ملحوظة : "كل تشابه أو تطابق مع شخصيات هذه القصة ليس من محض الصدفة، ولا من نسج الخيال."
لم أستطع نسيان ذلك اليوم بتاتا ولن أنساه، وهو الذي كان له كبير أثر في حياتي.. أبلغ الآن من العمر أربعين سنة ونيفا، لكني أحمل عاهة نفسية كبيرة لا يستطيع الطب المتقدم أن يحلها، وهي أني امرأة بدون طفولة، أو بالأحرى لم أتمكن من الانخراط فيها على غرار العديد من الأصدقاء الذين يتحدثون عنها بإحساس مزدوج، يمزج بين الحسرة على فقدانها، والافتخار بأيام مغامراتها وحماقاتها..
في ذلك اليوم الذي لن أستطيع التخلص من كابوسه، كنت ألعب أمام باب البيت، حيث خرجت والدتي فجأة ثم نادت علي بطريقة غير معهودة، خلت في الأمر شيئا غير معهود، لكني ما إن وددت استفسارها حتى أخبرتني بأن أحد الضيوف سيزورنا خلال هذا المساء، وأنه علي أخذ حمام ساخن وارتداء أفخر ما أملك من الملابس، بدا لي الأمر غريبا بعض الشيء ، إذ ما علاقتي بهؤلاء الضيوف؟ ومتى كانت والدتي تهتم بمظهري حين زيارة أحدهم؟
قضيت ما تبقى من المهلة المحددة وأنا أعيش على إيقاع إحساس غريب، لأول مرة منعتني والدتي من الخروج إلى اللعب أمام البيت عندما نادت علي صديقتي، أجابتني بنبرة حاسمة بسبب إلحاحي الكبير بأني لم أعد صغيرة لألعب... توقف تفكيري وشل تماما، كيف لم أعد صغيرة؟ صراحة لم أستطع استيعاب ذلك، ولم أجد جوابا لهذا التحول المباشر السريع: كنت طفلة في الصباح ولم أعد.. ما هذه الغرابة؟ على العموم كان لا بد من الانتظار لأفك هاته الطلاسيم .. قبل حلول المساء جاءت إحدى الجارات إلى البيت، لما رأتني حملتني حتى أصبح طولي موازيا لطولها، تبادلنا نظرة خاطفة من خلالها أحسست بشعور رهيب، وضعتني برفق ثم همست في أدني قائلة: ـ كوني امرأة مثل أمك...!
كانت والدتي تروح وتجيء في البيت رفقة جارتنا التي لم تكف على النظر إلي بطريقة يصعب شرحها، يتهامسن فيما بينهن حينا، ويعكفن على ترتيب البيت حينا آخر، إلى أن أتت والدتي وأمرتني بأن أذهب إلى الغرفة لأن الضيوف أوشكوا على القدوم، وأنه علي الركون هناك إلى حين مناداتي، سلمت بالأمر ثم انصرفت وآلاف الأسئلة تكسر مضجعي دون التمكن من العثور على جواب شاف..
حضر الضيوف في الموعد المحدد، جلست معهم والدتي وجارتنا، كانوا يتكلمون بطريقة مقتضبة كأنهم يتفاوضون لشراء بضاعة ما، أغلب ما التقطته مسامعي بضع كلمات فهمتها من قبيل: العرس والزواج وعشرة آلاف درهم وقراءة الفاتحة، وأخرى كنت أسمع بها لأول مرة كالمهر، ومؤخر الصداق.. كسر ضجيج أفكاري صوت والدتي وهي تناديني بأن آتي، لما وقفت أحسست بأرجلي ترفضان الذهاب رغما عني، كان العالم ثقيلا بطريقة لم أعهدها من قبل..
لما وقفت أمام باب الغرفة أحسست بكل العيون ترمقني، عيون تدخل إلى جسدي الصغير وتحاول كشف أسراره التي لا أعرف عنها أي شيء، أمرتني والدتي بعينها أن أجلس، لما أذنت لها وجلست سمعت أحدهم يقول: تبارك الله على ما عندك.. ابتسمت والدتي فيما انفرد آخر بالكلام: والله لم أكن أتصور أنها بهذا القد والبهاء.. التقت نظرتنا لأول مرة، كان صاحب هذا الكلام رجلا خمسينيا فيما أعتقد، ذو لحية كثة ويحمل سبحا في يده، فيما كانت تجلس إلى جانبه امرأة طاعنة في السن ذات ملامح قاسية سأعرف فيما بعد أنها والدته، المهم انتهت الزيارة فانصرف الضيوف دون أن تنصرف عني تلك الأحاسيس التي لم أعرف تفسيرا لها.. انتهى زمن اللعب رفقة صديقاتي/ انتهت الطفولة رغما عني..
في ذلك اليوم قالت لي والدتي بأني أصبحت عروسا على غرار النساء الحرائر، وأني سأصبح أما مثلها فيما بعد، أجبتها بكل براءة: ــ وماذا عن اللعب أمام البيت.. صفعتني ثم أمرتني بصوت مرتفع: ــ لقد أصبحت امرأة، لك زوج يجب أن تطيعيه، وبيت يجب أن تصينيه.. بعدها بقليل أقبل الضيوف مرة أخرى رفقة أشخاص آخرين، ألبسوني ثيابا لونها أبيض، وضعوا إكليلا على رأسي، ثم طلبوا مني الجلوس بجانب الرجل الخمسيني الذي كان يبتسم بين الفينة والأخرى، رتلوا بعض آيات القرآن ثم حملني إلى بيته فيما كانت والدتي تذرف الدموع، أصبت بصدمة من خلالها بدا كل شيء أمامي باردا جدا.. لما وصلت إلى بيت الرجل الخمسيني هزني بقوة ثم أدخلني غرفة لا تقل برودة عن هذا العالم، نزع ملابسي ثم قال لي: ــ لماذا تبدين غائبة تماما، أنسيت أن رسولنا الكريم تزوج عائشة وهي بنت التسع سنوات؟ لم أفهم ما كان يقوله، وضعني بقوة على السرير.. همس ببضع آيات من القرآن، امتص نهدي الذي لازال برعما صغيرا، بعدها نزع تباني ثم أخرج شيئه الذي أدخله فيّ بكل قوة وهو يلهث، صرخت بشدة ثم غاب عني العالم تماما كأنه لم يكن، ومعه غابت عني كل الأشياء بما فيها الذاكرة الميتة.