإنتقاء والإشتغال بصفاء وتوازن دون مؤثر خارجي أو حكم مسبق. وهذا سيؤسس لنقد خلاّق خالٍ من شوائب النفس ونوازعها وشوائب المجتمع.
7. ثلاثية العلاقة بين المتلقي والناقد ومادة الكاتب: هذه العلاقة ممكن التعبير عنها بمعادلة، "المعادلة النقدية" وهي بطرفين، الأول مادة الكاتب وقراءة المتلقي لها، والثاني مادة الكاتب وقراءة المتلقي الناقد لها. وهذا الأخير متلقٍ جاد ومحترف أو لابد أن يكون، وعليه تحقيق توازن المعادلة، فإذا كان الغبش أو عدم الوضوح هو سمة الطرف الأول، كأن تكون المادة معقدة أو سوريالية، على الناقد إزالة التعقيد أو المحاولة. إضافة مؤثر خارجي من قبل الناقد لطرفه، سيرهق المعادلة. مثلا، إضافة شخصية الكاتب ومن منطلق المعرفة الشخصية. فالمعرفة الشخصية ليست "سيرة موثقة" ليتسنى إضافتها لطرفي المعادلة على حد سواء، والمعادلة النقدية أشبه بالمعادلة الجبرية أو الرياضياتية ولا تحتمل الإضافة لطرف دون آخر.
للتوضيح، بإمكان الناقد الإقتراب من شخصية الكاتب ومحاولة تحليلها من خلال منجزه أو نصه وفي سياق دراسته له وليس العكس. السعي بشخصية الكاتب لنقد منجزه، لا يفيد الجمهور الذي يتجاوز الأحكام المسبقة أو يرفضها عادة إن كان واعيا، فلا تنفعه المعرفة الوسيطة كوسيلة لفهم ما يقرأ، بل قد تضلل فهمه أو تشوشه لأن تقييم الشخوص يتباين بين البشر حد التضاد.
هذا النمط من النقد العكسيَّ (أي نقد النص وتأويله بسمات كاتبه) يطيب لي تسميته بـ "النقد الخاص أو النقد بوازع الألفة " لضيق دائرته، فهو موجه الى المتلقي المتآلف سلفا مع الكاتب، قياسا بالنقد الأدبي "العام" الذي يتعاطى مع المنجز بمعزل عن الكاتب وسماته فلا يخل بمنهج أو معادلة.
8. الخروج عن الموضوعية: قد يخرج الناقد عن الموضوعية بدراية منه (أي الخروج الذي يعيه الناقد) بإضفاء تأويلات كيفيّة تراكمية بما لا يحتمله أفق المُنجز الأدبي، فيُحدث قطعية بين المنجز وكاتبه ويشعره بالإغتراب عما كتب، ومثلها مع المتلقي وعما قرأ. وهذا الخروج يعد بتصوري إنتهاكا لحرمة المنجز الأدبي، وخروجا عن الحرفيّة والأكاديمية يخل بوظيفة الناقد أولا، المُعّول عليه في إقصاء غربة، ويخل بالمشهد الثقافي ثانيا. وكاتب النص عادة لا يعارض مثل هذا الإنتهاك لأنه موظف في الغالب لصالحه.
ثمة مقولة صارخة بصراحتها مطروقة في بعض الكتب التي تناولت النقد الأدبي العربي القديم وهي: على الناقد ألآّ يُخرج البيضة من جيبه، ويدّعي أنها بيضة تلك الدجاجة الواقفة هناك.
ولتردي المشهد الثقافي، فأن المتلقي العربي المأخوذ غالبا بالظواهر والشخوص، قد تنطلي عليه مثل هذه النقود، أو يخشى المواجهة الموضوعية لسطوة الناقد أو الإستحياء منه، وقد يلجأ الى التشكيك بثقافته ويفسر الطروحات النقدية التي تفتقر نسبيا أو كليا للموضوعية بفقره المعرفي وعجز أدواته عن فهم المادة المكتوبة فيتجنب السؤال أو الإستفسار كي لا يُحبط .
ولهذا الخروج عن الموضوعية من قبل الناقد من جهة، ولنكوص المتلقي أو إعتزاله عن التفاعل البنّاء مع المادة النقدية من جهة أخرى، أسباب كثيرة ترتبط بطبيعة الواقع العربي وما يعانيه من معضلات إجتماعية وأخلاقية وفكرية وسياسية وتداعيات سايكولوجية، أي بنشأة العقلانية العربية بشكل عام المتأرجحة غالبا بين التقديس والتدنيس والمنهمكة بصناعة النفيس والخسيس وعلى شتى الصعد ومنها الصعيد الأدبي، وهذا موضوع شائك قد يطول الحديث في أروقته.
الغفلة أو ضعف أدوات الناقد وثقافته العامة، قد تخرجه عن ناصية الموضوعية أيضا، وفي جميع أحوال "الخروج عن الموضوعية" يقتضي تنبيه الناقد و مجادلته بموضوعية، وهذا واجب ثقيل لابد أن يتحمله المتلقي لتفعيل دوره كونه العنصر المهم في الثالوث الأدبي "الكاتب / الناقد / المتلقي" حفاظا على سلامة المشهد الأدبي ومحاولة الإرتقاء به نسبيا عن أقبية الولاء والمجاملة، وعن ثقافة التلقين والتسليم السائدة والتي نالت منه أيضا.
9. لغة النقد الأدبي: لغة بيان واضحة، لا تقبل أو تستدعي التأويل فظاهرها باطنها والعكس صحيح. على سبيل المثال وللتقريب، مفردة "ماء" إن وردت في المادة النقدية فهي "الماء" هذا المركب الكيميائي من ذرتيّ هيدروجين وذرة أوكسجين والذي نشرب كل يوم، أما في المنجز الأدبي وخصوصا الشعر منه فقد يكون لها دلالات آخر. وهذا لا يعني بالضرورة تقديم مادته بلغة بحثيّة جافة ومملة، ولكن من الأنجع أن لا يخرج عن دائرة "الإفصاح والبيان" وإلا ستكون مادته حمالة أوجه هي الأخرى. فإن كان مقصده من مفردة "الماء" الإخبار عن دفق الفضيلة في النص الذي تناوله على سبيل المثال، فليكتبها "ماء الفضيلة" كي يقف المتلقي على مادة بيّنة الفهم والإستيعاب، وعصيّة على نعرات "تأويل التأويل".
10. سمة الناقد المؤهل: نبذ السكون والركون الى "المطلق" في عالم المنجز الأدبي، لأن عملية التأويل بحد ذاتها إجتهاد دؤوب وطواف حول حركيّة الدلالة وتتبع التغيرات التي تصيب المعنى والإشارات والرموز في شكول النصوص الكلامية. فهذا "الولع" المستمد من سمة نبذه للسكون، يدفعه الى ترك مادته النقدية بين يديّ المتلقي مشرعة الأبواب من أجل إستمرار عميلة التحري والتنقيب في مكامن المنجز وبتواصل ومشاركة المتلقي هذه المرة. ومالم يمتلك الناقد هذه السمة سيغلق منجزه النقديّ ويستكين بظله نابذا حركة المتلقي. والجدير بالذكر، كتّاب النصوص بغالبهم ينبذون تنقيب المتلقي ويفضلون قراءة ثكلى بالمديح والثناء. بينما المنجز الأدبي مشروع مفتوح للمداولة والنقد ولا يمكن ختمه بيقين الناقد أو جيل كامل من النقاد.وهنالك منجزات أدبية تجلّت قيمتها بعد رحيل كتّابها أو بعد حين.
11. الكتابة بشكل عام وخمول الكاتب والمتلقي: أية مادة مكتوبة تُقيم نفسها بنفسها بما تفرضه من قيمة وفائدة، ومن المثمر أن لا يقيمها المتلقي إستباقا بأسم كاتبها فثمة أقلام تكتب بأصالة وجودة أفضل من أعلام يشار لها بالبنان. والمنظور في الساحة الأدبية هو التقييم من خلال الأسماء والشخوص بمعزل عن قيمة المادة الأدبية، ولهذا تداعيات خطيرة أحصرها تلخيصا بـ "خمول الكاتب والمتلقي". فبعد أن يحظى الكاتب بحصانة الشهرة وعصمة المكانة قد يجنح الى إتكاء ولا ينزع الى الأفضل. وما سينتجه لاحقا وبغض النظر عن قيمته الفعلية ومدى جودته، يستقبله المتلقي بالإجلال والإكبار مأخوذا بصيته، وهذه آفة تمكنت من الساحة الأدبية.
لعلنا ندرك أن ما أنتجه فحول الشعراء قديما وكل بإسمه، لم يكن بنفس المستوى والقيمة، وما أنتجه الجواهريّ ونجيب محفوظ وحنا مينا وجبران ونازك والسياب والماغوط وبودلير وإليوت ونيرودا وأدونيس و باوند وكل الأدباء والشعراء في العالم، لم يكن بنفس الجودة والقيمة الإبداعية، ولا عيب في هذا أو حرج، لأن سيرورة الكاتب الإبداعية هي سيرورة إنسانية نابضة لا تحتمل أن تكون خطا مستقيما، بل خطا بيانيا متذبذا يشبه ولحد ما مخطط قلب الإنسان. وكلنا يعلم بأن مخطط القلب إن جاء خطا مستقيما يعني توقفه، أو موتا و زوال.
12. خاتمة وسؤال: النقد عموما نشاط ثقافي يتبع تطور المعرفة والعلوم ويقتني منها. وفي العالم العربي مازال النقد المنظور نشاطا تقليديا تراكميا لم يطور تقنياته أو يحدثها، بينما أستعار النقد في العالم المتحضر الكثير من علوم الإجتماع والعلوم الطبيعية والنفسية وخلافها، فعلى سبيل المثال ولا مجال للتوغل في هذا الحقل، أستعار النقد فروض عمل اللاشعور أو العقل الباطن وكيف يعبر عن رغباته الكامنة بالتداعيات اللغوية والصورية، وإستقصاء الخلط الكلامي والمكاني على غرار ما يحدث في الأحلام، وما إليه من إستعارات مثمرة لدراسة خصائص النص الأدبي بموضوعية يظللها العلم.
أما سايكلوجيا الإنسان العربي فهي ( العلم البديل) الذي يلقي بظلاله الموحشة في كل ركن وزاوية، والزاوية الأدبية زاوية منفرجة الظلال.
وأختم هذا الجزء بسؤال عام: كم نحن صادقون مع أنفسنا، ومعنيون فعلا بثقافتنا لإنتاج قيمة؟
يتبع ..
فاتن نور