الرهان على البغل
سحبَ الكرسيَّ نصف المهشم وامتطاه..حاول أن يتمطى فضاقت به المساحة المكتظة بأرجل أشباه الرجال..كل ما فيه ذاهل،كل ما حوله ذاهل.. سحب الكرسي المتيبس وأراح عليه عجيزته العظيمة،تتقاذفه خزعبلات من شتيت أفكار لم يؤمن بها يوما كما تقول له شريكة ما تبقى من تعاسته..هو مطمئن للكرسي كاطمئنان ما حوله.. ولا يدري أين يقف العقل الكسيح، بل متى يقف..
ألغت الشاشة الكبيرة المكتنزة بالصور الزاهية كل سؤال..جرَّ الكرسي إلى زاوية تمكنه من المتابعة الجيدة ..تألم الكرسي من عنف السحب .. امتعض رئيس كل الحاضرين وخادمهم من إهانة الكرسي.. لعن الساحبَ بصوت مسموع.. بلع الساحبُ الإهانة مثل كل المحشورين في المقهى.. ودَّ لو أنه في بيته مستلق وجهاز التحكم في يده يقلب به العالم كما يشاء..يقاطع مثلا خطاب الرئيس،أو يحذف الصوت ويستمتع بحركات الشفاه التي لا تقول شيئا.. مثل أفلام السينما الصامتة.. ليس للأمنيات مكان في تجارة الفرجة..
أفاق من نصف قرفصته على كرسي متداعي الأرجل، تتصاعد روائح الأقدام المتعرقة لتصنع سيمفونية المناخير الراصدة..وغير بعيد عنه وصله صوت ارتطام المدن المفخخة.. وانفجارات قنابل النشادر.. وتحليق الذباب الأزرق انتبه بعد إفاقته تلك... سيداتي سادتي أنعم الله مساءكم ..ها نحن اليوم مع موعد تاريخي (مواعيدنا كلها تاريخية!) من تصفيات كأس ؟؟؟؟..وانتبه إلى كأسه الفارغة وموعده العرقوبي وبلغت رائحة الارتطام أذنه،وتبعه طعم تأوه لذيذ كصوت الصفارة في ملعب كرة القزم؛ أي نعم القزم..هل عندك اعتراض؟..العرق يتصاعد في أنحاء الوطن،عفوا في أنحاء المسامات المسدودة بالأسمنت والغبار والريح العاتية ..ووجه القرف يكشف عن ابتسامة مكدودة ترتطم في أفق الحائط،والأرصفة نصف المبلطة تكنس العابرين كي يلتحقوا بالعالم ..عالم منصت للبكم المفوَّهين!
(ليس لي إلا هذا العالم..كادح طوال النهار..ثم لا أجد ما أملأ به مصارين الجراء..وماذا سأجد بالبيت؟ أمَّ الجراء وضجيج قبو من غرفتين وحمام، وتزاحم على الشاشة المضببة ..وقائمة مطالب..أليس المقهى منتزهي..من تكون حتى تروي سيرتي؟ ..ما دخلك في راحة الناس؟.. هل يزعجك أن أفرغ رأسي المليء بالهموم في مقهى الشعب؟..احتفظ بأرسطوقراطيتك..دعني وشأني..) للبطل حق في رفض ما أرويه..
عينان تلعقان الركلات،وأذنان ترهفان للمعلق بخمسين قدما، والأرجل تذرع مساحة صغيرة تتدحرج عليها كرة وزنها أقل من قنفذ.. يتناوشها اللاعبون كأن لهم ثأرا قديما عندها، والكل محشور في شاشة صنعت بهصر كرة الدماغ وعصرها من مادتها الرمادية لتوضيح الصورة للمشاهد اللئيم المملوء فمه بكرة الشمَّة،والمفعم رأسه بغيبوبة صوفية أو وَبَـرِيَّة (كما تشاء أيها القارئ).
(ما دخلك في الشمة ...في الشمة لذة لا يعرفها إلا من ذاقها..بعد وجبة لوبيا متبلة ومزيتة بزيت الزيتون...لا بد للرأس من نشوة تنسيه المتاعب والهموم..وتفتح له مسام التفكير..الحق في الشمة مكفول دستوريا..)
العرق ينبجس من الجبين،من الرقبة،من الإبطين، وعلى طول العمود الفقري،من بين الفخذين،من بقية الوطن،والقماش الذي يستر هذه الكتلة الآدمية يوشك أن يتمزق من ملوحة العرق،واهتزازات الحمية؛ حمية الكرة!(من شدد شدد الله عليه).
تتقافز أسرابها،يطارد الذكور الإناث في نشوة عشق ذبابي،ثم تحط على الأفواه المفتوحة من دهشة دهسِ الكرة،وعلى الأفواه المغلقة تقيم قبائل الذباب ولائمَها بعد الطواف ما بين المرحاض والحلويات المعروضة...
(أوووه لقطة رائعة..يراوغ..يمرر..يرجع بالكرة..يحولها ناحية الجناح الأيسر.. يمررها بسرعة..عالية أوووووووه بين يدي الحارس..) ولا جديد، ستكون الرمية إما رائعة أو ضائعة، واهتزاز الجسم على كرسي متداعٍ سيسمح بتدفق مزيد من العرق..الرؤوس تتمايل في الحضرة..الغيبوبة تامة وبإشراف الفيفا!!
توقف اللعب! .. ثمة ساقط على أرضية الملعب، الكرة أخذت بثأرها،الكاميرا تتلصص على اللاعبين،من يمسح جبينه،من يتحسس مؤخرته،من يدعك ما بين رجليه،من يسوي تبانه،أو جوربه،وها هي تتابع واحدا منهم.. الآمال العريضة معقودة عليه،ونشوة الانتصار ستكون من قدمه المباركة ــــ لا شلت قدمه ــــ تقترب الكاميرا من وجه اللاعب، بيده قارورة ماء،على وجهه كرات بلورية،لسانه في فمه يتكور.. الجمهور في المقهى يبحلق بأعين جاحظة،وآذان مسدودة،يقترب اللاعب من الكاميرا..أو تقترب الكاميرا منه ..الشكولاطة في يد أستاذ الموسيقى الحالم بالهجرة إلى أوروبا لينتزع التاج من فاجنر وبيتهوفن، ويُخْرِصَ موزارت!! .. يقرب الشكولاطة من فمه ليقضم قطعة منها، ويرطب تجويف الثرثرة والطعام..اللاعب يكور لسانه في فمه.. فنجان القهوة في يد طبيب الأسنان يريِّق بها أسنانه المنخورة، جاء إلى المقهى على عجل،أغلق عيادته بابتزاز عجوز متهدمة الفم،وطلب منها الدعاء لربها حتى ينتصر الفريق الو؟؟؟؟..كوب الشاي في يد المحامي لدى محكمة (العدل دوما)،يدنيه من فمه المفتوح.. أغلق مكتبه ولم يراجع مرافعته ليوم الغد، المباراة ستنطلق، وعليه أن يحجز له كرسيا في (مقهى الشعب).. غدا يمكنه تسوية القضية مع القاضي(ة)، المهم انتصار الفريق الو؟؟؟؟.. الكاميرا تقترب من وجه اللاعب وتقرِّبه حتى صار رأسه أكبر من رؤوس الجالسين أمام الشاشة.. فمه يكوِّر لسانه، قبالته يجلس ممثل الشعب وعضو البلدية في مجلسها الموقر جدا وسط الجمهور ليشاركه فرحته(الوحيدة).. لا يحسن أن يتخلف ممثل الحزب( الجمهوري الإسلامي الاشتراكي الديمقراطي جدّا الوحدوي البربري... قيد التأسيس) عن هذه المناسبة العظيمة،بل هو يحتسي عصيرا ويقف في الجمهور مشجعا..الجميع أيديهم تسعف أفواههم المفتوحة..أعينهم على اللاعب المحبوب،معبود القاعدين،معشوق الفارغين..على التماس رمى بقارورة الماء واستلم الكرة ليستأنف اللعب، ومن فمه أخرج ما كوَّره .. بصقة مدوية التقطتها الكاميرا وأرسلتها عبر الأقمار الصناعية إلى الجمهور المحترم جدًّا: تفووووووووووه...!
وقال المعلق بخمسين قدما:الجمهور يستمتع بهذه الدقائق الأخيرة الرائعة من عمر الشوط الأول، ويتابع وقائع هذه الملحمة التاريخية... قام الجالس على يمين''شعيب لعمش'' وأقسم مراهنا: سنربح المباراة في الشوط الثاني والهدف سيسجله بغل الرهان،ولمّا وقف متحمّسا دعس قدم شعيب..
ـــــــــ آآآآآي ..
ولم يعتذر المتحمس لبغل الرهان لأنه لم يسمع الآآآي التي غمرها الهتاف:وان تو ثري فيفا لالجيري.. وان تو ثري فيفا لالجيري وان تو...
تكورت الكريات الحمراء،والبيضاء في ملعب البلازما،وبلغت رأس شعيب المحشش فقام من مكانه وأمسك كتف رجل لم يتبينه في ظلام (مقهى الشعب).. اسمع يا هذا لقد سحقت قدمي.. والله لن يسجل لاعبك الهدف،وإن فعلها فامرأتي طالق! يتخبط كالأعمى قال شعيب لعمش متمتما.
ـــــــــ امرأته طالق إن لم يسجل .... أسمعتم؟ واستدار نحو الجمهور المكدس في (مقهى الشعب).
كالأعمى قال شعيب لعمش متحديا المراهن على بغله:
ـــــــــ لن يسجل قلت لك،والرجَّالة شهود(يقصد ـــــ والله أعلم ـــــ المحشورين في المقهى من غير أولي الإربة في الحياة).
ـــــــــ واش تفهم أنت فلفوطبول،روح تبيع القرنون،خاطيك يا خو!
ــــــــ أنا خاطيني؟ أنشوفو أشكون فينا الراجل،مرتي طالقة إذا سجل هذاك الجوُّور ديالك،هذاك... (وقال كلمة مشفوعة بلفظة تخجل منها البذاءة).
تمريرة ممتازة قال المعلق بخمسين قدما، قاطعا بصوته الخصومة والرهان إلى حين.. الكرة وسط العالم المحشور في الشاشة تتلقى الصفعات على خدودها غير المعروفة،واللكمات بالأرجل.. وقال أستاذ محب للكرة في آخر المقهى المحشور عن بكرة أمِّه بأكداس البشر:نقول ركل ولا نقول لكَم.. وعلق عليه تلميذ قديم يكن له كل أحقاد الغباء للنباهة :يا سلام على اللغة العبرية الفسحى!!
سبابة شعيب لعمش في تجويف أنفه تبحث عن شيء موجود..ضربة تماس قال المعلق بخمسين قدما..السبابة تواصل حفرياتها المعرفية، تتجول في التجويف الأنفي..أحس شعيب لعمش بكرة تتدحرج في بطنه.. تحمَّل آلام المخاض..لا يحسن قضاء الحاجة قبل أن يحسم الرهانَ بغلُ الرهانِ.. حليق الرأس ذو الوشم على الزناد الموعود بالأمجاد فيما وراء البحر.. اقترب بغل الرهان من المرمى.. تدحرجت الكرة في بطن شعيب لعمش متجهة إلى مخرجها سدد بغل الرهان .. أوووووووووو تسديدة قوية ولكنها خارج المرمى...تصفيق أكداس البشر كان قويا أيضا ووقوفها سمح لشعيب لعمش بالانصراف لإخراج الكرة التي تتدحرج في بطنه...
أحههه ...تنفس شعيب لعمش النزلاء..اتجه إلى مصدر رائحة الارتطامات،وهناك أضاف مولودا جديدا احتفلت به جماهير الذباب..وعزفت له نشيدها الوطني..
سبقته الرائحة إلى كرسيه..اقتعده..وتلاحقت مواكب الروائح..رائحة بخار القهوة والنعناع،والشاي، رائحة العرق..رائحة الأفواه النتنة ..رائحة الأقدام..دخان السجائر..قناة لصرف سلفادور دالي من بيضة العالم!
تحسس مؤخرته قبل أن يسعفها بما يسمى كرسيا،وأعاد عينيه إلى الشاشة المعلقة،يده اليمنى مثل اليسار(غير الديمقراطي) تبحثان في جيوب سرواله عن كيس الشمَّة،أخرج كيسا جديدا .. باليسرى كوَّر الشمة ولفَّها في ورق أشبه بورق التواليت..دفع بالتبغ المكور إلى الشفة العليا..أي تحت الأنف!! ياللبلاغة!
الله الله.. يا سلام رأسية ممتازة من بغل الرهان والحارس يخرجها لصالح الفريق (غير الوطني)!
تطير الكرة في سماء العالم .. أبصارهم خاشعة ..في المقاهي، في الملاهي، في الحارات ،والبارات، في الشوارع التي علقت بها الشاشات العملاقة (يقولون عنها شاشات عملاقة صمَّمَها رجلٌ كوري ــــــــ وليس كرويا ـــــــ غير عملاق) أبصارهم خاشعة ترهقهم ذلـــة.. الكرة تطير.. المعلق بخمسين قدما يقول إنها الفرصة الأخيرة ..بغل الرهان مع المنتظرين ..يتشوق لرأسية تدخله التاريخ وتخرجه من جغرافية الفراغ والتفــاهة بعدما يشتريه نـاد صغير في أوروبـا( يشتريه!! أي نعم .. لم تعد اللفظة مؤذية ولا يقول عنها المدافعون عن حقوق ما تبقى من حيوان يمشي على قائمتين شيئا)..
تتكور الكرة في فراغ الذهول والانتظار.. وقف المنتظرون لإدخالها أو صدها على رؤوس الأصابع وقفة رجل واحد إنها اللحظة المصيرية من عمر المباراة.. كل الروائح والأصوات تضامنت.. شعارها يحيا الوطن..
غير معقول.. يا سلاااااااااام مش ممكن.. الدقائق الأخيرة تحسم المباراة .. لا مستحيل في الكرة .. أحسنت يا بطل.. هؤلاء هم الأبطال.. هؤلاء هم عماد الوطن.. بفضلهم ندخل التاريخ.. بفضلهم تعود الروح (روح الكلاب يا ولد القحـــــ..).. بــــــفضلهم .. وبدأ التصفيق.. وقف (الجم_ هور) في (مقهى الشعب) يتزعمهم ممثل الشعب..وقفوا على النتن والثرثرة والعناد..سامحينا أيتها البغال؛«سلام على البغل يعلو الجبال،ثقيلا فيكبره الثقلان».
بضربة رأسية أخرج بغل الرهان زوجةَ شعيب لعمش من بيت الطاعة! .. بضربة رأسية دخل بغل الرهان التاريخ.. يا سلام عليك يا بغل.. يسلم راسك يا بغل.. أنزل شعيب لعمش كرة الشمَّة من القائم الأعلى لمرمى النفايات الكلامية ..تفل يمنة التفت إلى يساره .. وقعت صورة المراهن في كُرتي عينيه.. حاول تجنب نظرة الاحتقار والشماتة.. لكن شعوره سبق تلاقي النظرات.. تأكد شعيب لعمش أنه لن ينام في فراشه كالمعتاد!
ربحت الرهان.. ربحت الرهان.. قال له المراهن وقد كشف تدفق النور في مقهى الشعب عن وجهه ..إنه الكابران المتقاعد عمَّار الباتريوت المدعو الهايشة..(اختلف الرواة في سبب كنيته الهايشة).
وان تو ثري فيفا لا لجيري.. بدأ الهتاف ثم تصاعد من حناجر المحشورين في زريبة الشعب مقهى السخف والحقارة.. خرج الشعب من مقهاه يهتف بحياة الزعيم الجديد بغل الرهان ،والكل ينادي:يسقط يسقط الخونة والعملاء.. يا عمار الباتريوتْ معاك معاك حتى الموتْ.. يا عمار الباتريوتْ معاك معاك حتى الموتْ...
*********
في انتظار المراهن
قالوا لها:إن أقرب طريق إلى قلب الرجل هي معدته فصدَّقت ذلك وراحت تُـــــعبِّدُ هذا الطريق بكل ما تجود به أقنية الطبخ،ولمَّا كانت عيون العالم معلقة بالأرضية التي تمشي على خمسين قدما كانت عينا [أم البنين] معلقتين بحصص الطبخ .. واهتدت أخيرا للاحتفال معه بأن جهزت له تورتة بشكل ملعب ،وفي وسطه كرة ..تعرفه محبا للأشكال الكروية.. الكرة لا تفارقه ،وقد تصبَّرت حتى لات مصطبرٍ لذهوله عن البيت وسهره.. يتابع البطولات،وعرفت بعد نوبات خصام وصلح على دخن أن بطولته هي متابعة البطولات فسلمت أمرها لباطل الأباطيل وقبض الأكاذيب!
ولدان وبنت وغرفتين ضيقتين وانتظار سكن، وانتظارات يومية للآيب من رهاناته التي لا تنتهي،في المرة السابقة راهن على سيارته فباعها بثمن بخس بعد أن صبغها بالألوان الوطنية فنزلت قيمتها في السوق والناس لا تشتري إلا اللون الأصلي ولا يقبلون على الألوان الوطنية.. حتى الوطنيون الخلص لا يقترفون هذه الحماقة!
هي تنتظر العائد .. وقد هيأت له العش ومهدت له كل ما يريحه،بالمال الذي وصلها من أبيها المتقاعد.. رتبت هذه الليلة وأصرت أن تكون مفاجئة ؟؟؟؟
المائدة معدة باللذيذ الذي تشتهيه المعدة.. تنتظر الآتي.. أبوكم تأخر اليوم كثيرا تساءلت مع أبنائها.. انتظرت..انتظروا.. ساعة ،ساعتين ،بدأت أصوات الأنصار تخفت شيئا فشيئا إلا من صراخ يصدر من هنا أو هناك ثم تشجعت وهاتفته..
ـــــــ مغلق أو خارج مجال التعرية.
حاولت مرات عديدة..
ـــــ قد يكون هاتف مراسلكم مغلق أو ...
أرسلت ولدها الأكبر يتنسم أخباره.. والولد يعرف أباه حلس مقهى من القسم الأول للبطالة الوطنية.. تفقد المقاهي.. لقد بدأت تغلق أبوابها ولم يبق في الشارع إلا المسطولون وأبناء الحرام والوطنيون جدا!!(لمَ تقسو أيها الراوي على من يحملون الوطن في قلوبهم ويرسمونه على وجوههم..تنبعث منك أيها الراوي رائحة الخيانة)..وجوههم مصبوغة بألوان العلم،سأل الولد عن أبيه..سأل من يعرفونه، ولكنهم لا يعرفون.. النتيجة أذهلتهم عما كانوا يعرفون!
وعاد الولد يجر أذيال السؤال، واللهفة تفتح فاها عند باب العودة.. والعشاء لم يعد طريقا معبدا لقلبه فقد تبخر ومعه قلبه.
بقلق كانت تسأل عن شعيب لعمش؛ زوج ما كان من أيام..ونزلت عليها التعازي (رُبَّمَات).. ربما ذهب مع المناصرين لإحدى المدن القريبة حاولي أن لا تقلقي الصباح رباح.. الصباح ويديرلها ربي حل....هكذا طمأنها المطمئنون..ربما ضاع منه هاتفه.. ربما ..ربما..
العشاء الأخير ..العشاء بالمحشيات وألوان العلم الوطني وبشموع تقول:إن أقرب طريق إلى قلب الرجل تنطلق من قدميه قبل أن تزلَّ بعد ثبوتها!
يا مسهرني!
الفراش بارد في صيف قائظ،والجدران لوحات للحيرة.. والوساوس أسراب في براري الروح..والمخاوف كاهازيج المشجعين في ملعب ما تبقى من عمر...
متى يعود؟
وصارت هذه المتى كبيرة ..كبيرة.. ولم تبق في الخاطر سوى ربما، وقد، وعسى، ولعل.. وكلها أثواب من لغة مخرومة ..
شغلت التلفاز..نشرة الأخبار تتحدث عن الفرحة التي دخلت كل البيوت.. قالت المذيعة جازمة جزمة من جلد ثعلب وهي تبتسم بعشرة تحت الصفر:البيوت كلها تغمرها الفرحة..(من أين لك كل هذا اليقين يا فاعلة).
*******
فتاوى على أعتاب الفيفا
أمرك محير قال الإمام وهو ينصت إلى القصة كما رواها شعيب لعمش
ــــــــ أنقذني أرجوك أنقذ أسرتي.. ثلاثة من أبنائي وأمهم.. حياتي معرضة للضياع..
ــــــــ ومن ألجأك إلى الطلاق؟
ـــــــ الشيطان يا سيدي..
المتهم جاهز ولا يعترض، فالشيطان الذي أغوى آدم بأكل الثمرة المكورة يواصل مهمته بهمَّة عالية متحملا كامل المسؤولية في اللعب بالكرة الأرضية..
وتأمل الإمامُ شعيب لعمش ثم أطرق كمن يبحث عن حل.
قاطع شعيب لعمش شرود الإمام بالقول:
ــــــــ يا سيدي راني جاهل.. جاهل نتاع الصَّح ما نعرف فالدين غير ربي غفور رحيم..
ـــــــــ غفور رحيم هاه..تحسب ربي يلعب معاك الفوطبول..
ولم يقل له الإمام إنه صلى المغرب وحده وبالكوثر،ثم هرول إلى (مقهى الشعب) كما قال الله :انفروا خفافا وثقالا..ولم يفوت رأسيات بغل الرهان..ولم يقل له أن القصة فيها بعض التفصيل أخفاها شعيب لعمش..وحكايات شعيب لعمش دائما لم تضبط من مصادر محايدة..وكثيرا ما يبتلعها بحر النسيان.
ــــــــ وكيف تجعل رباطا مقدسا عرضة لأرجل لاعبي الكرة؟
وبدت له الجملة طويلة فيها أرجل، وعارضة، وكرة، ورباط، ولم يفهم شعيب ما قاله الإمام ولم يسأله خوفا وطمعا.
ـــــــ سأنظر في قضيتك،ارجع الأسبوع القادم ولكن احذر أن تقرب زوجتك
ـــــــ حاضر سيدي ..حاضر،وشعر لأول مرة أن ما فعله يستحق اسم :قضية.
مثل تلميذ مطيع كان شعيب يسيد الإمام،وينتظر ما يحكم به في شأنه قضيته.
انصرف غير مقتنع بالعودة إلى بيت لا يقرب فيه زوجته.
*****
ـــــ سأدلك على إمام عنده الحلول لمثل مشكلتك..
اتسعت عينا شعيب لعمش على مصراعيهما وهو يسمع قول صاحبه عباس المدعو الذبَّاح
ــــــ أصحيح ما تقول؟ .. أين هو؟..ما اسمه؟
ـــــــ أي والله..اسمه..اسمه نسيته ولكنهم ينادونه: العنعان
ــــــ العنعون دلني عليه.
ــــــ قلت لك اسمه العنعان.. ولكن احذر أن تناديه بهذا الاسم هو يفضل الشيخ.
*******
لا أدري ما أقول يا شيخ.. أغواني الشيطان لعنة الله عليه..
وقال الشيخ العنعان وهو يمسِّد لحيته ويسوي كوفيته الحجازية:كيف طلقتها؟
ـــــــ في لحظة غضب راهنت على الفوز بالمباراة وكان الرهان طلاق زوجتي.
ـــــــ ألم تجد غير الطلاق...
ــــــــ فلتة لسان يا سيدي.. أعماني الغضب..(تجنب اتهام الشيطان هذه المرة..)
ــــــــ استغفر الله.. استغفر الله.. استغفر الله..
وراح العنعان يستغفر ويحوقل ويهلل وشعيب لعمش مطرق ينتظر نهاية الاستغفار.
ــــــــ وخسرت الرهان ؟ واش عمبايلك الزواج باري سبورتيف(أتظن الزواج رهانا رياضيا)
ــــــــ كما ترى سيدي.
ــــــــ وماذا تريدني أن أفعل لك؟
ــــــــ قالوا لي لا حل إلا عندك يا شيخ أريد حلا..حلا سريعا لورطتي يا سيدي..
ــــــــ لا توجد حلول سريعة ..راك غالط ماش كي دخولْ الحمَّام كي خروجو راك غالط.
انقمع شعيب لعمش من كلام الإمام..
ــــــــ وكيف طلقتها؟
ــــــ لم أفهم؟
ــــــــ هاه .. قوانين الكرة تعرفها يا سي ..يا سي..كيف سماك الله؟
ـــــــ شعيب لعمش يا سيدي. شعيب لعمش..لعمش..وأراد أن يضيف:المدعو العريان لكنه احجم
ــــــــ قوانين الكرة تعرفها يا سي شعيب والعقد الذي يربطك بزوجك تجهله ..ولا تعرفه إلا بعد أن ركله البغل..
نزلت الكلمات باردة على رأس الأعمش..أو عريان الرأس فلم يعد يعرف رأسه من رجليه..
ــــــــ قلت لأحدهم وأنا في حالة غضب: والله لن يسجل لاعبك الهدف،وإن فعلها فامرأتي طالق! لم أكن أعقل ما أقول..
هل تصلي؟
كان السؤال محرجا لشعيب لعمش لكنه تمالك نفسه ثم أجاب:صلاة القياد الجمعة والأعياد.
ــــــــ ومن تصاحب؟
ــــــــــ ماذا تقصد؟
ــــــــــ أصدقاؤك؟
آه .. كي تبيب لا صديق لا حبيب.. ثم أضاف:الكدح لم يترك لي فرصة للصداقة..
ــــــــ غريب ..أليس لديك من تثق فيه؟
وتساءل شعيب لعمش في نفسه: لماذا يسألني كل هذه الأسئلة..ولكنه وجدها فرصة يستعطف بها الإمام:ثقتي في الله كبيرة وفي شخصكم الموقر..
تنحنح العنعان ثم وعظه:
ـــــــــــ يتوجب على المرء أن يتحرى مجالس الصدق،ويكثر من الاستغفار ويبتعد عن رفقة السوء،فعن علي ابن أبي طالب أنه قال: وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ.
ـــــــــ وما معنى ذلك؟
لا عليك يمكنك العودة إلى زوجتك غدا ولكن عليك أن تكسوها وتقدم لها هدية.
وأخرج شعيب لعمش يده من جيبه سخية للمفتي لقاء صفارته التي أعلنت أن طلاق شعيب لعمش باطل وما كان إلا تسللا من إبليس اللعين ..وانزلقت ورقة النقد في جيب قريب من قلب العنعان وكان يتمنع راغبا..
خرج شعيب لعمش منتشيا بانتصاره الفقهي..
*******
اعترافات عارية
عندما تلقى شعيب لعمش ركلة على مؤخرته وأتبعها الدركي بصفعة على قفاه تهاوى على الأرض وتكور كالجنين واضعا ركبتيه عند صدره ويديه على وجهه يتقي بهما سعير الإمداد بالركل والصفع..
ـــــــ ابن الكلب تحسب الدولة غافلة على صنايعك..هـــه
"إنتَ فين والكلب فين"
كان يود من كل ما تبقى من قلبه أن يكون ابن كلب حقيقة لا بالشتيمة فحسب،وعندها سيعطى له الحليب في إناء وبقايا الطعام ومأوى وسينادى:سي كلبون...
ــــــــ تشتم الوطنيين أيها القذر!
لم يفهم شعيب لعمش عمَّ يتحدث الدركي.. تلاحق الضرب من كل جانب ولم يذكر أنه شتم أحدا في حياته لقد شتمه والده أيام كان ربيب زوجته،وشتمته زوجة أبيه..وشتمه المعلم حين علَّم أقرانه صيغة التصغير بضرب المثال باسمه:كلب كليب، هر هرير،رجل رجيل، شعب شعيب..وانفجر زملاؤه ضحكا فانتقم من المدرسة هاربا ثم تلاحقت الشتائم في مساره النضالي فنال أوسمة الشتم في كل مساره المهني شتموه لما عمل خضارا ، ولما عمل نجارا شتموه ولما عمل بناء...شتموه أيضا..ونياشين الشتم معلقة في بلازما دمه..ومسامات جلده..
ــــــــــ من هم الوطنيون يا حضرات؟!!(وكل ذي بزة عسكرية في عرف شعيب لعمش هو حضرات).. أنا لم أشتم أحدا في حياتي...
ــــــ ستعرف من هم في طــــــيز أمك.
ودَعَّه فارتطم بالحائط.
(أنا شعيب لعمش ابن فلان وابن فلانة المولود بتاريخ...."تاريخي مالي تاريخ إني نسيان النسيان"..القاطن بحي الشهداء..بمدينة.. والحامل لبطاقة التعريف الوطنية رقم... الصادرة عن دائرة .... بتاريخ... أقر بشرفي!!!! بصحة الأقوال المنسوبة لي وعلى هذا أوقع وأبصم...حرر بخفارة الدرك الوطني بتاريخ ... )
ــــــ وَقِّعْ.
لم يسأل شعيب على ماذا يوقع وما هي الأقوال المنسوبة إليه كان رأسه مجمع أعاصير وآلام، وكان خده الأيمن قد ارتفع أمام ناظريه فلا يرى إلا وديان نمل أسود تمرح على ورقة بيضاء.
بين السبابة والإبهام ارتجف القلم بخربشة سميت:توقيعا.
****
في قاعة الاستقبال الضيقة لخفارة الدرك كان الناس يحتشدون عندما جاءت أم البنين..بادرها الدركي قائلا:
ــــــــ واش أنت تاني ضربك شعيب لعمش...
لم تدر بما تجيب لقد أخرصها السؤال
ـــــــ جئت اسأل عن..
انصرف عنها الدركي قبل أن تكمل جملتها فقد جاءه النداء من داخل الخفارة
مسطولون...لصوص..متخاصمون.. زناة الليل..سكارى بلا ترخيص حكومي.. مشبوهون.. مشاريع إرهاب...انحشر الكل في قاعة الانتظار والدرك يدخل من يشاء في استجوابه ويؤجل من يشاء..
إلى جانب هؤلاء جلست أم البنين منتظرة إبلاغ شكواها..قال أحدهم لأحدهم وهو يكشف عن ابتسامة صفراء:ماكانش راجل.. لو كان أنا لي في بلاصتو نهبطلو السروال..
طأطأت أم البنين رأسها من وقع السروال الهابط والكلام الهابط
ـــــــــ وعلاه؟ ياك هو لاعبها زعما يفهم فلفوطبول ويحل على فمُّو..عمبايللو اللعب مع الباتريوت ساهل
ـــــــــ شفت يا خو عمار الباتريوت كي رخصو روَّح بلا مرا
ـــــــــ بلّعو (اسكتوا)..جاءهم الصوت من داخل الخفارة.
ـــــــــ واش صرا؟ تساءلت أم البنين وهي تلتفت إلى سيدة مسنة بجانبها.
ـــــــــ لاه ما سمعتيش يا بنتي البارحْ في الماتش بين...
وقاطعها الدركي وهو يدعوها إلى الدخول،وبقيت أم البنين في حيرة من أمرها ما الذي لم تسمعه،واستأنف نازع السروال بالكلام حديثه بصوت خفيض:
ـــــــــ شوف الضربة نتاع الباتريوت هي لي تخلصنا.. الباتريوت يدُّو طويلة وأحنا يعرفنا مليح المهم تعرف كيفاه تحشيها للجدارمية (الدرك) احفظ الميم تحفظك..
ـــــــــ وعلاه ياك أحنا لي خلصنا شعيب منو لو كان ما حنا كان راح يقتلو
وقعت كلمة شعيب في أذن أم البنين فأرادت أن تسأل المتحدث ولكن حياءها صدها عما همت به.. والمتحدث هو نازع السروال بالكلمات ولو لم يسكته الدركي من داخل الخفارة لنزع بلسانه ما تبقى من ثياب..
ـــــــــ شفت يا خو.. الباتريوت واحد ما يقدرلو.. حتى المير ما هدر ولا كلمة كان كي الهجَّالة.. الباتريوت وحدو حل المشكلة..
****
أودعت شكواها لدى الدرك...
أخبروها أن شعيب لعمش المدعو العريان ..قد وضع رهن الاعتقال حتى ينظر في أمره..
لم تفهم ..استفسرت من الدركي الذي سجل شكواها..لم يعطها تفسيرا مقنعا..قال لها أن الشاكين بشعيب كثيرون..وأنه أحدث شغبا في مقهى الشعب..وهو رهن الاعتقال..
يقول العارفون بشعيب لعمش :إنه اختفى..ولا أحد يعرف مصيره.. وزوجته جادة في البحث عنه..هي لا تعلم بقصة طلاقها..ولا تدري أهي أرملة ..أم مطلقة..
القصة انتهت هنا..هي تتكور..والراوي متهم بتزييف الحقائق والتحامل على الشخصيات..الجميع يريد رد الاعتبار..لابد من راوٍ جديد..لاستئناف قصة الهايشة الذي قضى على مستقبل شعيب العريان..
.............
لم تنته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد العالي زغيلط
أستاذ بقسم الأدب العربي جامعة جيجل/الجزائر