أخي مصطفى:
تحية مصبوغة بشفق صهيل الحياة الوثابة النابضة.
تحية مشفوعة بغسق النزول نحو الاحترار والالتهاب والتوقد، نزول الضياء في هاوية قيعان البحار والمحيطات، التي تحتجز بقايا الرُّوح، وتخبئها في ظلمات تتكدس فوقها ظلمات.
تحية رائقة في حزنها المخضل بالبريق والوهج، صافية كما عيون الأيائل، نقية كما أرواح المؤمنين الراقصة بما ترى ولا نرى، تحية حذرة كما عيني الجؤذر المصفوع بوثبة لبؤة ترز عيناها شعاعًا من جوع متمكن بأحشاء أشبالها.
تحية أرجو أن تذكرها جيدًا، في الأيام القادمة.
أخي:
قد لا تصدق، وربما أنا لا أصدق، أو بتعبير يميل نحو الاعتراف بواقعية ما، أو خيال متسع ممتد امتدادَ التوسع الكوني الذي ينحو نحو اللانهاية، وربما يتجه نحو سَمِّ الخياط؛ ليكون هناك عصيًّا على الاكتشاف والمعرفة: أنني لا أعرف لماذا أكتب هذه الكلمات، ولماذا اخترتك لتكون بطلَها ومتلقِّيَها وصاحبَها ومحورَها!
هنيهة هنيهة، ثانية ثانية، لمحة لمحة، طرفة عين وطرفة، من هذا وذاك وتلك، تتكون النفس، بتصاعد وتواصل وتسلسل، كما الأشياء كلها؛ لتتكون الروح الفياضة النابعة من مكان مجهول في الجسد، أو في النفس، ويقال: إنها تتركز في الرقبة، وتحديدًا في مكان ما بعالم الفراغ الساقط بالثقوب السوداء، بتعبير أدق الجواري الكنس، التي تحيط بالحنجرة، قالوا لنا ذات يوم: إن التوبة تُقبَل ما لم تصل الرُّوح مساحات الغرغرة، كبِرنا وعرفنا صدق القول من نبيٍّ كريم، أمَرَنا المولى - جل في علاه - أن نصليَ عليه ما أشرق نور، وذبل قمر، وتبدَّل موقع نجم، اللهم صلِّ على محمد صلاةً لا تحيطها كلمات، ولا تحدها جهات، ولا يكون لها حدود أو نهايات، صلاة تفوق الآفاق والآماد، وتتمدد على اتساع الأكوان، وما هو مخفي عنا من اتساع، واقبَلْ منا الصلاة عليه، ما هدلت الجداول للحمائم، وما رقرقت الأنهار لليمائم.
أتَذكُر يوم كنا هناك، في مكان منسي على حافَة الكون المدببة كرأس دبوس مشحوذ ببركان تشكو أحشاؤه من أحشائه، يوم حملنا الأيام ورصصناها فوق بعضها؛ لتكون زمنًا غير الزمن الذي يعيشه الناس، يوم كان أبي يغسل النجوم بعَرقه، ويضخ بالأقمار تعبه ونصبه؛ لتبقى مضيئة حاملة بأعماقها صورة تشبه خارطة الوطن العربي؟ يوم كانت أمي تحشو النور بلهاث متعب مضنًى ملوع؟ يوم كانت تمد يدها نحو حاويات الزهر والورد والشجر فيشج الشوك جلدها، وتسيل الدماء؛ لتغرق الجذور برُوح حياة وحياة؟ يوم كان والدي، والدك، والدنا، أمي، أمك، أمنا، يفتحان غلالات الليل وسدف الظلام الواقب؛ ليستخرجا من أعماقه الداكنة السواد حبيبات النور والضياء؟ أنا ما زلت أذكر ذلك، تمامًا كما أذكر دموعهما يوم كانا يوصلانك إلى السيارة المغادرة حافة الكون المدببة كرأس الدبوس المشحوذ على البركان، أتذكر ذلك؟ يومها كنت تغادر إلى الضفة الشرقية، ليس بعيدًا عن المكان الراسي على حافة الكون، لكنه كان أبعد كثيرًا من مسافات فاصلة بين سموات وسموات، شاهدتك أيضًا تبكي، بكاء عجوز أقعد الزمن كل ما فيها، كنت أخاف عليهما، أمن الممكن أن يَشرقا بالدموع، وتحتجز الروح في مرحلة الغرغرة مرة واحدة؟ وكنت أخاف عليك؛ لأنك شفاف ككأس من زجاج مصقول بعناية لا تضاهيها عناية، كنت قابلاً للكسر والتشظي، التحول إلى نثار متطاير لا يجمع، فكيف لي أن أجمع كل تلك اللحظات التي مر الزمن عليها بممحاة هائلة الإزالة والإخفاء؟ هما تم محوهما، تمامًا كحرفٍ كان فوق صفحة، لا، حتى الصفحة يترك عليها أثر المحو والإزالة والإخفاء، أما هما...
قيل لنا ذات حقيقة، كنتُ يومها بالسجن، وكنتَ أنت بالحجاز: أبوك مات، أحقًّا أبي مات؟ متى؟ كيف؟ أين؟ لماذا؟ منذ أيام أم ساعات أم هنيهات؟
خرجت من السجن، سَرَقَت خطواتي المسافات، لا بد أن أصل لحافة الكون المشحوذة، دخلت الغرفة، هنا كان سرير أبي، وهنا حمالة ملابسه، وهنا كان حذاؤه، وهنا كانت عصاه التي يتوكأ عليها، لو تعلم كم فرِح يوم أمسك بها وشعَر بثقة الخطوة من جديد؟ وهنا كانت أنفاسه، وهنا كانت حبات عَرَقه، وهنا كان شخيره، وهنا كانت بسمته، وهنا كانت دمعته، فرحته، حزنه، كمده، هنا كانت حيفا تنام على ساعده كعروس لا تفك عذريتها، ولا تنتهي ليلة دخلتها، وهنا كانت أحلامه، أتدري كم كان حجم حُلمه؟ صغيرًا إلى حد لا يصدق؛ العودة فقط إلى حيفا، حدقت بالجدران، سمعت حشرجتها المخنوقة، كانت تود أن تقول لي عنه كثير الكثير، سمعتها تهمس بصراخ هز الأكوان: أبوك مات! جاءت زوجتي، لم تلفظ حرفًا، كانت خائفة حتى من أنفاسها، أشارت إلى الزاوية، قالت: هنا على هذه الزاوية مات أبوك، لم يتعذب، غادر الكون براحة، قالت أختي صبحية: هنا... وتوقفتْ، كادت الدموع تُحرقها، وكاد النشيج يخنقها، أشارت بيدها، تفجرت حنجرتها بالعويل المكتوم الحارق، وغرقت السماء بالدموع...
قالت: قلنا له مواسين: سيأتي المأمون قريبًا ليراك، أشاح برأسه وقال: المأمون أبعد من حيفا، ومن طرف عينه سقطت حبات ملح، أتدرى يا أخي معنى الملح بالعيون؟
أخي مصطفى:
قيل لنا ذات نجاح: إنك اجتزت امتحان الثانوية، يومها قيل: إنك بكيت بكاء الخنساء، كنت تنظر إلى المستقبل برعب مزدحم بالفقر والفاقة والذل والهوان، كنت تتحسس القادم وهو يسحب من بين عينيك حلم الجامعة والنجاح، قيل يومها: إنك وقفت أمام سد من السحر الذي يحجب الرؤى والأبصار والبصائر، جاء إليك، جلس على حافة السرير، بملابسه الضاجة بالعرق، الصاخبة بروائح البقول والأسمدة، بذات الغرفة التي رحلت روحه منها، وعلى سرير لا يشبه الأَسِرَّة، مسح رأسك وهمس بجملة واحدة، قيل يومها: إن أغصان الريحان والياسمين والجوري وفم السمكة تشققت حبورًا وفرحًا، بعدها بأعوام عدت وبيدك الشهادة المجبولة بتعبه وعرقه.... أتدري أنه كان من حقق الحلم والشهادة، ظننت وظننا لوهلة أنه مَن دخل دائرة الزمن الدراسي وتخرج، فرحته كانت أوسع من فرحتك، قيل: إنه أسند ظهره للحائط وبكى.
بين دموع النجاح والفشل مسافة طويلة، طويلة، لا تصدق أبدًا ادعاء المدعين الجالسين على بساط الريح المزروع فوق أرصفة الخيال، والتوسع بالحلم المشدود إلى النصائح، لا تصدق الفلاسفة أو من يدَّعون أنهم امتطوا أسرجة الحكمة والتجربة، فما قاله أفلاطون وأرسطو، قالتْه امرأة كانت تعيش في بقعة من صحراء مجهولة، وما نطق به حكماء التجارِب، نطقتْه أمُّك مرات ومرات، لكنهم جميعًا لم يكونوا وسط الدائرة التي تضيء الكون، أو تشير إلى النجوم، أتعرف جورج واشنطن؟ قال الكثير الكثير عن الإنسان والإنسانية، لكنه كان وهو يقول يمارس ذبح الملايين واستعباد الملايين؛ لهذا رأى العالم في مقولته أهمية، لكن سبارتاكوس، العبد الذي تمرد على روما، ومرغ أنفها في الخزي والعار والهزيمة والاندحار، الذي جمع الآلاف من العبيد على وتر الحرية الشادي بأهازيج التحرر والانطلاق وتنسم الهواء، لم تُجمَع أقواله، ولم يدوَّن اسمُه، أتعلم لماذا؟ لأن من كتب التاريخَ أباطرةُ القتل والجريمة والانتقام والسلخ، وفصل الرؤوس عن الأجساد، قالوا ذات كفر وعهر ما قالوا، وسمع التاريخ منهم ودوَّن؛ لهذا لا أود منك أن تصدق أبدًا أن دموع الفشل مؤلمة أو مدمية، هي لا شك تنبت في مناطق التوتر والغليان والأسى والحزن والكمد، لكنها تبقى الدموع التي تختلط فيها الأحلام بالانهيار، وهي الدموع التي تبكي على ما فات من عدم، أما دموع الفرح، فرح والدك بنجاحك، فإن لها منابت وأصولاً ومواقعَ ومآقيَ لا تتشابه مع ما تعرف وتعهد، قيل لنا ذات غرابة ودهشة: إن الفرح يودي بالحياة، ألم تكن تسمع والدَينا وهما يطلبان ستر الله ورحمته حين كنا ننخرط في ضحك متواصل، كانا يخافان علينا مما تخبئ الأيام لنا ثمنًا سترغمنا على دفعه، ثمن قهقهاتنا وضحكاتنا، فرحته يومها كانت محشوة بألم النصر المؤزر، الذي يذيب الصخر، ويحيل الجلاميد إلى بقايا من غبار لا يتسع للكون ولا يتسع الكون له.
أخي وحبيبي، أيام مضت بعد خروجي من السجن، قالوا لي: إن أبي قد مات، لا أعرف لماذا لم أصدق، ليس برغبة متعمدة، بل بفطرة معمدة برائحته التي كانت تقتحم أنفي، قالوا لي: يمكن أن نأخذك لقبره، رفضت رفضًا لا يستطيع حتى الموت النيلَ منه، صحيح أن الموت يستطيع أن ينال مني، فينال من رفضي، فاخترت ذلك على أن ينال من رفضي قبل أن ينال مني، كنت أشاهده على الشوارع، على الأرصفة، في الأزقة، بين ثنايا عطر الياسمين وليلة القدر، وكنت أشتمه في ضوء الشموس والأقمار والنجوم، حتى أولادي معتصم ولينا، استلت براءة طفولتهم رفضي لموته، كنا نسير يومها ليس بعيدًا عن دكان الصابر، شاهدوه يجلس على مصطبة المسجد، نفضوا أيديهم مني، واندفعوا كسيل من دفق النور يصرخون: سيدي، سيدي، وحين لمسوه واستدار، صعقت براءتهم، وطمرت فرحتهم، عادوا حاسرين أحلامهم ورغبات دفء طفولتهم، عادوا، أمسكوا بأقدامي وهم ينظرون إلى هزيمتهم المروعة، بكيت بكاءً كاد أن يمحق وجودي ووجودهم، بكيَا معي، فبكى الصمت حتى انفجرت حواسه المغلفة بالمجهول، وبكى الصوت حتى اختنق بالصمت، قلت: أحقًّا مات أبي؟ نعم مات، قال الصمت وقال الصوت، لماذا إذًا أراه في كل مكان، في كل زاوية وكل صحو وحلم؟!
قيل لنا ذات حلم: إن أمي سيغزوها المرض، الحيفاوية، أتدري معنى أن تنادَى المرأة بكنية موطنها وأصلها؟ قيل لنا ذات قوة: إن المرأة التي تنادى بالحيفاوية، تحمل في جنباتها مهابة الرجال، ووقار الأبطال، وبصائر الحرائر اللواتي لا يعرفن اسم الخوف والهزيمة، أنت تدري وأنا أيضًا أنها كانت سدًّا لا تستطيع الأمم والحضارات على تواليها أن تأتي بمنعته وقوته وسطوته، كانت ترجف الرجال قبل النساء، وتضرب كما عنترة وأبي زيد مجاميع من الرجال والنساء، دون هيبة يمكن أن تردها من شخص معروف أو قاتل مأجور، مائة ألف لبؤة في لبؤة واحدة، ومائة ألف فهد في فهد، كانت عنترة زمانها، وكانت تغنِّي لأبي زيد قصائد الرجولة والأبطال، كانت كلها في أدق وصف وتعبير: الحيفاوية.
فيها من سمرة الأرض الخصبة المخصبة، وفيها من خضرة الزيتون الدائم التوزع على النسمات كثير الكثير، وفيها من الكرز خجله، ومن الجلنار روعته، تلوَّت على ألسنة العذاب والضنك والضنى، تناوبتْها صروف ومصائب ومصاعب، لكنها، كما السرو والكينا والحور، لم تَخُرْ أو تترك للبوار مساحة في حلمها المتسع لأحلامنا مذ غطَّانا الزغب، وحتى تسمر الشعر في وجوهنا وجلودنا.
قيل ذات ألم وحزن وشجن: إن المرض تسلل كخبث مترع بالدهاء والحيلة، كمنافق يتقن ألوان التقلب والتلون، كحرباء متمرسة في الْتهام الانتقال من لون إلى لون، ومن قاع إلى قاع، ومن سموق إلى سموق، قيل لنا ذات انهيار: إن الوحوش الضارية المتخفية بعدم الرؤيا قد نالت من الحيفاوية، غيَّبتْها عن الوعي والوجود، أعادتها إلى الوعي والوجود، عادت وغيَّبتْها وأعادتها، أقعدتها عن الحركة، بريق العينين انطفأ مرة واحدة، تسللت اللبؤات من إهابها لبؤة خلف لبؤة، كانت السماء تراقب من أعين الكواكب المطفأة، وكانت النجوم تعلن استحياءها عن رؤية الحيفاوية طريحة فراش وكرسي متحرك.
قلت لها ذات حسرة: دعيني أخرجك لباب البيت الذي كنت تعشقين، قالت في لوعة، والدموع تنهل كغدران صافية من بلور متأنق، لكنه مشعور ومشظى: طنيب عليك يما ما تخرجني من غرفتي، اه وألف اه يما...آه ه ه ه ه يا حيفاويه، كم كنت تنازعين الشوق بالكبرياء، والاشتياق بالعزة، لن أخرجك، كوني على ثقة بأني لن أفعل، لن أضعك على حافة الطريق الذي كنت تناجينه وتسامرينه، رغم معرفتي يقينًا بشوقك المدمر للتواصل معه كما الأيام الخوالي، هو أيضًا ناداني، سألني ذات فقد: أين الحيفاوية؟ قلت: على مهد المنعة والقوة في مكانٍ ما من ذرات هذا الوجود، استغرَبَ، أفحمتْه الدهشةُ إلى حد سماعي صهيل صمته وسكوته.
ذات ليل، جاء الطبيب أحمد السيد، وجاء الطبيب أحمد الجيوسي، قالا لي: لا تنم الليلة، ابق بجانبها، لن تعيش حتى الصباح، عوت الرياح، ونبحت السحب، ونعق الليل، وتساقطت البوم والغربان، تفسخ رداء الليل عن ألمٍ يكاد يشقق الروح، بجانبها كنت، فاقدةَ الوعي، وكنت فاقدَ الوجود، كتلة متقدة من أشياء مختلطة متلاطمة كنت ذات لحظتها، أختي صبحية قالت: نَمْ قليلاً، ساعة أو سويعة، لحظة أو لحيظة، حملت ذاتي على ذاتي، كنت بحاجة إلى إطباق جفن، أو إلى قليل من ماء بارد.
قبلها بأيام قالت بشوق أين مصطفى؟ عنك سألت، لم تكن بوعيها أبدًا، أنا واثق من ذلك، نادتك من خلال الغيبوبة الرابضة بقضها وقضيضها في كل ذرة من ذرات جسدها، سأقول لك بوحًا لم أبحه من قبل، يومها عرفت أنها تنزل إلى النهاية، وأن المسافة بينها وبين عتمة القبر -التي كانت تخشاها إلى حد الهوس -قد تقلصت إلى درجة الالتصاق والتوحد، كانت تحبك بشكل خاص، كما والدي، وحين نادتْك من الغيبوبة كانت تقصد وتعني ما تقول، ربما كانت تحادث الموت والنهاية، لم أكد أطبق جفني، هزتني صبحية بقوة وهي تكاد تفقد صوتها: أمي، أمي، نهضت كمارد، وما كدت أدخل.
ارتطمت الأكوان، توالجت السموات، تنازعت الغربان والبوم، تناثرت الأشياء، ازدحم الصدر، لم يكن أمامي سوى: الحمد لله؛ هو من أعطى وهو من أخذ، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أخي:
قلت في بداية ذات حياة: تذكر جيدًا هذه الرسالة في الأشهر القادمة، بل يجب عليك أن تتذكرها، ربما أنا وأنت نلتقي في ذات حياة مرة أخرى.
النرويج – مخيم طول كرم