غرفة مظلمة وضيقة باردة كقطعة ثلج، تأوي جسده المنهك، برغم الدفئ الذي يتناثر كرذاذ بالخارج بقليل من خيوط واهية لأشعة شمس الشتاء الكئيبة. بكثير من جهد، أيقظ نفسه الغارقة في شبه رقود الأموات، كان شديد الإرهاق من قلة ساعات نومه التي يستنزف منها وقتا طويلا في التفكير في كل شيء وفي اللاشيء.
أخذ نفسا عميقا، ابتلع برئتيه ما تبقى من هواء الغرفة الرطب، كأنه يمتص دخان آخر سجائره بشراهة، للتخلص من رعشات توتر تلازمه كأنفاسه المتقطعة. حذق بالمكان الذي يدفن فيه جسده، مسح بعينيه الذابلتين كل زاوياه. لا يجد كالعادة أي عناء في تفقد محتوياته البسيطة: سريره الهش، كرسيه القديم، ودولاب خشبي صغير متهالك، يخفي بداخله ملابسه، ومرآة كبيرة ملتصقة بالباب. ولايمكن أبدا أن يغفل النظر للاطمئنان على عنكبوت يتقاسم معه جزءا صغيرا من سقف الغرفة.
أوقف رجليه الخاويتين، تمطط بحركات بهلوانية بيديه، لوى عنقه يمينا ويسارا، ارتعش بجسده ليسترجع قليلا من الدفئ، وقف وجها لوجه أمام المرآة.
نادرا ما يلتفت للمرآة؛ ينظف عنها الغبار كلما اتسخت أحيانا، يحس عند اختلاس النظر إليها، بأنها تزيد غرفته الضيقة فائض مساحة لا يستفيد منها اطلاقا. أمعن النظر مزهوا في المرآة، تحسسها بكلتا يديه، تطلع أكثر إلى المساحة بداخلها، فجأة أصابته الدهشة وهو يكتشف لأول مرة بأنه ليس الوحيد الذي يسكن غرفة بدرج المنزل، يستغل المساحة الزائدة في المرآة. كان حريصا ألا يعلم أهل البيت بما يتمتع به من مساحة زائدة، لكنه اليوم يصاب بخيبة كبيرة وهو يرى ذلك الآخر الذي يشبهه، يستغل هو أيضا جزءا من الغرفة في الطرف الآخرمن المرآة.
وليتأكد مرة أخرى من استمرار وجود ذلك الغريب، أعاد النظر إليه من خلال المرآة. هذه المرة تعمد أن ينظر إليه بحدة، بنظرات تنم عن سخطه الشديد. يتفاجأ بكون الآخر في مثل سخطه وغضبه، وفوق ذلك يرتدي نفس ملابسه: سروال منامته البني القطني القصير، قميصها البنفسجي بأزرار أقل، طاقيته السوداء الكبيرة التي تكاد تخبئ نصف رأسه. أواه !.. أوصلت به الجرأة أيضا لارتداء حتى نفس ملابسي؟ هكذا حدث نفسه حانقا.
تذكر لبرهة كلاما لأمه كان يسمعه مرارا منذ الصغر هون عليه بعضا من قلقه، أن النظر طويلا في المرآة يثيرفي النفس وساوس الشيطان، واعتقد أن يكون الآخر مجرد صورة لشيطان بقرون عابر لغرفته. أطل بحذر شديد، رآه بإمعان تبين أن رأسه بلا قرنين، ومع ذلك أصر على الاعتقاد بأنه حتما شيطان أو شبح له.
ارتشف جرعة ماء بارد، بلل وجهه بقطرات منه، تمتم بكلمات تعويذة حفظها عن أمه، حين كانت تتلوها عليه مساء مع قليل من دخان البخور، وهي تخربش جسده الصغير بقرصات لاسعة عقوبة له، كلما استبدت به رغبة القفز واللعب بسعادة في برك الماء الراكدة شتاء، وعاد مبتلا مرتعشا إلى المنزل.
تقدم بخطوات حذرة جنب المرآة، بسط كف يده اليمنى على سطحها، حركه يمينا وشمالا، لاحظ بأن الكف الآخر في المرآة يتحرك تماما ككفه، ثم أطل بوجهه بابتسامة ساخرة، فأطل عليه الآخر كذلك بنفس ابتسامته. انتصب فجأة أمام المرآة، وجها لوجه ومباشرة أمام غريمه. نظر إليه بإمعان شديد، رآه ينظر اليه بنفس النظرة، تبين له بأنه يشبهه كثيرا، وتذكر المثل القائل بأن الله يخلق من الشبه أربعين، ابتسم ساخرا بأن معه شبيها واحدا فقط، أفسد عليه راحته، فماذا لو اجتمع عليه الباقون. تهيأ له في فكرة مجنونة أن يكون الواقف أمامه أخوه التوأم، لكن لم يستطع أن يتذكر ولو لحظة واحدة أن أمه أثارت مرة خلال حديثها عن ولادته أن له أخا توأما. كل ما يتذكر أن ولادته كانت بأوجاع عسيرة، تقرر معها الاستعانة بأكثر من مولدة لإخراجه الى كوكب الأرض، لقد كان متمسكا، كما يحلو لأمه أن تحيي ذكرى مولده، كلما حل ببيتهم قريب، عند كل مناسبة أوبغيرها، برفضه لإخلاء مكان اقامته الدافئ. وقد تطلب الأمر لعناده، اغراءه بحلويات ولعب من أجل أن يستسلم ويفرغ رحم أمه، دون اللجوء لاستصدار أمر طبي، للقيام بإجراء عملية قيصرية لإخراجه قسرا. وهو ما جعله في الأخير يتنازل لهذا العرض المغري، ويخلي ملكا خاصا احتله لمدة تسعة أشهر.
أخذ من جديد نفسا عميقا، تيقن بأن الشبيه الواقف أمامه لا يمت له بأي صلة قرابة أوأخوة. تساءل في نفسه، إذن من يكون هذا الغريب؟ شبحا روحا شريرة؟ أمعن النظرفيه أكثر بحثا عن إجابة لاستفهاماته المتوترة. بدا له ينظر اليه باستغراب، يحمل نفس هم أسئلته الحائرة. مد يده اليه للسلام عليه، فمد الآخر يده، جال بخاطره أنه انسان مثله وله الحق في أن يشبهه او يختلف عنه، فله نفس خلقته، الفرق الوحيد بينهما أنه لا يكاد يسمع صوته ولا أنفاسه ولا يشتم رائحته، وتساءل إن كان يستعمل عطرا ما، على الأقل ليس مثله، هو الذي لا يملك من العطر الا رائحة جواربه وأحذيته القديمة. تساءل لبرهة إن كان الواقف أمامه يأكل ويشرب وينام ويقضي حاجاته.. إن كانت لديه أحلام وطموحات يسعى الى تحقيقها. جلجل بضحكة ساخرة، نظر في عمق المرآة، لاح له الطرف الآخر من الغرفة، حيث يقف شبيهه، تبين بانه يتملك ما يملكه من فراش متهالك، وملابس قديمة، مثله تماما يعاني ما يعانيه من وحدة وضياع وبؤس. مثله مقيد داخل غرفة بئيسة كمسجون منسي في أحد القلاع المهجورة، لا أحد يسأل عنه إلا صاحب المنزل لأخذ ايجار قبر حياته. تأسف كثيرا لشبيهه الذي يعاني في الطرف الآخر في صمت، فهو لا يتكلم لا يحتج لا يتأوه، ليس لديه أية مطالب يدافع عنها كأنه استسلم لمصير واقعه المجهول. ضحك في سره سخرية من الآخر، فبرغم الشبه الكبير بينهما واقتسام غرفة صغيرة مظلمة، فهو على الأقل يحلم أن تتغير ظروفه يوما ما. أحس لأول مرة بالانشراح لقدرته على الحلم، فبدأ يرقص ويضحك تعبيرا عن فرحته، أثار استغرابه أن الآخر يقلده في حركاته الراقصة. لم يستسغ هذا الأمر، فهو مقتنع بأسباب رقصه، أما الآخر لم يرقص؟ أسعادة بخيبته وبؤسه؟ تساؤلات كثيرة تناثرت في ذهنه كفقاعات هواء جامد. اقترب أكثر من المرآة، التصق بها، التصق به الآخر. الوجهان متقابلان، العينان متيقظتان غضبا، نظرات حادة متبادلة، تدافعا بقوة بكلتا يديهما، صمدا معا في المواجهة الشرسة، تصبب عرقهما، علا زفيره لوحده، تقطعت في لحظة أنفاسهما، استلقيا كل على سريره، تقابلا بنظرات حادة، تمعن فيه من جديد، تساءل مع نفسه، كيف لهذا الشبيه يفسد عليه راحته؟ كيف دخل فجأة حياته من دون أن ينتبه له؟ أوربما كيف دخل هو حياته؟ تساءل في لحظة قلق، إن كان هو الدخيل على الآخر وليس العكس؟ ان كان الآخر صاحب الغرفة الحقيقي وليس هو؟ تحسس أطرافه كلها ليتيقن من وجوده حقيقة، تهيأ له ان هناك عالمان منفصلان، عالمه وعالم الآخر، اختلطت عليه أفكاره، ضاع في متاهات تساؤلات مترددة، لم يعد متيقنا إن كان انسانا أم ظلا، حقيقة أم خيالا. اكتسحته رغبة شديدة لمعرفة الحقيقة. حقيقة وجوده ووجود الآخر، وجودهما معا في نفس المكان، في عالمين شبيهين متقاربين متباعدين في نفس الآن. أهي محض صدفة هذا الوجود الذي لم يفكر في أمره من قبل.
قرر عبور بوابة عالم قهر أنفاسه، بدأ يدفع بجسده المنهك نحو المرآة بكل قوته وهو يصرخ، ويصرخ معه الآخر في صمت. انشقت فجأة المرآة، رأى وجه شبيهه مذعورا يتشظى كقشرة بيض، رآه ينظر اليه بكثير من الحزن، تطايرت الشظايا تحمل كل واحدة جزءا من حيرته في البحث عن الحقيقة. اصطدم رأسه بجدار بارد وسميك، دفع بجسده المرهق بقوة وغاص في السراب، يحمل معه سر مرآته.
عقارب الساعة تلامس منتصف الليل، انساب فجأة، صوت نسوي هادئ بداخل مقطورات القطار، معلنا وصوله الى خط النهاية، كسر عليه خلوة سفر داخل قصة مرآة، سارت به في رحلة غريبة لم يتوقع وجهتها ولا محطة نهايتها. أحس بالقلق والحيرة، أحزنته معاناة رجل الغرفة مع ساكن المرآة، لم يفكرمن قبل بعالم المرآة والتي يزين بأكثر من واحدة منها غرف منزله، لم يقف مرة واحدة أمامها بفضول، مستفسرا عن وجود ذاك العالم الآخر القابع بصمت هناك في الطرف الآخرمن المرآة بعيدا عن ضجيج واقعه المعتاد، غادر مقطورته، توجه مسرعا خارج القطار، كأنه يحاول الانفلات من ضيق غرفة مظلمة بشظايا مرآة، وطيف رجل التهمه الظلام.
جر خطواته المتثاقلة نحو بهو المحطة الفارغة إلا من بضعة عمال ومسافري آخر قطار الليل، أسرع نحو الباب الرئيسي للخروج، لاحت أمامه الأبواب الزجاجية كمرآة عملاقة، تهيأ له كأنها تفتح فمها الشفاف لتلتهم العابرين منها، رأى في مواجهته على الزجاج أناسا بدورهم قادمين من سفرما، لاح له وسط الحشد القليل، شبيها له يتحرك قادما نحوه، أرعبه أن يقترب منه ويلتصق به ، أن يعانقه أن يرافقه رغما عنه، حاول طرد وهم خيال قصة قرأها لصرف ملل وقت سفره الليلي الطويل، كان اعتقاده الواهم بحقيقة وجود ذاك العالم المريب الذي تجلى أمامه أقوى من أن يستطيع الدوس عليه، وينسل بسرعة خاطفة عبر البوابة الزجاجية إلى عالمه المعتاد، فكلما اقترب من الباب زاد اقتراب الآخر منه، وازداد خوفه وقلقه، حتى التصق بزجاج الباب وصرخ مذهولا بصوت مرتفع، صرخة قوية كانت كافية لإيقاظ سكان العمارة في منتصف ليل شتاء جد بارد .. كان وحيدا متجمدا، يحذق بعينين جاحظتين في ذهول مخيف، وجهه في مرآة غرفة المصعد الكهربائي، ويصرخ " أين أنا؟ .. اين أنا؟ .. " صرخ عدة مرات وصمت.
استفاق من شروده، توجه مسرعا الى شقته، لم يدرك أنه قضى وقتا طويلا بالمصعد، حين عاد متأخرا ومرهقا، بعد تسكع ليلي طويل، يجر معه خيبته في شوارع مدينة كبيرة، كل واجهاتها مرايا مخيفة تلتهم أنفاسه. دخل شقته الباردة، توجه مباشرة الى المرآة، نظراليها بخوف شديد، بدا له أن وجهه في الطرف الآخر من المرآة لا يشبه في شيء، إنه وجه من زجاج يسخر منه، فما كان عليه إلا أن كسر المرآة بقوة بكلتا يديه وهو يصرخ من جديد " لست أنا .. لست أنا .."
حسن حصاري – المغرب –
25 فبراير 2018