في صدر الخيمة الفسيحة ذاتَ عزاء، اقتعد "باعزوز" ذو السبعين عاما أو يزيد كرسيا، في جلسة تحيل على نخوة الزمن الجميل، وهو يجيل بصره بين الداخلين والخارجين، ويتفرس وجوه شبان مختلفين عما عهده من أبناء جيله: كانوا حليقي الرؤوس بأشكال غريبة ودهون وطلاءات تغطي وجوههم ورؤوسهم، وتلمع في أصابعهم الخواتم وفي أعناقهم السلاسل...
تحدث إلينا وهو يغمز من قناة الشبان قائلا: لقد كان من عادة القبائل في زماننا، كلما حلت أيام التشريق والأضاحي، أن يلاعبوا بعضهم البعض لعبة " الجلود" حيث يعمد شباب قبيلة ما، للهجوم المباغث على قبيلة أخرى، فيخطفون منهم جلود الأضاحي. وعادة ما يتم الهجوم على متن خيل أو بغال. ومتى تمكن المهاجمون من الفرار، أقاموا لذلك حفلات رقص وغناء، يتباهون بها إزاء القبيلة المنكوبة. فإن سقط أحد المهاجمين بيد الأهالي، فإن قواعد اللعبة تقتضي أن يجعلوا منه مثار نكبة واستهزاء للقبيلة الغائرة، إذ كانوا يلبسونه لباس النساء، ويغدقون عليه المساحيق من كحل وسواك وحناء، ويزفونه للقبيلة مثل عروس على ظهر بغلة عرجاء... وعادة ما تلاحقه تلك الشتيمة طول حياته...
لاحظ "باعزوز" تضايق الرداد الذي سبق أن وقع في قبضة قبيلة، فتحول من فارس مغوار إلى عروس ذات خلخال وسوار، فأخذ يهدئ من روعه قائلا: لا عليك أيها الرداد العزيز، فقد كان وجهك الآخر مجرد لعبة متعارف عليها... المشكلة يا جماعة، أن شبابا يجلسون أمامي دون أعرف اسم القبيلة التي غيرت ملامح وجوههم، وجعلت منهم رجالا بمساحيق النساء...
قال الرداد وقد أعاد له "باعزوز" جزءا من كرامته المسلوبة منذ زمن: هؤلاء يا " باعزوز" فئتان: فئة ركبت البحر على متن قوارب الموت في تحدٍّ للأعراف والمواثيق، فعادت بالدهون والمساحيق، وفئة شدها بريق الجلود عبر الشاشات على اختلافها، فغارت عليها القبائل من شتى الحدود، ثم باتت من غير جلود...