سكن الليل وهدأت الأصوات وتاهت الأرواح في غياهب الأحلام. الساعة تدق ما بعد المنتصف والصمت يضرب أطنابه على الربوع، خلا نباح بعض الكلاب وثغاء نعاج جيراننا الذي يأتي من قريب بين الفينة والأخرى. الغرفة يخيم عليها عنكبوت العتمة، ساكنة إلا من شخير أخي الأصغر الممدد فوق فراشه بجواري غارقا في أحلامه، نام كل الناس ونام الشجر والحجر. أما أنا فما رق إلي نوم تلك الليلة، بتّ أتقلب فوق فراشي كنائم على جمر الغضى. تدلت علي عناقيد الذكرى وأفكار تعيسة استباحت حرمتي، وكآبة ثقيلة أرخت سدولها على صدري، وضعت يدي خلف رأسي ورفعت بصري إلى السماء لا أبصر غير ظلام دامس ناشب أظفاره.
اجتاحتني موجة حنان فتذكرت أبي الذي سرقه منا الموت فجأة ذات فجر ولم تحتفظ له ذاكرتي بأدنى صورة أو ذكرى فتملكني الشوق وانتابني إحساس رهيب، فهل احتضنني أبي إلى صدره يوما أو لاعبني ذات لحظة؟ أغمضت جفوني بعصبية وأمسكت رأسي بين يدي وأخذت أعصره علني أتذكر ملامحه أو أستعيد لحظة خاطفة قضيناها معا فأخفقت، حاولت مرة أخرى دون جدوى. فكلما انحدرت إلى غياهب الماضي ينتهي بي التفكير إلى عالم غامض ومظلم كأنني لم أعش فيه قط، أو كطفل صغير استيقظ من حلمه الجميل ونسيه لتوه. قمت واستويت على فراشي وأخذت أبكي كطفل صغير. دموع مالحة هطالة فوق خدودي الشاحبة . بكيت وبكيت وما أشفيت الغليل. هكذا أحيانا ينتهي بي التفكير في أشياء مستحيلة أو بالأحرى شبيهة بالمستحيل فيكون البكاء متنفس تلك اللحظة، تلك اللحظة لا غير.
راودتني فكرة حين تذكرت ذلك الرجل الذي قام الليل يناجي ربه بأن ينعم عليه برؤية أبيه في المنام، حومت الفكرة حول رأسي فقلت مالي لا أفعل مثل الذي فعله فأظفر بما بكيت لأجله، فقد علمونا أن الله يحب العبد المِلحاح، ومن يدري؟
مسحت دموعي، وغادرت فراشي بهدوء تام كي لا أوقظ أخي من أحلامه وأخذت أخبط خبط عشواء وسط العتمة أتحسس الباب بيدي كالأعمى. انتعلت نعالي في الظلام، وانصرفت أمشي الهوينى لأترك الليل في سكونه. هبطت الدرج على رؤوس أصابعي اخترق سواد الظلام الحالك كي لا يحس بحراكي أحد من أفراد عائلتي، مشيت عبر البهو الطويل أتحسس الطريق بيدي عبر الحائط حتى بلغت الحمام، تذكرت ما قرأته في سطور عابرة أن الجن والشياطين تسكن الحمامات وفي الخلاء وتخرج في الليل بعد أن ينام الإنس فارتبك جسدي وأنا أفتح بابه، أوقدت المصباح بسرعة فأعاد إلي بعض الأمان. دخلت وأغلقت الباب ببطء كي لا أصيب أحدهم فيصيبني بمثل ما أصبته به، كما تحكي لي جدتي بأن الجن يعتدي عليك بنفس ما اعتديت عليه. توضأت بماء بارد ثم عدت بنفس السكون وسط الظلام إلى الغرفة بالسطح.
تذكرت مصباحا يدويا بالقرب من وسادتي، خبطت خبط عشواء، عثرت عليه وحاولت أن أوقده فأبى، ثم اشتغل بعدما صفعته صفعتين براحة يدي، وضعته خلفي فوق الطاولة حتى لا تعكسني أشعته، ثم لبست قميصي الأبيض المعلق بمسمار على الجدار هناك، وبسطت سجادتي ثم استقبلت القبلة في خشوع. تلوت ما تيسر من قصار السور وصليت ما شاء الله أن أصليه، ثم رفعت يدي إلى الذي يبصرني في هذه العتمة من فوق السماوات السبع ويعلم بحالي، طلبت منه حاجتي وامتلكت صدري طمأنينة وانفككت عني خيوط القلق.
خلعت قميصي واعدته إلى مكانه، أطفأت المصباح ثم عدت إلى وسادتي انتظر النوم الذي تاه بحثا عن جفوني، ولم تكن غير دقائق معدودة حتى انقض علي وغرقت في أحلامي انتظر أبي ليزورني.
وحين أفصح الصبح، وتسللت أشعة الشمس الدافئة عبر نافذة الغرفة استيقظت على إثرها من سباتي لكنني لم انعم برؤية أبي وما زارني، إلا أنني اطمأننت وأحسست براحة نفسية هادئة ما شعرت بمثلها في صباح آخر.