مُحاذاة باب القصر المَلكي . وقفت الفتاة البيضاء قبالة سَاحَة الشَّرق، حيث لا عيبا يشوب صَفاء صوتها . فتاة ترتدي الأبيض .الحذاء أبيض كلون القصر . كانت هي الأخرى تنظر نحو الشَّرق حيث افريقيا تحترق و الشرق الأوسط بما فيه حضَارة العَرب القديمة تحترق . الجهلُ و الحِقد تشبَّت بأظافر دامية بكراسي السُّلطة . رؤساء أنتهوا دماء . انتهوا في طريق الهَرَب . انتهوا وراء-خارج القُضبان . الفتاة كانت تُخرِجُ ألحانا حزينة كحُزنٍ قديم مدفون في صدر رجل عربي يتألم من حاله وحال ما آل إليه هذا العالَم الذي يلوي عنقه الأشرار نحو العُنف و القِو... !.
اليوم هو يومٌ مِن أيام غُشت . سماءُ أوربا كانت حارَّة شيئا ما في هذا اليوم .هنا أتى هذا العربي ليقضي أياما مُفعمة بالحياة ، هاربا من صَهد افريقيا و من حرارة مشاكل الإخوة الأعداء .في اسبانيا ، في مدينة من مُدنها الجميلة . مدينة تسكُن القلوب . أبواب القصر كبيرة بدون حواجز إلاَّ من شريطٍ بلاستيكي يشبهُ الأشرطة التي تضَعُها الشُّرطة العلمِية المغربية أثناء التحقيق في جريمة قتل .سيارات شرطة اسبانيا .نوافذ القصر الملكي بعضها مُنفَتِحٌ على الخارِج . تنظرُ إلى قصور الشرق. تعانق الشمس كل صباح .أشعة كلها طاقة و حرية و جودة حياة .بين النوافذ تماثيل .تظهر و كأن التماثيل هي من تحرسُ القصر .
البابُ الخشبي أمامه بعض من رجالِ الشُّرطة . بابٌ كبير مُغلق . باب زُيِّن بأعمدة مُذَهَّبة و مصابيح كلاسيكية و نقوش نُقشت بكل تركيز . القصر ثُبِّتت أمامه تماثيل مُلوك مروا من هنا . حكموا البلاد العائمة في شبه جزيرة غرب أوربا .وُزِّعت حدائق زهور و أشجار سامقة .
كانَ صوتٌ الفتاة حزينا ، قدِّيسا صَوتها . نوتاته ، ذبذبات طولية تَخرُج بيضاء أيضا . بياضٌ كبياض لباس المَغرِبيَّات اللآتي فقدْنَ بُعولتِهُن . بياضُ الحُزن . بياضُ اللقاء مع الله .كلما وضع سائحٌ قطعةٌ نقديةٌ تنحني الفتاةُ احتراما . تُحافظ على ايقاع صوتها الدافئ الذي يوحي بالبياض ، بياضُ الموت .السياح لكثرتهم يصطفُّون في صفٍّ طَويل ، يستعدُّون لولوج القصر . القصرُ الذي بُني على ربوة مُطلة على مُدن الشَّمال كموقع شالَّة الأثري المغربي الذي يُطل على مدينة سلا المغربية قُرب الوادي الرقراق . القصرُ مزينٌ بأقواسٍ كأقواس مدينة سطّات المغربية. كل باب بقوس حتى يمكن لك التحرُّك بدون حَرج . الأقواس زُيِّنَت بمصابيح كلاسيكية .
في ممر آرييتَّا و تقاطعه مع ممر فيليب الخامس - الملك الذي ازداد في فرنسا و حَكَم أطولَ مُدة مملكة اسبانيا و انتهى فيها - وقفَ عشيقان يتبادلان القُبَل و العِناق .مَرَّت بُوليسية على حِصَان ، تنظِّمُ مرور السيارات العَاِبرة . أكملَ العشيقان الطريق . الفتاةُ ما زالت تُغنِّي بذاك الصَّوت الحزين الذي يتجهُ نحو الشَّرق ، نحو السماء ما دام أن الصَّوت موجة ثُلاثية الأبعاد تنتشرُ في كل الإتجاهات .
كاماريرو ، هذه الفتاة الإسبانية الشقراء التي تتحرك بكل حُرية داخل المقهى - بار . تتحدث بكل ثقة مع الزبناء .
- واضح Claro ! ,
- أكثر هدوء Mas Tranquilla , . تردُّ للزبون الذي يضعُ نظارات طبية وهو يأخذ هاتفه النقَّال من مصدرِ الشَّحن .
- Gracais , Adios . هذا ما قاله وغادر المقهى- بار دار الأوبِّيرا، في الطابق الأرضي من أوطيل أوبِّيرَا . ترك نصفَ كأس به ماء غازي مع بعض قِطَع الثَّلج ، كأس قهوة على صَحن ، ملعقة صغيرة مُنغمرٌ رأسَها داخل الصَّحن . دخلت المقهى - بار فتاةٌ في الثامنة عشرة من عُمرها تقريبا ، تضع قراط في أنفِها . بيضاء كبيضة مسلوقة .سروالٌ قصير جدّا.. شعرٌ بلون أشعَّة شمس الشُّروق الذي تُغنِّي له فتاةُ القَصر .
- Hola! . هكذا ردَّ الكماريرو عنها وهي تبحث عن بعضِ المشروبات الكُحولية و غادرَت في صَمت .
- كانت الفتاةُ ، فتاة الموسيقى ما تزال حبالها الصوتِية تَهتزُّ على واقعِ احتراقَ العالم ، حيث انهارت بناياتٌ و سارت حكاياتها مع خرير الأنهار ، نهر المينهو و نهر أم الربيع الحزين الذي يمرُّ ميتا جنوب سطّات و يرى الحياة في منطقة دكالة .
حضَرَت شاحنةٌ مُحَمَّلٌة بخيولِ القَصر . سائقُ الشاحنة ينظُر في ساعةِ هاتفه النقَّال . الوقت هو الوقت هنا ، لا تأخر إلا بدقيقة على الأكثر إذا كان هناك من مشكل لدى زبون ما .
شَتَّان فُروق بين الغَرب و الشَّرق . الشمسُ تشرقُ هناك حزينة ، متلهِّفةَ للغروب .تغرُب على ايقاع القَتل وهنا في الغرب ِتغرُبُ على ايقاع القُبَل . تغرُب على ايقاع الابتسامات و العَمل و فرح العصافير على طاولات المقاهي .الشمسُ في الشرق وفي افريقيا تُشرقُ على ايقاع التناحُر و الحِقد و بؤس الجهل و غياب مظاهر التسامُح بالمُطلق! .
- Hola !, Buenas noches !
- Senor !. كلِماتٌ يُخرجُها الكَمَاريرو من أعماقِه و ليس ككلمات نادل في المملكة جائع ، ما أن يرى زبونا إلاَّ و يقفُ على رأسه قبل أن ينطبقَ جفن الزبون .
Come , Come ,Come into my life ! ...
هكذا تزيد الموسيقى كمية هدوء على المقهى- بار هنا قرب القصر المَلَكي . القصر الملكي حيثُ وراءه تبتسمُ حديقة المَغَاربة لكلِّ سُيَّاح العَاَلم . هذا الهدوء يضاف إلى سكينة وحرارة كلمات فتاة الموسيقى . تتشابكُ موجات الموسيقى ، الموسيقى الروحية و موسيقى المقهى- بار .السيارات تسيرُ بهدوء في اتجاه المَسرح الملكي في مَمَرِّ آرييتا . الوقت هو الوقت . الوقتُ هو سيد المَوقف . دَقَّت أجراسُ الكنيسَة . الكنيسة الجانبية قُبالة القَصر .كنيسة سانتا ماريَّا . انتهى وقتُ زيارة القَصر .توقَّفَت حبال أصوات فتاةُ القَصر بعدما غابت أشعة الشمس التي أكملت مسارها في الممر حيث العشيقان كانا في بَوس و عِناق .مرَّعشيقان آخران ، اليدُ في اليد ، كما عادت فتاتان من بنات عيسى من نفس المكان في نفس الوقت، في مدينة العِشق .
شعيب دواح الزيراوي / " الشيخُ و الغجريات " .