"يُمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلّم اللّغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلّم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكلّ معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة ولا يعتدّ بها لدى القضاء أو غيره."
من قانون الملك فيليب 2 ضدّ الموريسكيين.
في حيّ البائسين في غرناطة قرب ربوة المدينة، كانوا يحملون هويّتين.
كان الموريسكي في المظهر مسيحيّاً اسمه فرناندو، وفي السرّ مسلماً يدعى محمد. وشم اسمه السرّي على بطن ذراعه الأيمن ثم ذرّ عليه دخان الشحم كي لا ينسى هويّته الأولى. وكان قد استعدّ لهذا اليوم كما يستعدّ كلّ محارب. لبس بذلته الخضراء سوّى عمامته ووشّح عنقه بما تبقّى من القلادة الحمراء، وجمع كتبه وأدّى صلاة الخوف. أخفى الوشم بخرقة بالية، تحسّس مفتاحه في جيبه، وردّد القسم أنّه سيبقى وفيّاً لدينه ولغته، وسار وجهة حارة البائسين. وكانت القافلة قابعة في حارة البؤس والأنين في لقاء مع الوداع الحزين. وقف الموريسكي غير بعيد، نظر إليهم وقد غيّمت على وجهه آثار الذعر وأمارات القلق، كان يتنقّل في الطرقات وهو يرنو إلى هضبة الحمراء المنعزلة وأشجار الزيتون المنتشرة وإلى الجمع الغفير. هنا قعد بعض أهالي المدينة يستعدّون مغادرة المكان ووداع الزمان. انسلّ إلى درج غير بعيد ليعلو الجميع ناطقاً خطبته الأخيرة قبل الاختفاء، يلقيها على قلوبهم ترياقاً للهموم ورقية للأحزان وإكسير للسلوان. هنا لفظ نعيه الأخير وودّع الجمع الغفير. ووراء الربوة المتجعّدة كانت تُسمع الطبول وتركض الفرسان وتُدقّ النواقيس.
تطلّعت إليه الأعناق ذاهلة وأصاخوا وكأنّهم في يوم الحشر. وقبل الكلام رمق وسط الحشد امرأة بلباس خرق تحضن رضيعها وعلى محيّاها آثار الذعر والرعب والفزع. كان الوقت انحباس ضوء المساء، وكانت الشمس تنتظر الوداع، وكانت ريح الجنوب تتربّص بالنور الباهت المخيّم على النخلة الرابضة في المكان. آخر خطبة يلقيها عليهم، فالعدو في الدار وهم سكارى لا يدرون المآل. وخلف الربوة الجنوبية ريح المجهول. نظر إليهم ثانية وصاح فيهم صيحته الأخيرة جُرحاً مفتوحاً، كلاماً ولا كالكلام! قال لهم وقد ملأ صدره :
"يا سكان هذه المدينة الخالية والآثار الباقية إنّهم غيّروا لغتكم ولباسكم فاحتفظتم بعقيدتكم في قلبكم. يا جموع هذه الحارة البائسة لقد حان البيْن والفرقة ولا أدري لكم النجاة، وهذه خطبتي الأخيرة أنعي لغة و ما فات، فهاكم منّي هذه الكلمات اليتيمات، بعربية أصبحت في ممات، ضوءاً تحضنونها في فلاة. يا سكان هذا الحيّ البائس، لقد أصبحتم مطرودين فكلامكم صوت وآهات، يمنعونكم من أن تتكلّموا لغتكم وأن تخاطبوا بها حتّى الحيوانات. فما عدت أطيق أنينها والصيحات. فهيهات، هيهات!!"
تزايد واقترب وقع الطبول والنواقيس. اعتقل لسان الموريسكي، أحسّ بانقباض في صدره، فاضطربتْ الحواس، وارتعدتْ الفرائص وأرعشتْ الأيدي ورجفتْ القوائم واصطكّت الركب وتزلزلتْ الأقدام وبلغت القلوب الحناجر. جلس الموريسكي على الدرج، وبدأت القافلة تترك المكان، مودّعة حارة البائسين. فصاح الرضيع في حضن أمّه، أتمم حديثك عن العربيّة وما أنت فاعل بها؟ اشرأبّت إليه الأعناق فانبهر الجمع وانذعر، فتعالت الأصوات والصيحات من كلّ الجهات، حينها جمع الموريسكي كلّ ما تبقّى من قوّة وقال:
"هل تعلمون أنّ العربية مملكتكم وهويّتكم، ودينكم ودنياكم، حلمكم ويقظتكم، ليلكم ونهاركم، سلمكم وحربكم، ولا حياة لكم إلاّ بها، وأنا لا أرى حياة لكم هنا! أضحت لغتكم سجينة يحاصرها الإعصار والإقبار. إنّي أسمعها ليلاً تحشرج وتقاسي لُهاث الموت وقد رنّقت عليها المنيّة، وأراها عند انحباس الفجر ما بين البياض والسواد ترنو إلى السماء وفمها ألف دعاء. سأصعد إلى الجبل إلى جهة الريح حاملاً لغتي، ثغريَ الأخير، أحصّنها وأحضنها في جسدي، أفترشها لحافاً في اللّيالي الباردة. أخفيها في قمّة الجبل حيث تخيّم الصقور والأشباح. أنحتها ليلاً على الصخر، وأذريها في الفلق على الحقول شعراً وأدباً".
سكت الموريسكي وقد تساقطت نفسه غمّاً وأسفاً.
فبدأت القافلة تتحرّك نحو الجنوب يخيّم عليها الضيم والشجو وقد ذُلّت أعناق الرجال والنساء والأطفال وخُزمت أنوفهم وأصبحوا خُضْع الرقاب:
لو تراهم حيارى لا دليل لهم ***علـيـهـمُ مـــن ثـيــابِ الـــذلِّ ألــــوانُ
ولـــوْ رأيـــتَ بـكـاهُـم عـنــدَ بيـعـهـمُ*** لـهـالـكَ الأمـــرُ واستـهـوتـكَ أحـــزانُ
يـــا ربَّ أمٍّ وطــفــلٍ حــيــلَ بيـنـهـمـا*** كـــمــــا تــــفــــرقَ أرواحٌ وأبــــــــدانُ
وطـفـلـةٍ مـثــل حُـســنِ الـشـمــسِ*** إذ طلـعـت كـأنـّمـا يـاقــوتٌ ومـرجــانُ
يقـودُهـا الـعِـلـجُ للـمـكـروه مـُكـرهـةً*** والـعـيـنُ بـاكـيــةُ والـقـلــبُ حــيــرانُ
لمثـل هـذا يـذوبُ القلـبُ مــن كـمـدٍ*** إنْ كـان فـي القلـب إسـلامٌ وإيـمـانُ
ألقى الموريسكي نظرته الأخيرة على القافلة وسار صوب المجهول يجرّ حماره وكتبه علّه يجد مأمناً من البرد ونوراً في الظلام. وفي وسط الطريق توقّف وأدار رأسه، ألقى على قصر الحمراء عند سفح الجبل نظرته الأخيرة، وكانت تنهمر على خدّه الأيمن دمعة ساخنة ابتلّت بها لحيته السوداء، وقلبه يردّد:
تبكـي الحنيفيـةُ البيضـاء مـن أســفٍ *** كـمـا بـكـى لـفـراق الإلــف هـيـمـانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما *** فــيــهــنَّ إلاّ نــواقــيــسٌ وصــلــبــانُ
وكان قرص الشمس في الأفق يغادر النهار، يُلقي بنوره الباهت الأخير على قافلة مترنّحة تغادر أشجار الزيتون والعنب المتلاشية، وهبّت ريح الجنوب فتجمّع سحاب غريب فترى الودْق يخرج من خلاله، برَد ينزل على الرؤوس المنحنية، وكانت أمواج البحر اللّجيّ تُحضّر الانتقال إلى الضفّة الأخرى. ولم يطل الزمان حتّى اختفت العربية!