من وسادةِ الغرفة المعتمة ذاتها، شرعَ ينطلق .. في عبابٍ يتفتحُ، يتداعى، ولا ينتهي .. يسرعُ كومضٍ، أو يبطئُ للتأمل، يدققُ بغرابةِ ساكنِ دنيا، يستدعي غسقا، وينيرُ شمسا صاخبة، يطوي الزمن، فيأتي بمن ذهب في لمحة بصر، وبضربة طَرفٍ يغيّر الأمكنة، يحادث راحلين ملأوا رأسَه بهم، من أبي النُواس بعمامتِه، يحدِّقُ، ويهامسُه، إلى الحجاج يأمرُ، فيقومُ سيفٌ، ومنجنيقٌ يلطم .. ويرى رابعةَ تمزجُ اللبن بالعسل، وتأتيه بقدح، وعمرا يغمزُ بعينيه، ثمَّ يقهقه، وهو يمضي في دربِ أرضٍ قاحلة ...
وإن شاءَ يعودُ، فيأتي ببستان أبيه المسروق، وبجولات قتالٍ فاشلة، وبرحلة مغادرة، وقد وطأ البيوتَ خلقٌ أتوا من خلف المحيط ..
ويهزّ رأسَه، فيسقطُ له رأسُه أمّه المغادرة، تستحلبُ ضحكتَها، وأيضا عويلَها أوقات الحرب، والقذائفُ تهزّها ...
الوسادةُ طريقُ سَفَر ... الوسادةُ بساطُ ريح .. الوسادة سعدُه .. الوسادةُ لعنة العمرِ ..
الليلة غافل الأرجاء وانطلق .. مرّ بغيمةٍ؛ فامتطاها، جعلها فرسا تَخبُّ، والغيومُ في العتمةِ باتت جبالا تنداحُ، وكانت أيضا بطاحا، كانت شطآنَ .. الليلة كان سيد المبتدأ والمنتهى .. صال، وجال، هوى، وطار .. مرّ بيبابٍ؛ قطعه، وعبر قيعانَ، طارد جنيّاتٍ، وطاردنه، وهو يدخلُ، أو يتنحى، كأنّه سهمٌ مذيل بنار .. تحت جفنيهِ يغيّرُ الألوان .. من اسودادٍ إلى ازرقاق .. ثم إلى بنفسجٍ يحلو .. ومع موسيقا ناعمة ترافقه؛ صعد، وهوى .. عبر، وخرج .. من دهليزِ أثيرٍ، إلى دهليز .. ومن طبقةِ أخضرَ إلى طبقة عندم ..
وظلَّ مُلِّحَا؛ تدفعه الوسادةُ، حتى كان نورٌ، يُرى، ولا يُرى، وذراعٌ تشيرُ، ولا تشير، والمكانُ يشّعُ، ويتسعُ؛ وهاله الأمرُ، فسجد على الوسادةِ، كأنّه يسجدُ هناك، وهتف في الفراش، كأنّه يهتفُ هناك:
تعبتُ مولاي ....