يقولُ أهلُ البلادِ والأمصارِ القصيّة، أنهم رأوا في الليلةِ السابعةِ من شهرِ الجَمرِ بالتقويمِ الهرموسيّ، حمامةً نحاسيّةَ اللونِ تحوّمُ قربِ شرفةِ منزلِ "رُكَيامْ" الأبيض. كانتْ ليلةً شاحبٌ قَمَرُها باهتٌ ضوؤها. وقد رَوى قوّالٌ غابَ النومُ عن جفنيّه ردحاً طويلاً من الزّمن قصّةً إليكمْ نُسْغهاَ:
بعدَ أنْ حوّمت الحمامةُ حول المُنيّة، انتبذتْ مكاناً مفتوحاً على جرفٍ هارٍ، ثم طفقتْ تَشْدُو بصوتٍ رخيمٍ كأنّه صوتُ راهبةٍ في ديرٍ رومانيٍّ قديمٍ، كانتْ الحمامةُ تستديرُ نصف دورةٍ يميناً ونصف دورةِ شمالاً، لتتثاءب بهدوءٍ مُلغزٍ. وأنا مأخوذ بهذه الحال العجيبة، رأيت فيما يرى الحالم، "رُكْيَامْ" تملأ أَزْمَانَهَا وأنْفَاسَها بِهديل الحَمامة ، ثمَّ تُفْنِي ذَاتَها فِي هذه الموجات النورانيّة، فَيفنَي الكلُّ ويبقى هديل الحَمَامة مُسْتَحْكِمًا. طارت الحمامة واستقرتْ على سياجِ الشّرفة المعشّق بماءِ الذهب والمزخرفِ بأزاهير حدائقِ الزهراء الساحرة.
تلحفتْ ركيام بمرقعتها الباليّة، وانزلقتْ كقطرة ماءٍ بلوريّة صوب الهديلِ، لما رأت الحمامة تنتحبُ وتبتهلْ أحجمت عن الإقدامِ بضربٍ من التوجسِ الحذرِ. فجأةً أطرقتْ الحمامة رأسها ونبستْ بحروفٍ النّور التي لا يفهمها إلا أديبٍ أريبٌ أنهكه الوصبُ.
الحمامةُ: سلامٌ على الأحياءِ الأمواتِ الذينَ إذا مسّهم الوفاقُ افترقوا؟
رُكْيَامْ: وعليكِ السلامُ ، من أنتِ بحقّ السماءِ؟
- الحمَامَةُ: أنا سرُّ الأسرارِ، أحجيّة المغدورينَ، في أَخميم ولدتُ وفي عَيْذاب تخلّقَ نوريِ من نورِ المطرِ، في قلبِي تنامُ الأرضُ، وفي روحي يتعذّبُ البشرُ، جئتُ لأبعثَ ميتاً ضاعَ حين أحبَّ النارَ في عينينكِ.
- رُكْيامْ: وهل هناكَ من أحبّ النارَ في عينيّ حقيقةً؟
- الحمامة: كانَ هناكَ فتى لم يبلغْ سنَّ الفطامِ، اسمهُ مطرْ، أحبّك فماتْ.
- رُكيامْ: لا أدري لماذا كلّ من يحبونني يموتون؟
- الحمامةُ: لأنكِ قاسيةُ الطباعِ خشنتُها، والحبُّ يا بُنيّتي لا ينمو بغير ناعمِ الكلمِ...
- رُكيامْ: وكيفَ أستعيدُ حِبّيَّ الذي ماتَ فيَّ؟
- الحمامة: انتزعي الريشة، تلك الريشةَ الحمراءَ المشعةَ في جَنَاحي الأيسرْ، وخُطّي على جبهة السماءِ اسمه، اسم الحِبِّ حِبّك وسيؤوب إليكِ، لكن لا تتكلمي معهُ إلا إيماءً. وإذا أخللتِ بالوصيّة تبدّد الكائن والمكوّن واصطلما معاً، فتغيبُ عنكِ كينونتهُ وتبقى مخاييّله راشحةً بالأصداءِ الميتة والتراجيع الموؤدة.
انتزعتْ ركيامِ الريشةَ الحمراءَ بلهوجةٍ، وشرعتْ تكتبُ اسمَ مطرٍ على جبهة السماءِ، فآب مطرٌ بدونِ مطرٍ...توجسّت ركيّام، اعترتها رِعدةُ بردٍ شديدة، بينما الدّمعُ ينحدر من مقليتيّها معرجاً على شفتيّن حمراوين كجرحٍ دقيقٍ.
حين يمّمَتْ وَجْهَهَا شطرَ بوابةِ الشرفةِ رأتْ مطراً واقفاً وهو يمسكُ في يديهِ اليسرى وردة إِلِيسْ الأرجوانيّة تسيلُ دماً...