في مدينة لا يذكرها أحد، ولا تلتقطها الأقمار الاصطناعية، ولا تكتشف بخرائط غوغل، جماعة بشرية ... قل مليونا، أو ثلاثين.
تعيش بين الصحو والحلم، يهيم أناسها في أرجاء المدينة دون ان يعرفوا ماذا يريدون، أو ماذا هم فاعلون، لكن لم يصيروا على هذا الحال إلا بعدما استشار حاكمهم أحد علماء الشعوذة و الطلاميس وأعرب له عن خوفه من أن يؤثر تزايد عددهم في ملاحظة الجوع المتفشي خصوصا بعد انشغاله في عقد صفقات مع شركات أجنبية لبيع محاصيل القمح والفواكه واللحوم. فأشار عليه عالم السحر بفكرة عجيبة وهي أن يستورد لهم من جزر الحشاشين حشيشا جماعيا يستمع إليه ولا يدخن. أعجب الحاكم بالفكرة، ثم جمع أعوانه وخدامه وأمرهم أن يضعوا الحشيش المستورد في مضخات تكبس المسحوق المخدر، ثم تدفعه عبر قباب عالية وفوهات كالأبواق. ما إن طلعت الشمس حتى اندفعت الكميات المخدرة على شكل أصوات ودبدبات، ومع تدفقها هناك من سمعها أنشودة، وهناك من سمعها خطبة، وهناك من إرتهب وإرتعد وجثم على وجهه يقبل التراب. أطل الحاكم من برجه فرأى الناس تتخبط ببعضها البعض جاحظة عيونها دون أن تبصر. هناك من جعله المسحوق نشيطا مشوش الافكار أكثر من عادته، بينما صار البعض عدائيا ودخل الباقي في حالة هلوسة شديدة. عندما يقترب الليل يصعد الحاكم الى المنبر يتزحزح في مقعده ويتنحنح قليلا ثم يخطب فيهم:
أعزائي.. سندي.. وعزوتي..
فيهلل الجميع: يا سلام .... الله الله .. عشت وسلمت ودامت لك الرفعة والحظوة ودمنا خدامك..
يدق دقات خفيفة بمطرقته ليعيد الناس إلى نصابها ثم يسترسل قائلا: إنني ...
.فيهتف الجميع: الله ... الله إنا معك... وخلفك... وقدامك....
فيزيد صدره انتفاخا ويخرج من قلنسوته حزمة نقود يعطيها لعالم السحر اعترافا بجميله، ثم ينزل من على المنبر ويقعد خلفه الحاضرون يحللون ويناقشون مدى فصاحته وزجالته ورجحان رأيه وعلو همته، ويحللون دلالة نحنحته ورمزية زحزحته وطريقة إعتلائه المنبر وسلاسة نزوله.
وبينما هم منهمكون يصدر الصوت من جديد وتهب ريح خفيفة فيقصد كل واحد بيته، بينما الحاكم يعود الى قصره يجد في انتظاره صنوف الجواري والخدام، يأكل وجبة عشاء دسمة ويحلي بفواكه وحلويات مستوردة.
ذات يوم عاد رجل أصم عالم في أمور الصخر والحجر كان قد غادر المدينة صبيا، واتجه ليدرس في مدينة أخرى بعيدة بآلاف الأميال فرأى أحوال المدينة، ولاحظ ركود حالها و غرابة سلوك سكانها واستغرب خلو أسواقها من كل ما هو نافع، إلا جماعات من المقرفصين حول نكات فارغة أو أحاديث متكررة. في المساء صعد الحاكم مرة أخرى إلى المنبر وتنحنح نفس نحنحاته وتزحزح نفس زحزحاته فصاح الجميع: يا سلام .. الله.. الله. استغرب الرجل من أمر السكان وضحك ضحكة خفيفة وقال لواقف أمامه: هل ما نبست به شفتاه مهم لهذه الدرجة؟ أظنه لم يقل شيئا، نظر الواقف إلى الرجل نظرة ازدراء وانتفض من مكانه، وقال: هنا خائن بيننا.... فصاح الجميع.. يعيش الحاكم، يموت الخائن. حاول الفرار لكن الجمع التفوا حوله وشدوا وثاقه وربطوه إلى الشجرة الوحيدة الباقية في المدينة، بينما الحاكم تلفف بحاشيته وفر إلى قصره. ظل الجمع يتدارس أمر الرجل قال البعض عميل... وقال الآخرون مجنون.. وقال البعض إنه خائن وجزاء الخيانة الصلب والجلد وتنكيل العذاب .
سمع الحاكم بأمر الرجل فاشتد رعبه، وأحس بقرب العصيان، واعتبر الأمر شرارة قد تحرق العرش. فقرر أن يخرج إلى شعبه وأن يلقى عليهم خطابا تاريخيا تتناقله الأجيال. صباح الغد تناقلت الجرائد خبر الخطاب، وحلل المحللون ساعات طوال واجمعوا أن الخطاب سيكون فيه استمرار لهنائهم.
ثم جاءت ساعة الحسم وخرج العامة لسماع الخطاب، وبقيت النسوة في المنازل وأدخل الصبيان وأفرغت الأزقة وشخصت العيون وتجمدت الأجساد النحيلة الشاحبة، واشرأبت أعناق الشحاذين على أبواب وعتبات المقاهي لتسمع الخطاب.اعتلى الحاكم المنبر وقال: إن الوضع سيء.. وإن امكانات بلادنا، ورجاحة عقل سكاننا، جعلنا في موضع حسد الحساد. و إن بقينا دون حراك سينتهي بنا الأمر إلى الهلاك. (قالها صارخا)، ثم دق على المنبر دقات قوية زكى قوتها خاتمه الماسي الذي يرسل أشعة أعمت الحاضرين، ثم أردف: سيتطاول أعداؤنا على ما بقي لنا من الطوب والحجر.. إننا أمة عظيمة، إننا شعب مميز، إن أرضنا جنة، وماؤنا رغم قلته شفاء لكل الأمراض . لذا فكرت وقررت ان أجلب حجرا من جيرانستان وعمالا من غرائبستان وأن يتضامن كل فرد منكم بكل قشة من قشاش كوخه، ويقتصد في لقمته وان نعلن حالة تقشف قصوى. أدت قوة الخطاب إلى تعرق جبينه فخلع الفرو من على كتفيه المشغولين بنقوش من الحرير الملون، فبرزت قلادة ذهبية عظيمة الحجم، صمت قليلا ثم قال: حتى ننتهي من بناء البرج العظيم... همهم الكل في صوت واحد : البرج العظيم !!.... أردف الحاكم صارخا البرج العظيم هو حلنا سنحيط المدينة بسور يطاول النجوم، سيحمينا من الأجانب الغادرين الحاقدين.. ثم انتفض من على كرسيه الذهبي وذهب الى قصره تاركا الجمع وراءه يؤكدون ضرورة بناء الصور ويحللون مميزات فترة التقشف الآتية.
ما ان انتهى اليوم حتى هبت سفن عظيمة تحمل العمال الأجانب، واحتلت السماء بمروحيات تحمل المهندسين والتقنيين وفلاسفة البناء وبدأت الأشغال. تقاسم السكان ما بقي لهم من فتات الأطعمة وأعجب الأطفال بفكرة البناء وظلوا متجمعين حول العمال.
في يوم من أيام البناء جاء صبي الى موقع المشروع العملاق فلاحظ صخورا عملاقة، وإسمنتا ممزوجا بالحديد السائل، و اعمدة وخرائط. عالم خاص من الرفع والحط، وأصوات القلع والقرع وأزيز العربات العملاقة وهدير الشاحنات، وبينما هو شاخص العينين حط على خده كائن صغير حرك يده طاردا اياه ثم عاد إليه نظر مسرعا فإذا هي فراشة حقيقية كتلك التي يراها على شاشة التلفاز، قرمزية واضحة الألوان، تبعها راكضا فإذا به لأول مرة يرى ألوان الاشجار العالية الخضراء، عصافير وحشرات بكل الأحجام ... كونا نابضا بتناقض الألوان والأشكال. فقد تعود أن لا يرى في مدينته سوى الأكواخ وبعض قلاع الحاكم وحاشيته، وبسبب اختفاء كل معالم الطبيعة بعد أن تاجر الحاكم في كل شجرة، وباع الزهور زهرة زهرة.. والورود وردة وردة ..لم يكن يعرف عن الطبيعة سوى بعض قصص الجدة. و بسبب غيمة دخان الحشيش التي تحجب السماء قبل زمن من ولادته، صار كل شيء ضبابيا ... كل شيء باهت دون ألوان. أحس الصبي بنشوة غريبة قفز ونط وارتمى على العشب الطري بعد أن خطا خطوات محسوبة خوفا مما قد يخفيه هذا العالم الغريب. أمضى ما بقي من اليوم يركض ويلهو ويشم رائحة الأزهار الممزوجة برائحة صمغ الأشجار والتراب، ثم أحس بالجوع فوضع في فمه بعض الاشياء: شيئا من العشب وبعض الاوراق، إلى أن داق صدفة ثمرة صغيرة معلقة في سدرة شوك. كان للتوت في فمه طعم هائل فلم يذق أبدا مثله طعم، إذ لم يتعود فمه إلا إدخال صنفين أو ثلاث من أصناف الطعام، إلا أنه سمع أن الحاكم يتناول فواكه حلوة ودجاجا ومربى. فكر أن يعود إلى المدينة ويخبر أهلها بأمر الاشجار والتوت والفراش.. لكنه تذكر الرجل المشنوق وسط ساحة المدينة وخاف أن يعلم الحاكم بأمر الطبيعة، فيعود ليبيعها كما باع كل شيء. فقرر أن يأتي صبيحة كل يوم لينعم بعالمه الجديد، عاد الصبي إلى المكان مرارا ومرارا إلى أن جاءت مرة إلتهى فيها باللعب، فلما أراد العودة نهاية اليوم وجد الصور قد اكتمل ومنفذ العودة سد تماما حاول أن يركض على مداره لكنه تعب، وفكرة التسلق مستحيلة. ضرب بيديه الصغيرتين وبكى ، لكن الصور مانع للصوت، ولم ير سوى ظلال بعيدة وصغيرة للمروحيات التي جاءت بالعمال فاتجه نحو المكان الذي تعود اللعب فيه وفكر في كوخ أو شجرة ينام داخلها ليحتمي من البرد مشى طويلا دون ان يجد مبتغاه. فجأة رآى نورا بعيدا خافتا منبعثا كضوء مدينة فقرر أن يلحقه.
إن إكتشاف النور قد يكون صدفة لكن القرار هو المضي إليه والعيش فيه، بينما ظلت مدينة كلخستان معزولة الى نهاية الزمان و لم يسمع عنها أي خبر الى الآن.