خطا خطواته الأولى خارج المقهى التي اعتاد التردد عليها، مند مدة، ولا يبرح كراسييها حتى حلول الظلام وأحيانا حتى بزوغ الفجر. زَرَّرَ معطفه الداكن ووضع فوق رأسه قبعة صوفية سوداء من صنع أمه، ثم أطرق عائدا إلى حيث لا يدري.
أخرج من جيب قميصه القطني أخر سيجارة متبقية لديه، تفحصها ببطء وأدفأها بلطف بين يديه، ثم أشعلها بعود ثقاب خشبي وبدأ يستنشق دخانها بنهم وهو يردد بصوت هادئ إحدى أغاني أم كلثوم: "..هل رأى الحب سكارى...". ثم بدا له في أخر لحظة، وهو يهم بفتح باب منزله، أن يتفقد أحد أصدقائه في الحي الجامعي القريب من محل سكناه.
سيارة ركنت في زاوية مظلمة بالقرب من مدخل الحي الجامعي تتقدم نحوها بحذر فتاة في ريعان شبابها، وردة ناطقة بالحياة، تفوح منها رائحة عطر رخيص، تلتحف رداء يحجب وجهها، يختلط سواد لونه بدجة الليل، تضع نظارة ملونة تخفي بها عينيها. لم يكترث كثيرا بما رأى، ربما تطبع مع المشهد أو هي ثقافة غير التي جبل عليها بدأت تنخر عقله وروحه ببطء من حيت لا يعي وجعلته يقبل الأشياء كما أصبحت عليه.
دخل كعادته من غير أن يدلي بأية وثيقة للموظفين، رغم حرصهم على ذلك. كان يتمرد على ما يعتبره قوانين الذل والعار، كان الطالب بنسبة له قانونا يحيا وليس بحاجة إلى من يراقبه. في جناح الذكور صعد الدرج حتى الطابق الثاني تم توجه نحو الغرفة رقم 13، على يمين المراحيض، حيث يقطن محمد رفقة ثلاثة طلاب أخرين كحد أدنى. تردد قبل أن يطرق الباب إلى أن لمح نورا خافتا يتسلل من ثقب المفتاح، تعانقا كأنهما يلتقيان صدفة بعد طول فراق، رغم أنهما نادرا ما يفترقان.
جلس يحتسي الشاي رفقة أخرين إلى مائدة بلاستيكية، ارتشف قطرات، ثم زاغ ببصره صوب صورة غيفارا وضعت مباشرة فوق سرير محمد، واختلس بعض النظرات من الجانب الأيمن للغرفة حيت عُلقت لوحة كُتبت في وسطها أية قرآنية. ارتحل بجسده وعقله إلى طاولة خشبية وضعت قرب نافدة مطلة على ساحة تتوسطها أشجار الزيتون وبعض الحشائش، قبلة لسعداء الحب وأشقيائه. أخد يتصفح الكتب، يقرأ العناوين بتمعن، ينتقل من كتب حمراء سيئة الطباعة لماركس ولينين.. إلى أخرى دينية بأغلفة جميلة وأوراق ذات جودة جيدة .. ثم إلى صور لمشاهير السينما والفن وأخرى لدعاة ووعاظ ... وأشياء أخرى متناقضة تتعايش بسلام فوق هذه الطاولة.
أذن المؤذن فقام الاثنان للصلاة بينما بقي الأخرون منهمكين في لعب الورق. ارتأيا أن يذهبا معا إلى المقصف لمراجعة بعض مواد الامتحانات. من حين إلى أخر كانا يخوضان في أحاديث كثيرة عن الدين والسياسة وعن الكون والوجود...
بعد منتصف الليل بقليل أشار إلى صاحبه مودعا. تسلل بين الأزقة وهو يدندن بمقاطع موسيقية يعشقها. نظر بعينين متعبتين، من السهر المتواصل، إلى طرف الزقاق فلمح من بعيد نفس الفتاة، هذه المرة من غير نظارة ولا رداء. قبلته ثم فتحت الباب وأرسلت له أخرى عبر الهواء، اقترب منهما فلم يستطيع أن يصدق نفسه في حوار مقيت مع الذات. التفتت نحوه فجأة فاختبأ بسرعة خلف عمود الإنارة، قطع الشك باليقين، هي إلهام بكل تأكيد، زميلة الدراسة ورفيقة النضال. أدار الرجل محرك سيارته ومر من أمامه مسرعا. ارتعشت يداه وتصبب العرق من جبينه، ترجل من مكانه بعدما توارت خلف الظلام وبقي هو واقفا وسط الزقاق يتتبع دخان سيارة أستاذه في الكلية في ذهول.