بالحب تتوهج الحياة ويتسع حضنها للتّودُّد - مالكة عسال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم لباكورة (في الحب مناسك) للشاعرة المغربية العصامية متين فاطمة..
ينطوي الديوان على أكثر من 140 صفحة، صُفِّفت داخل غلاف تتوسطه لوحة مبهرة، لوجهين يقابل أحدهما الآخر، لا تميزهما خصائص محددة، تعبر عن حب بين اثنين، قد يكون الذكر والأنثى كما تُقنّنُه الطبيعة، أو يكون تعبيرا عن حب مواطن لبلدته وطن الأمن والاستقرار، أو شخص لآخر قريب من الأسرة أو بعيد عنها؛ صمم الوجهان بتداخل في ما بينهما يحمل الأول: اللون الأحمر، لون الدماء التي تجري في عروق الجميع، دون تمييز عرقي أو ديني أو لوني.. أو لون العلم المغربي، رمز الفخر والعزة؛ والثاني صُمّم باللون الأبيض، لون الصفاء، والقلوب البيضاء التي لا تعرف الغش أو المكر أو الخداع، لون الأرواح الطيبة المشمولة بالحب، والمجبولة بالتسامح وحب الآخر...
استهلت شاعرتنا متين فاطمة المضمومة، بإهداء عميق إلى فلدة كبدها الوحيدة، رصعته بفصوص من العبارات اللؤلئية، تتوهج بلهيب الحب بكل ما تكنه العواطف من مشاعر رقيقة، وما تحمله الأعماق من لطف ورقة ونبل..
يا نـجمة سـمائي
يا كوكبَ رجائي
صباحُكِ خيرٌ
يومُكِ ستـرٌ
حبيبة القلب
(الإهداء)
وحب الآباء للأبناء لم يأت عبثا، وإنما هو سريرة يتقاسمها البشر والحيوان تجاه الخلف / فلذات الأكباد.. لكن حين تكون قرة العين فريدة، فعين الأم تستفيض بالحنو والمعزة بصيغة ملفتة /مختلفة...وأجزم أن هذا الحب الصارخ من الدواعي الأساسية، التي أتحفتنا بمنجز شعري له نكهة وفرادة، يتميز بهما عن غيره من المنجزات الإبداعية، في زمن اغتيلت فيه قيمة الحب، وأصبح الشأن للمصالح الخاصة والماديات، ولو بالدوس على الكرامة، أو إزهاق الأرواح..
شاءت شاعرتنا فاطمة متين أن تعنون المجموعة بعنوان يخلخل الاعتقاد،( في الحب مناسك) جملة بسيطة تامة الإعراب، خفيفة على اللسان، لكنها غائرة المعنى؛ فعادة لفظة (مناسك)، نتداولها في المواضيع الدينية '(مناسك الحج/ مناسك العمرة/)، لكن نظرة الذات الشاعرة العميقة لألوان الحب وتعدد أساليبه، هو ما أوحى إليها بانتقاء عنوان في غلاف من الترميز والإيحاء، بربط علاقة اعتباطية عفوية بين الألفاظ، في صياغة مغايرة تَخِزُ بدبوسها المدهش ذهن القارئ..

استُهِلّت المجموعة بقصيدة (ما للحب وجهان)، تبين فيها أن للحب وجها واحدا، وإن اختلفت طرق التعبير عنه، وتنوعت أساليبه، تساؤلا وتعجبا ووصفا وحوارا، مُعَددِّة مواضيعه، وإن كانت كلها تصب في قمقم ((الحب ))، فهي لم تقتصر على الحب الذي يحف حبيبه بكل ما له من طاقة، بل انخرطت في مغامرة الحب من جميع الجوانب، فنقرت بمهمازها اللجيني العديد من الأبواب، بلمسات شعرية لها نكهتها الممتعة، موضحة أن الحب تضحية من أجل الحبيب لإسعاده، حتى لا يتألم أو يحزن أو ييأس، يصبح معه المحبوب نبراس الحياة الذي يضيء المعتم، معاتبة من لا يبادل المُحِب الحب بنفس الإحساس، مستفسرة عما هو الحب، واصفة حبيبها واللحظات الممتعة التي تقضيها معه، وما تشعر به من سعادة إلى جنبه، فهو بوصلتها وشمسها وسندها الذي تتكئ عليه، الذي يضحي من أجل إسعادها، فبدونه لا مذاق للحياة ولا طعم، والحب لا يصادق الحزن أو الألم، وإنما هو منبع السعادة وراحة البال، وعلى غرار الشعراء القدامى وبتعبير رومانسي، ترى في أن القمر هو صديق العشاق :
نـجوم ِ الكون
يشع نورها
والقمر رفيق
للعشاق
(قصيدة للعشاق نبض)
قاسم مشترك واضح في أن القمر يثير حافظة العشاق على حد قول الشاعر العربي عمر بن أبي ربيعة، لما أراد أن يتسلل إلى حبيبته، فخشي من فضيحة ضوء القمر الذي مازال يتوسط كبد السماء، فأنشد قائلا:
وَغابَ قُمَيرٌ كُنتُ أهوى غُيوبَهُ,
وَرَوَّحَ رُعيانُ, وَنَوَّمَ سُمَّرُ ..!
ولم تتوقف شاعرتنا عند هذا الحد، بل وصفت العشاق، وهم يتبادلون الرسائل بشوق حارق، ولحظة انتظارها رسالة من محبوبها، متمنية لو كان لها جناحان لحلقت في سماه، فالهوى اقتحمها بكل صنوف الوله والحيرة، فسقطت صرعى هجمته الشرسة، ولم تستطع مقاومته، لأن حبيبها أسكرها بعسل كلامه، والحب هكذا يزلزل الكيان، ويحير الألباب، يُكبّد العاشق الهموم، يحير، يؤرق، يتعب ؛ ويصل الاحتراق بالذات الشاعرة حد التوسل للصبابة بالرحمة، لأنها ذاقت مرارة عشق لا منته، موجهة اللوم إلى حبيبها الذي سرق القلب منها.. عشق محتد في زمن مات فيه الحب، وإخلاص للمحب في زمن تملّى بالغدر والخيانات، وتبادل التضحيات في زمن غلبت عليه المصالح الشخصية، والأنانية والتصرفات النرجسية؛ فكما يضحي عشيقها من أجلها فهي الأخرى تبادله التضحية بركوب الأهوال والمشاق، مدركة أن الحياة تتلون، تارة تجرعها مُرّ الأسى، وأخرى تحلق بها في أجواء من الفرح، ومهما فعلت فقلبها لحبيبها وليس لأي كان؛ قمة الوفاء المشبع بالغزل النزاري، في قالب من الرومانسية الجامحة.. لن أطيل فَمواضيع العشق متعددة، وقدمتها شاعرتنا بجرأة في أطباق من ذهب، على غرار عشاق الأزمنة الغابرة يوم كانت النفوس صافية، والأرواح صادقة، والقلوب مؤمنة بالحب الوفي، والتضحية من أجله حتى آخر رمق ..
ــــ سحر اللغة العربية الممتع
فشاعرتنا لها تكوين فرنسي، وكانت مُدرّسة اللغة الفرنسية في المدرسة العمومية والمعاهد الفرنسية لسنوات، ولن تثنيَها الكتابة الفرنسية لو أرادت؛ ولكن اللغة العربية سحرتها، فصممت على أن يكون المنجز بها، وذلك لعدة اعتبارات، من ضمنها أن اللغة العربية جذابة في الأشعار كتابة ونطقا وقولا وأداء؛ ومن وجهة أخرى جرَفَ شاعرتنا سيلُ الشعر منذ نعومة أظافرها باللغة العربية، ولا أدري ما سر بُخلِها عنا طول هذه المدة لتمتعنا ؟؟ ..فشاعرتنا أنطقت اللغة، وأخرجتها من حجابها بلبوس متجدد، ضربت سهلها الممتنع بقوة، في بساطتها مراوغة انزياح عميق، لا يمكن القبض عليه؛ وفي مراوغتها بساطة ويُسرٌ بمعانيَ ودلالات غائرة، تحت قشرتها يمكن اقتناصها بسهولة..
وحدها الرّعشات
كما الضوء
تسافر
لا تذبلها الـمسافات
((قصيدة تغريدات الهيام ))
كما تخرج بها من القالب الشعري والتنميط، لتتقمص من السرد مشهدا حواريا بين أنثى وذكر، وذلك لإطلاق العنان للغة حتى تقول ما لم تقله؛ ومن وجهة أخرى لزرع الحيوية والحركية في النص وطرد الملل، وبالتالي يكون ممتعا، يستجيب لذائقة القارئ، تابعوا معي هذا الحوار الشيق من قصيدة ((أيا عاشقا لعيوني)): قال: عيـناك
سوادهما جنتي
ولو كانا
لغيري أنا
...........
قلت:
لونهما عسلي
فا كفهر وجهه
ــــ الشعر في قالب السرد
لقد طرزت شاعرتنا فاطمة متين اللغة بعدة ألوان، فهدمت في بعض القصائد القمم الشاهقة بين السرد والشعر، متبعة أسلوب الوصف، بأدق التفاصيل، وبكل ما يحمله السرد من عناصر كالزمان والمكان والأحداث والشخصيات، بنقل الأحداث كما تصورتها بخيالها الجامح ،وذلك لتوصيل الأفكار إلى القراء، وتحريك خيالهم، ومشاركتهم تجربتها وكأنها واقعية، وخير مثال قصيدة (( الحب المحال )) الذي تحكي فيه شاعرتنا بصورة رمزية عبر خيالها الشاسع، عن تعلق سمكة بحب بلبل له صوت صداح، ترتاح إليه العصفورات، والسمكة لا تدري هل يشدو لها أم لغيرها، والوصال محال، لأنه لا يمكن أن يغوص البلبل في الماء، ولا السمكة لها جناحان تطير بهما إليه، فالسرد اكتمل بشخصياته: البلبل والسمكة والعصفورات.. وبأحداثه : الحب/ الشدو / التنقل .... وبزمان ومكان الحادث: غصن/عمود/مصباح .....فعبر الشخصيات، والأحداث، والمكان والحبكة، والعقدة، والحل، صاغت شاعرتنا القصة في قالب شعري، حيث حلت العقدة في النهاية وهي أن الوصال محال ..
ــــ التساؤل يؤرق الذات الشاعرة
تقاذفت شاعرتنا منارة التيه في الكون، فلم تُخِفْها التواءاته ، ولا كهوفه ولا أغواره، اقتحمته بعزيمة وإرادة، لأنها مسلحة بنعمة الحب المستفيضة، فهي تحب نفسها، وغيرها ، وكل شيء في الوجود، بل بحبها تُحوّل كل ذميم إلى جميل، ولما غاصت في متاهات المجهول، وبدت لها الأسرار مبهمة، راودتها عدة أسئلة، لكن أجوبتها في كنه المستحيل، خاصة لما ولجت شاعرتنا إيوان الشعر، توغلت في معترك الحياة ، تصارع لجج الأزمنة المحملة بالتعب، تنقب في مباطن المجهول لتكشف المعلوم؛ فانحدرت مع المبهم والملتبس، لتفك أسراره الغامقة، وصعدت مع المقلق والمضجر، لتزرع البسمة والبشاشة، كما طافت حول الذميم، لتضفي عليه السحر فتحوله إلى جمال؛ فذاك بالكاد ما جعل شاعرتنا تمتلئ بجملة من الأسئلة ، تتناسل كلما حدّقت في مرافئ الوجود وغاصت في عوالمه، لتنشئ عالمها الخاص في ممكلة الشعر، ومالها من زاد في ذلك غيرُ مشاعرها وأحاسيسها، اتّخذتهما ملاذا حين تزلزلها الحالة الشعرية..
سؤالي إليك
ما الـحب؟ ما الهوى؟
ما الغرام؟
ما القلب َ ؟ ما الـجوى؟
ما الهيام؟
من قصيدة(( في الحب مناسك،))
أسئلة جامحة متناسلة مطلقة وغير منتهية، أرقت شاعرتنا إلى درجة أننا نجد بعض القصائد كلها أسئلة، والأسئلة لم تأت من فراغ، فهي حوار مع الذات، كلما وعت بالواقع، وكلما عرفت أشياء، تتراكم الأسئلة وتتناسل لتدرك أكثر، وتعرف سر الوجود، حتى لا يحرمها من أشياء تحبها، فيغتال أحلامها وآمالها..
ــــ الحكم والأمثال نبراس نقتاد به في حياتنا
شاعرتنا تتقلد مِزوَداً من المعارف، لملمته من سعة الاطلاع، والحمولة الموروثة من الثقافة الشعبية، وتراكمات من حكايات الجدات، والركض خلف كل ما هو جديد، والبحث والتنقيب عن المعلومة، والإصغاء إلى الكون بجوارحها وفكرها وتجاربها؛ لها عين تأملية ناقدة لكل ما يجري في بعده الطبيعي والإنساني، وما يستفزها من الظواهر الإنسانية والأحداث الواقعية، فطبيعي أن تبدع إلى جانب الشعر، حكما وأمثالا ، تقدمها للإنسان دروسا وعبرا ...
لا الشباب
يا كريم، يدوم
ولن يطول
لا بي أنا
ولا بك يا وجيه العمر
من قصيدة ((ياعاشقا لعيوني ))
غَرفتْ أمثالها وحِكمها من بعض مظاهر الحياة العامة، عاشتها أو حُكِيَ لها عن بعض تجارب الإنسان، فصاغتها بإيجاز في عبارات محكمة، ونقلتها إلى الآخرين للاستفادة منها…
ـــ الجانب الفني والفراغات والجرس الموسيقي والإيقاع الداخلي
المتصفح للديوان، يلمس فراغات متعددة ملأتها شاعرتنا بنقطِ تتابعٍ، وهذا دليل قاطع على أن هناك مسكوتا عنه، ومواضيع مختلفة تتشابك في ما بينها ، وكلمات تتلاحق وعبارات تتزاحم في ذهنها وعلى لسانها لتخرجَ دفعة واحدة؛ لكنها لم ترد أن تقول كل شيء، بل تركت الفرصة للقارئ ليشاركها تجربتها، فيملأ الفراغات والفجوات من منظوره الشخصي؛ على اعتبار أن القارئ مبدع ثان بعد المؤلفة، من يدري قد يلفت النظر إلى أشياء لم تكن على بال المؤلفة، أو قد ينير الطريق لقراء جدد، حتى يسهل عليهم الغوص في أعماقه، ونلمس هذا في أغلب القصائد..

كأن قلبك ... للأبد
من الحب ...أفاق
((قصيدة ثورة عاشقة))
يمكن ملء فراغ العبارتين كالتالي: كأن قلبك المجرد من الحب للأبد، من الحب.. لما أدرك طعمه، وتذوّق سرّه أفاق...وهذه الفراغات أضفت على الجمل لمسة جمالية لا شبيه لها؛ وحتى تكمل شاعرتنا فاطمة متين تجربتها شكلا ومضمونا، وشّحت نصوصها بالجرس الموسيقي، بتكرار حرف (السين) الذي طبع جلَّ القصائد، فجعلها تترنم بموسيقى خفيفة يمكن تلحينها والتغني بها :
ذاك سر الكون
ذاك سره
ذاك سري
((قصيدة سر الورد))
و حتى العنوان (في الحب مناسك)، لم يسلم من هذا الحرف الظريف،
وإلى جانب الجرس الموسيقي تناغم الإيقاع الداخلي، والموسيقى الخارجية، فتارة بكَلاَم مَنظوم مُقَفّى، وإن لم تدخل شاعرتنا زمرة البحور والتقيد بأوزانها...
يأكله الـمنشار
هو والهواء سواء
هو والهواء أحرار
((قصيدة بنهم يأكل القلوب))
وأخرى تسترسل القصائد بكل ما تستدعيه القصيدة النثرية، من شذرات ترتبط بعضها بالبعض في انسياب عجيب، محمل باهتزازات داخلية غير مرئية، وإحساس مربك لا يقاوم، لكنه يحدث الأثر في القارئ...
إليه
يهزنا الشوق
بعذابه اللذيذ
بين العشاقَ
ليس
غير الوصل
يشفي
((قصيدة شره أنت يا شوق))
ـــ ما يمكن الختم به
الديوان صيغ بأسلوب سلس، ولغة بسيطة، بعيدة عن الملتبس والمبهم، والألفاظ الغريبة والمعقدة، ليكون في متناول مختلف الشرائح المثقفة: الطالب والأستاذ والأديب، باعتبار الشعر رسالة نبيلة تحمل في طيها قِيَما مُثلى، على الإنسان أن يتحلى بها ويقتاد، أو تعرض تجربة أدبية تُلِزِم القراء مشاركتها... يحق لمكتبتنا أن تخصص له بكل فخر حيّزا مرموقا، كما يُسعِد القارئ أن يحتضنه بقراءة نموذجية عميقة.. بالتوفيق عزيزتي ننتظر المزيد...
بقلم مالكة عسال

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟